العلماء ومنح الحكام
الإثنين07 محرم1435 الموافق11 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
د.محمد أبو صعيليك
اختلف العلماء في قبول منح الحكام أو أعطياتهم، تبعاً لاختلاف آرائهم في ذلك، لذلك كانوا أقساماً هي:
القسم الأول: كان يرفض أخذ المال من الحاكم، ويبتعد عنه، ومن هؤلاء أبو حنيفة وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وعمرو بن عبيد والطبري وابن المسيب وأضرابهم؛ لأنهم أعطيات الحكام ومنحهم، كانت يومئذ بمثابة امتحان يجريه بعض الحكام للعماء، لمعرفة مقدار الولاء لهم، وهذا ما نذكره كما يلي:
فقد روى ابو طالب المكي في مناقبه «أنه أرسل إليه أبو جعفر المنصور بجائزة عشرة آلاف درهم وجارية، وكان عبدالملك بن حميد وزير أبي جعفر فيه كرم وجودة في الرأي، فقال لأبي حنيفة عندما رفضها: أنشدك الله، إن أمير المؤمنين يطلب عليك علة، فإن لم تقبل صدق على نفسك ما ظن بك، فأبى عليه، فقال الوزير: أما المال فقد أثبته في الجوائز، وأما الجارية فاقبلها أنت مني، أو قل عذرك، حتى أعذرك عند أمير المؤمنين فقال أبو حنيفة: إني ضعفت عن النساء وكبرت، فلا استحل أن أقبل جارية لا أصل إليها، ولا أجرؤ أن أبيع جارية خرجت من ملك أمير المؤمنين».
وكان يردّ هداياهم كذلك، وقع بين المنصور وزوجه الحرة شقاق بسبب ميله عنها، وطلبت العدل منه، فقال لها: بمن ترضين في الحكومة -التحكيم- بيني وبينك؟
قالت: بأبي حنيفة.
فرضي هو أيضاً، فأحضره وقال له: يا أبا حنيفة، الحرة تخاصمني فأنصفني منها.
قال: ليتكلم أمير المؤمنين.
قال: يا أبا حنيفة، كم يحل للرجل أن يتزوج من النساء فيجمع بينهن؟
فقال: أربع.
قال: وكم يحل له من الإماء؟
فقال: ما شاء ليس لهن عدد.
قال: أيجوز لأحد أن يقول خلاف ذلك؟
فقال: لا.
قال المنصور: قد سمعتِ.
فقال أبو حنيفة: إنما أحل الله هذا لأهل العدل، فمن لم يعدل أو خاف ألا يعدل؛ فينبغي أن لا يجاوز الواحدة، قال الله تعالى: }فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة{ (النساء: 3)، فينبغي أن نتأدب بأدب الله، ونتعظ بمواعظه.
فسكت أبو جعفر وطال سكوته، فقام أبو حنيفة وخرج، فلما بلغ منزله أرسلت إليه زوج المنصور الحرة خادماً ومعه مال وثياب وجارية وحمار مصري، فردّها وقال للخادم: أقرئها السلام وقل لها: إنما ناضلت عن ديني، وقمت بذلك المقام لله، لم أرد بتلك تقرباً إلى أحد، ولا التمست به دنيا.
أما سفيان الثوري، والفضيل بن عياض، فقد وضح موقفهما هذا برفض العطاء حين سقنا حادثة جوابهما عن سؤال هارون الرشيد في فصل الحكام يسألون العلماء.
أما عمرو بن عبيد، فقد دخل على أبي جعفر المنصور يوماً، فلما نصحه ووعظه وأراد الخروج؛ قال المنصور: قد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم.
قال: لا حاجة لي فيها.
قال المنصور: والله تأخذها.
قال عمرو: والله لا آخذها.
وكان المهدي ولد المنصور حاضراً، فقال: يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟
فالتفت عمرو إلى المنصور وقال: من هذا الفتى؟
قال: هو ولي العهد ابني المهدي.
فقال: أما والله لقد ألبسته لباساً ماهراً من لباس الأبرار، وسمّيته باسم ما استحقه، ومهدت له أمراً أمتع ما يكون به، أشغل ما يكون عنه. ثم التفت عمرو إلى المهدي فقال: نعم يا ابن أخي؛ إذا حلف أبوك حنثه عمّك؛ لأن أباك أقوى على الكفارات من عمك.
فقال له المنصور: هل من حاجة؟
قال: لا تبعث إليّ حتى آتيك.
قال: إذن لا تلقاني.
فقال: هي حاجتي، ومضى.
فأتبعه المنصور طرفه وقال:
كلكم يمشي رويدا، كلكم يطلب صيدا، غير عمرو بن عبيد.
أما أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فقد كان نافراً من أعطيات الحكام، ومنحهم أشد النفور، زاهداً فيها حتى إنه كان يرفضها.
عندما جاء الإمام الشافعي إلى بغداد للمرة الثانية التي أقام فيها لنشر مذهبه، وكان الإمام أحمد يلتزم مجالس الشافعي. وما كان يفارقه إلا لسفر من أجل طلب حديث نبوي، ولقد لاحظ الشافعي أن أحمد ينوي السفر إلى اليمن لأخذ الحديث من عبد الرزاق بن همام، ومشقة السفر هذه بعيدة، وتحتاج إلى إنفاق مال، وأحمد لا يجد ذلك، وكان الأمين قد كلّف الشافعي أن يختار قاضياً إلى اليمن، فوجد الشافعي أن من تسهيل مهمة أحمد أن يكون قاضياً فيها، فيجتمع إلى عبد الرزاق بن همام، ويأخذ ما يريد من غير مشقة مضنية، ولكن الإمام أحمد رفض طلب الشافعي هذا، وقال له وهو شيخه الذي يُكنُّ له كل الاحترام والتقدير: يا أبا عبدالله، إن سمعت منك هذا ثانية لم ترنِ ثانية عندك.
ويُروى كذلك أن المأمون دفع إلى شيخ من شيوخ الحديث في عصره مالاً ليقسمه على رجال الحديث والمشتغلين فيه؛ لأنه علم أن فيهم من يحتاج إلى النفقة، فأراد أن يعينهم على ما خصصوا أنفسهم له، وأخذ هؤلاء المال، أما أحمد بن حنبل فقد رفض العطاء، وقد عرف أنه من المعوزين.
ولكن الإمام أحمد اضطر مرة إلى أخذ هذه الأعطيات، ولكن انظروا هل لمستها يده؟ وماذا فعل بها؟ فقد روي أن وزير المتوكل كتب له: إن أمير المؤمنين قد وجه إليك جائزة، ويأمرك بالخروج إليه، فالله أن تستغني، وترد المال فيتسع القول لمن يغضبك.
فأحمد يبدد ظلمات السعاية إلى القبول، ولكنه لا يمسه. ويأمر ولده صالحاً بأخذه ثم يوزعه في اليوم الثاني على أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم من أهل التجمل والحاجة، وكأنه يرى أنهم أولى بمال المسلمين منه وحرموا عطاهم.
وهذا الإمام الطبري، عرضت عليه الجوائز فرفض، عرضت عليه ولاية المظالم والقضاء فرفض. وأشار عليه صحبه قائلين: في هذا الثواب وتحيي سنة قد درست. فهزمهم قائلاً: أظن أني لو رغبت في ذلك نهيتموني عنه.
وهذا سعيد بن المسيب قد كان له في بيت المال بضعة وثلاثون ألفاً عطاؤه، فكان يدعى إليها فأبى، ويقول لا حاجة لي فيها حتى يحكم الله بين وبين بني مروان.
المصدر:السبيل