وحدة صف المجتمع المسلم .. تحديات التعصب وضرورات الاعتدال

الثلاثاء22 محرم1435 الموافق26 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

نايف عبوش 

انتشرت هذه الأيامَ ظاهرةُ التعصب بأشكاله المذهبي، والديني، والإثني، بين مختلف أوساط الأمم والمجتمعات، ومنها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وبشكل لافت للنظر.

وبدا التعصُّب يأخذ منحى متطرِّفًا، يصل إلى حد التناحُر والتنازُع أحيانًا، في بادِرة غريبة، ستكون لها انعكاسات سلبية على مستقبل وحدة صفِّ هذه المجتمعات، قبل أن تُلحِق أفدحَ الأضرار بالوازع الديني الذي يتآكل بالإحباط، مع تفشي هذه الظاهرة الغريبة عن طبيعة الأديان السمحة.

وكما هو معلوم في التراث الإسلامي، كان الاختلاف في الرأي موجودًا على عهد السلف الصالح مِن الصحابة الأجلاء – رضوان الله عليهم – ومَن جاء بعدهم مِن التابعين، لكنه لم يكن في عَهدِهم يومًا ما، موجبًا للتعصُّب، والتخندُق، ولا ذريعة للكراهية والتباغُض أبدًا؛ وإنما كان اختلافهم في الاجتهاد يَرتكِز إلى السعي المُخلِص الخالي من الغرض، بقصد تحرِّي وإصابة الحقيقة على مُرادها الدِّيني الحق، واختيار أفضل النتائج المُتاحة أمام محصلة مسعى اجتهادِهم إصابةً لروح المقصد، على قاعدة “اختلاف أمتي رحمة”؛ باعتبار أن التنوُّع المُستنير قاعدة سنَّة التطوُّر في الحياة.

ولذلك؛ ما كان اجتهادهم ليُفسد في ودِّهم قضية لبعضهم البعض أبدًا، وإنما على العكس مِن ذلك تمامًا، كان يَلتمس بعضهم العذرَ لبعض، فيَعذر بعضهم البعض الآخَر، فيما اختلفوا فيه مِن وجهات نظرهم؛ مما يُعطي مثلاً عمليًّا لأجيال الأمة اللاحِقة في المُحاكاة والتأسِّي، بسعة الأفق، وبُعدِ النظر، وتقبُّل الآخَر برحابة صدرٍ، وكياسة عالية.

اقرأ أيضا  اللاجئون من دول إسلامية نحو دول غربية أكثر هشاشة وأسرع كسرا

وإذا كان الاختلاف في الرأي ظاهِرةً قائمة في وسط جيل الصَّحابة والتابعين، وهم بعد لما يَزالون على مَقرُبة مِن الوحي، وحديثي العهد بالتنزيل؛ حيث يُفترض أنهم ليسوا بحاجة إلى الاجتهاد بعد؛ بسبب محدودية مُفرَدات الحياة التي يتداولونها يوم ذاك، إضافة إلى كونهم عربًا أقحاحًا في اللغة، ولمَّا تأخذ العُجمة بَعدُ منهم مأخذَها؛ لتُلقي بهم في متاهة غموض المعاني حيثما تعاطَوا معها في قراءة النصوص على مراداتها اللغوية والتشريعية، فلا جرم أن هذه الظاهرة في تعدُّد الرأي تتماشى مع مشيئة الله – جل جلاله – وحكمته البالغة في إيجاد الفوارق بين الناس؛ في القدرات اللغوية، والطاقة الاستيعابية، والكفاءة الاجتهادية، عند تصدِّيهم لاستخلاص مرادات النص، أو الاقتراب منها إلى أدنى حدٍّ عندما تقتضي الحاجة ذلك مع تطور الحياة؛ مما يجعل الظاهرة – بحكم هذه الطبيعة – حالة حتمية، ويقتضي الأمر أن يتمَّ التعاطي معها عندئذٍ على هذا النحو المعتدل، لكي تأخُذ بُعدَها العمَلي بين جمهور المُجتهِدين وفقًا للأصول العامة المقبولة من جميع المختصين في العلوم الإسلامية، بما فيها أصول الفقه على وجه التحديد، على قاعدةإن هذا الدين متين؛ فأوغل فيه برفق، بعيدًا عن الغرض الشخصي، والهوى الضال؛ حيث ينتفي عندئذٍ أيُّ مُبرِّر للتعصُّب.

