الشعور بالمسؤولية
الثلاثاء22 محرم1435 الموافق26 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
د. محمد بن لطفي الصباغ
هناك صحوةٌ إسلامية في معظم أصقاع العالم الإسلامي، وهذه الصحوةُ في قطاع كبير من المجتمع، وليست فيه كله، ويفتح رجال هذه الصحوة أعينَهم على الحياة يريدون أن يستأنفوا نشاط أجدادهم الفكريَّ، وحيويتَهم الحضارية، وأن يقوموا بتبليغ الدعوة العظيمة التي أكرمهم الله بحملِها، ولكنهم يواجِهون واقعًا متخلِّفًا بحاجة إلى إصلاح، واقعًا يحكم بُلدانًا من بلدانه حكامُ طواغيتُ قَتلةٌ فجرة، يحكمونها بغير ما أنزل الله وبالحديد والنار، ويَحُولون دون قيام أي إصلاح، ومن أهم ما يحتاج إليه المسلمون في هذه المرحلة: الشعور بالمسؤولية؛ بل إن الشعور بالمسؤولية يجب أن يقوم في كل مسلم.
أجل، إننا نحتاج إلى أن يعرف كلُّ فردٍ منا واجبَه، ويدرِك أهمية قيامه به، ويؤدِّيه على أحسن وجه، وأن يهتم بشؤون إخوانه من أبناء أمته، ويسعى لما فيه مصلحتهم، ويُحِس في أعماق قلبه بهذه المسؤولية.
والمسؤولية بين يدي رب العالمين مسؤوليةٌ خطيرة؛ لأنه سبحانه: ﴿ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5]، ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19].
إن أسباب التخلُّف في حياتنا كثيرة، ومن أهم هذه الأسباب ضعْفُ الشعور بالمسؤولية عند كثير من الناس، وفِقدانه عند آخرين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لو شعَر كل فرد بمسؤوليته وقام بواجبه، لاستقامت أمورنا على الجادة السويَّة، ولزالتْ معظم الشكاوى والمظالم والمشاكل.
والإسلام يُشرِك الناس جميعًا في تحمُّل المسؤولية؛ يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجلُ راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعيةٌ على أهل بيت زوجها، وهي مسؤولةٌ عنهم، والعبد راعٍ على مال سيده، وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته))[1].
وتتفاوت المسؤولية من إنسان إلى آخر تَبعًا للتفاوت في الإمكانيات والأتباع؛ كما أشار إلى ذلك الحديث النبوي السابق.
وليس هناك وسيلة لغرس هذا الشعور وتنميته مِثل الدين.
والمسلم الحق إنسانٌ مثالي، ومُواطن صالح، يقوم بما عليه دون أن تحمِله على ذلك الرهبةُ من ملاحقة القانون، أو الخَشية من أن تُدركه عيون رجال الدولة، بل إنه يقوم بذلك ابتغاءَ مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه، وقد يكون هذا الواجب يقتضيه أن يتجرَّد من ماله أو أن يجود برُوحه، فيفعل ذلك دون تردد، لا يرجو إلا ثوابَ الله.
وإن الذي يتمثَّل ويتصور الدقة في المحاسبة: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، والشدة في العقاب: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [القارعة: 8 – 11]، إن الذي يتمثَّل ذَيْنك الأمرينِ لَيرتدِعُ من كل مخالَفة في أي ظرف وفي أي حال.
وفي ظل هذا الشعور اليقظِ كان يحيا الخلفاء الصالحون، والعلماء العاملون، والدعاة المصلِحون، يضربون الأمثلة الحية الخالدة على قيمة الشعور بالمسؤولية، ولا يُبالون بما يمكن أن يلاقوا في سبيل ذلك من ضروب العَنت والمشقة والمصاعب.
كان أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أيامَ خلافته لا ينام إلا خفقات برأسه وهو جالس، سواء في ذلك ليله ونهاره، وكان يقول:
“إذا نمتُ في الليل، ضيَّعتُ نفسي، وإن نمتُ في النهار، ضيَّعتُ رعيتي، وأنا مسؤول عنهم“[2].
وهذا أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – يفِد عليه رسولٌ من بعض عماله في الليل، وقد همَّ بالنوم، فينهض من فراشه، ويأذن له، ثم يدعو بشمعة غليظة، فأجَّجت نارًا، ويَشرع – رحمه الله – يسأل عن أهل البلد والمسلمين، وأهل العهد وعن سير العامل، وعن الأسعار، وعن أبناء المهاجرين والأنصار، وأبناء السبيل والفقراء، وهل أعطى كل ذي حقٍّ حقه؟ وهل ظلَم العامل أحدًا؟ وهل له شاكٍ؟
فأجابه عن كل ما سأله، حتى إذا فرغ عمر من مساءلته، قال له الرجل: يا أمير المؤمنين، كيف حالك في نفسك وبدنك؟ وكيف عيالك؟ فنفخ عندئذٍ عمرُ الشمعة فأطفأها، ونادى الغلام أن يأتيه بالسراج، فجاء بفَتيلة لا تكاد تضيء، ثم قال: سل عما أحببتَ، فسأله، وأجابه عمر، ثم سأله الرجل عن سبب إطفائه الشمعة عند سؤاله إياه عن حاله وشأنه، فقال عمر بن عبدالعزيز:
يا عبدالله، إن الشمعة التي أطفأتُها من مال الله ومال المسلمين، وكنت أسألك عن حوائجهم وأمرهم، وكانت تلك الشمعة تقِد بين يدي فيما يصلِحهم وهي لهم، فلما صِرت لشأني وأمر عيالي ونفسي، أطفأتُ نار المسلمين[3].
لقد بلغ رجالاتُنا هذا المستوى الرفيعَ بالإسلام الذي غرَس فيهم الشعور بالمسؤولية، فأضحى أمير المؤمنين لا يُبيح لنفسه أن يستضيء بشمعة للمسلمين، إلا فيما يعود عليهم بالنفع والصلاح.
ويبلغ الشعور بالمسؤولية عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مستوى عاليًا جعله يقول: “لو ماتت شاةٌ على الفرات ضائعة، لظننتُ أن الله سائلي عنها يوم القيامة“[4].
وقدِم على عمر وفْدُ العراق، وكان فيهم الأحنف بن قيس سيد بني تميم، وكان ذلك في يوم صائف شديد الحر، فوجدوا عمر يَطلي بعيرًا من إبل الصدقة بالقَطران في حر الشمس.
فلما دنوا منه، قال عمر للأحنف: يا أحنف، ضع ثيابك، وهَلُمَّ فأعِن أمير المؤمنين على هذا البعير، فإنه من إبل الصدقة، فيه حق اليتيم والأرملة والمسكين.
فقال له رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، تأمُر عبدًا من عبيد الصدقة فيكفيكَ.
فقال عمر: وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف؟ إنه من وَلِي أمر المسلمين، يجب عليه ما يجب على العبد لسيده في النصيحة وأداء الأمانة[5].
جاء رجل إلى أبي شجاع وزير الخليفة المقتدي العباسي، وقال له:
إلى جانبنا أرملة لها أربعة أولاد، وهم عُراة وجياع.
فما كان منه إلا أن بعث إليهم مع رجل من خاصته نفقةً وكِسوة وطعامًا، ونزع ثيابه في البرد الشديد وقال: والله لا ألبَسها حتى ترجع إليَّ بخبرهم.
فذهب الرجل مُسرعًا فأدى إلى الأرملة وأولادِها ما حمله إليهم، فلما رجع، فأخبره أنهم فرِحوا بذلك، ودعَوا للوزير، فسُرَّ بذلك ولبِس ثيابه[6].
لقد تصوَّر هذا الوزير مسؤوليته عن هؤلاء عندما علِم بأمرهم، فما وجد شيئًا يخفِّف عنه وطأة الألم لحالهم إلا أن يُشاركهم في التعرض للبرد؛ حتى يُسرِع مَن حمَل المتاع في إيصاله إليهم.
وحمَل هذا الشعورُ بالمسؤولية نفرًا من سلفنا الصالح على الاهتمام بالوقت والانتفاع منه، بما يعود على الفرد والأمة بالخير العميم؛ رغبة في النجاة يوم القيامة، يوم لا تزول قدما عبدٍ حتى يُسأل عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن علمه ماذا عمِل فيه؟ وعن ماله، من أين اكتسبه، وفيمَ أنفقه؟
جاء في سيرة الإمام ابن عقيل الحنبلي المتوفى سنة 513هـ، وهو أحد الأعلام في الإسلام – أنه كان يقول: “إني لا يَحِل لي أن أضيِّع ساعة من عمري، وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفَّ الكعك وتحسِّيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفُّرًا على مطالَعة، أو تسطير فائدة“[7]، وقال أيضًا في رسالة كتبها مرة إلى أبي شجاع الوزير: “أما بعد، فإن أجلَّ تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت، فهو غنيمة تُنتَهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة“[8].
إنهم كانوا يستطيلون أوقاتَ الطعام؛ فيقصرونها بغاية جُهدهم؛ حرصًا على الاستفادة من الوقت.
ولا يفوتني أن أذكر أن من أعظم شواهد الشعور بالمسؤولية موقف سيدنا أبي بكر الصديق الأعظم – رضي الله عنه – يوم الردة؛ إذ قال: “والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – لقاتلتهم وحدي ما استمسك السيف بيدي“[9].
فكان موقفه العظيم هذا تأييدًا للدين وحفظًا له – رضي الله عنه وأرضاه.
• • • •
بهذا الخُلق النبيل وأمثاله كان لأمتنا دورٌ عظيم في تاريخ الدنيا، وبذلك تسلَّقت أمتنا سُلم المجد حتى بلغت الذِّروة.
فما أجدرنا اليوم أن نكون على هذا النَّهج القويم سائرين؛ حتى نكون أعِزة في الدنيا ناجين يوم الدين.
[1] رواه البخاري برقم 893، ومسلم برقم 1829، والترمذي برقم 1705، وأبو داود برقم 2928.
[2] أخبار عمر؛ للطنطاوي صـ290 نقلاً عن خُطط المقريزي 1/166، والرياض النضرة 2/52.
[3] سيرة عمر بن عبدالعزيز صـ155-156؛ لابن عبدالحكم المتوفى سنة 214؛ تحقيق: الأستاذ أحمد عبيد، ط (5)، دمشق 1387هـ 1967م.
[4] تاريخ عمر؛ لابن الجوزي صـ 185.
[5] تاريخ عمر؛ لابن الجوزي صـ89.
[6] البداية والنهاية 12/150-151.
[7] ذيل طبقات الحنابلة؛ لابن رجب 1/146.
[8] ذيل طبقات الحنابلة؛ لابن رجب 1/149.
[9] البخاري برقم 1400، ومسلم برقم 20، وأبو داود برقم 1556، والترمذي برقم 2607، والنسائي 5/14، والموطأ 1/269 وانظر: أبو بكر الصديق؛ لعلي الطنطاوي صـ 188.
المصدر:الألوكة