ولعل ظاهرة التخطيء، والتشنيع، والاستنكار، أصبحَت أبرز ملامح الرد المُتعصِّب، وخاصة عند محاولة الاجتهاد في القضايا المُعاصِرة، التي فرضتْها الحداثة وضرورات سنَّة التطور، والتي لا مندوحة مِن التعاطي العمَلي معها باجتهادات مُعاصِرة؛ استجابة لمعطيات التطور كسنَّة مِن سُنن الحياة؛ باعتبارها حالة متحرِّكة على قاعدةأنتم أعلم بأمور دنياكم؛ حيث يُفترض أن يَستوعبَها فقه الاستشراف على أفضل وجه. 

اقرأ أيضا  تحقيق القول في مقام ومقال كلمة "الله المستعان"

ولعلَّ قبولَ وجهة النظر التي تَعتبر الاجتهاداتِ آراءً لأصحابها، واجتهاداتٍ إنسانيةً، قابلةً للخطأ والصواب مهما كانت درجة دقة ترجيحها مِن قِبَل المجتهد، عند تقييمه للمسألة المطروحة عليه، في إطارها الزمني والمكاني – يضعُ أرضيةً مناسبة لمنطق مستنير، يستسيغ الاختلاف في جهات النظر على خلفية قاعدةوفوق كل ذي علم عليم، لا سيما أن النصوص الإسلامية إنما جاءت لتتعامل مع واقع حياة الإنسان، وخاصة في أموره الدنيوية، وبالتالي فالاجتهادات – إذًا – لم توجد ليَعتنقها الناس بمثل أصول الدين سواء بسواء؛ ومِن ثمَّ فإنه يمكن القول بأنه لا ينبغي لأي مجتهد أن يتعصَّب، وأن يتعنَّت في آرائه، ويصرَّ على أنه وحده يَمتلِك الحقيقة الفقهية، بما يرتِّب له حق إلزام الآخَرين باتباع قوله في كل ما قال.

على أن اللافت للنظر هو أن ظاهرة التعصُّب غالبًا ما تلازم من يتصدُّون للوعظ والفُتيا هذه الأيام، مِن الوعاظ مِن ذوي الإمكانات العلمية المتواضِعة حقًّا، حتى إن الكثير منهم لا يعرف مبادئ النحو، وليس لدَيه إلمام يذكر باللغة العربية التي نزل بها القرآن، وهم ليسوا مِن المشهود لهم بين أقرانهم بالفَصاحة، والبيان، والضلاعة في العلم، والقدرة على الاستنباط، ومع ذلك تجدهم يُصرُّون بإلحاح على أن يُدلوا بدَلوِهم، ويُزاحِمون المُختصِّين في الكثير من الأمور، ويُجادلونهم بغير علم، ويجتزئون الأدلة من سياقها؛ ليَحشروها قسرًا في سياق المجادلة، في عملية إقحام ميكانيكي مُبتسر؛ ليسوقوها كدليل، لتدعيم حُجَجِهم؛ بسبب ضعف إلمامهم بالعلوم الإسلامية؛ بحيث يبدو طرحهم تبسيطيًّا للغاية، ولا يَستهوي الكثير مِن المتعلمين المعتدلين، والذين هم على مستوى عالٍ من الوعي، ويمتلكون قدرة واضحة على الترجيح وفقًا لمعاييره؛ بحكم التحصيل العلمي، والخبرة المتراكمة.

اقرأ أيضا  الأدب قبل العلم

ولذلك؛ فإن تنمية حس الاعتدال، ورفض التفرُّد المُتزمِّت، ونبذ التطرُّف المتشدِّد، أيًّا كانت الذريعة، هو مسؤولية جمعية، تُحتِّم على جميع المعنيِّين بهذا الأمر مِن الكُتَّاب والمُفكِّرين، والدعاة والمربِّين، وقادة تشكيل الرأي – الانتباهَ لخطورة تداعيات ظاهرة التعصُّب، والحاجة إلى الاعتدال، والحرص على رصِّ الصفِّ، كضرورة قصوى، تتطلَّبها المصلحة العامة للناس؛ حفاظًا على وحدة الصفِّ، على قاعدةيد الله مع الجماعة، بما يُعزِّز الأمن والسلم الاجتماعي، ويدرأ عن المجتمع مخاطر تبديد طاقاته بالتعصب.

المصدر:الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.