أمن المجتمع المسلم كما يصوره القرآن
الثلاثاء22 محرم1435 الموافق26 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
محمد بدوي
التاريخ درس متكرر، والمشكلات التي تعتاق سبيل المجتمعات الإنسانيَّة واحدة، والآفات التي تعتريها واحدة، مهما اختلفت في المظهر، فإنَّها تتَّفق في الجوهر؛ ذلك لأنَّ الإنسان واحد، مهْما استقى من ينابيع الثَّقافة والمعرفة وعِبر التاريخ؛ لأنَّ هذه العوامل لا تغيِّر منه إلا الشكل، أمَّا المضمون فسيبقى واحدًا رغْم تطاوُل الزمن وتقدُّم الحياة، ومن هنا كان حتمًا على الإنسان المعاصر أن يستفيدَ من عبر التاريخ، وأن يتَّعظ بما حدث للإنسانيَّة منذ أقدم العصور ليأخذ الحذر، ويتجنَّب الخطأ، ويمضي على درب مأنوس، وطريق لاحبٍ.
ويتميَّز القرآن الكريم بإعْطاء نماذجَ حيَّةٍ وواقعيَّة، فيها العظة والعبرة لمن أراد أن يتدبَّر أو أراد شكورًا، وحين يستغرِق الإنسان المعاصر في قراءة هذه النَّماذج وتدبُّرها، ويمنحُها من الوعي والتَّحليل ما تستحقُّ، سيجد فيها الكثير من صور الحاضر، ومشكلاته المعقَّدة، وآفاتِه المدمِّرة، حتَّى لكأنَّما هذا النموذج أو ذاك قد نزل غضًّا من السَّماء ليتناولَها بالتَّحليل والبيان، وسيجِد أنَّ الخلاص من تلك المشكلات مرتهنٌ بما وصف القرآن من علاج، وبما طب من دواء، وبما قدَّم من وسائل الإنقاذ، لقد تعرَّض المجتمع المسلِم على عهد رسول الله – صلَّى الله عليه وسَلَّم – لموجة عاتية من الحرْب النفسيَّة كادت تعصِف بأمْنِه وتفتُّ في عضُدِه، وتتركه هيْكلاً بلا روح، أو جسدًا بلا طموح، ولم تكُن هذه الحرب إلا حرب الإشاعة، التي كانت تُدار هادئةً، وقْت السلم، وتشنُّ عاتيةً وقْت الحرب، كانت تتناول القيادة المسلِمة حينًا بتوْهين أمرها، وتقليل خطرها، فالرسول شاعر، أو كاهن، أو مجنون، وكانت تتناول منهجَه حينًا آخَر، فهو شعر أو سحْر أو أساطير الأولين.
وممَّا يدخل في هذا الباب حرْب أخرى تسمَّى حرب السخرية، تلتقي مع السابقة في هدفِها من قتْل الثقة في نفوس المسلمين، وإلقاء اليأس في قلوبِهم، وإثارة الربْكة والخجل في تصرُّفاتهم، وهي سلاح فتَّاك كسابقتِها، وقد حكى القُرآن بعضَ أساليبِها في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 29 – 32]، فهذا مشهد ساخر يسجِّله القُرآن بكلِّ حركة من حركاته، بحيث تلمح فيه حركةَ الأيدي والعيون والشفاه والجباه والأكتاف، تشترك في حركة التغامُز من هؤلاء المُجْرِمين الذين تجرَّدوا من كلِّ أدب وحياء!
تلك الحرب النفسيَّة وأشباهُها كانت تُدار وقتَ السلم، ينفِّس بها الباطل عن حِقْده، ويعبر عنه موجدته، محاولاً بثَّ الضعف في نفوس المسلمين.
والعجيب أنَّ القوم قد عرفوا أثرَ هذا النَّوع من الحرب، فاهتمُّوا بشأْنِها، بحيث عمدوا إلى تنسيقِها؛ لتُحْدِث أثرها من التَّشكيك والبلبلة في نفوس المسلمين، وكان الوليد بن المغيرة بارعًا في هذا اللَّون من الحرب النفسيَّة، كان يتولَّى بنفسه تفريغ الإشاعة وصبَّها في قالب منطقي، ويناقش القوم في أمْرِها، ويتخيَّر المناخ المناسب لإطْلاقها، ويتحرَّى التجمعات العامَّة للجماهير.
لقد جمع الوليد يومًا سادة قريْش من المشركين، وتصدَّر مجلِسهم، ثم قال لهم: إنَّه قد حضر الموسم، وإنَّ وفود العرب ستَقْدَم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأَجْمعوا فيه رأيًا، ولا تختلفوا، فيكذِّبَ بعضُكم بعضًا، فقالوا: أنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيَّا نقول به، فقال: بل أنتم فقولوا، أسمع منكم، فقالوا: نقول: كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأيْنا الكهَّان، فما هو بزمزمةِ الكاهن ولا سجْعِه، قالوا: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأيْنا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقِه ولا وسوستِه، قالوا: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفْنا الشِّعْر كلَّه، رجزَه وهزَجه، وما هو بالشعر، قالوا: فما تقول؟ قال: والله إنَّ لقولِه لحلاوة، وإنَّ عليْه لطلاوة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنَّه باطل، وإنَّ أقرب القوْل فيه أن تقولوا: إنَّه ساحر جاء بقول هو سحر، يفرِّق فيه بين المرء وأبيه، وبين المرْء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فاقتنعوا وتفرَّقوا عنه بذلك.
وجعلوا يجلسون على السبُل لا يمرُّ بِهم أحد إلا حذَّروه إيَّاه وذكروا له أمره، فأنزل الله في الوليد بن المغيرة قولَه: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 18 – 25]، وجعلوا يقولون ذلك لكلِّ مَن لقُوا من النَّاس، فانتشر ذِكْرُه في العرب كلِّها.
والذي أودُّ أن أستخْلصه من هذا الحديث ما يلي:
– أنَّ القوم كانوا يعرفون تأثيرَ الدعاية ضدَّ محمَّد وأصحابِه؛ بدليل اجتماعِهم لهذا الأمر وتدارُسهم للإشاعة، واتِّخاذهم زعيمًا لهم يوجِّه آراءَهم، ويناقِش أفكارهم.
– أنَّهم لم يدَعوا أمر الإشاعة فوضى تحكُمه الآراء الفرديَّة التي قد تتناقضُ أو يكذِّب بعضُها بعضًا؛ بل عمدوا إلى مؤتَمر لتبادُل الرَّأي فيما يقولون بشأْن محمَّد وقرآنه.
– أنَّهم قد تحرَّوا موسم الحجِّ موعدًا لإطلاق الشَّائعات؛ لينتشِر أمرُها، وتذيع في الآفاق، بالضَّبط كما تفعل الدُّول الحديثة في انتِهاز فرص التجمُّع الجماهيري لترويج الإشاعة؛ لأنَّ عقليَّة الجماهير لا تُناقش ما تسمع، وإنَّما تردِّده دون مناقشة، كالببغاء، عقلُه في أذنَيه.
– أنَّها قد عمدت إلى لونٍ من الانتِقاء للإشاعة الملائمة التي تنطلي على الجماهير، واستبعدت ما سواها من الإشاعات التي يسهُل دحْضُها وتكذيبُها.
– أنَّ القوم لم ينطلِقوا بإشاعاتٍ كثيرة يكذِّب بعضُها بعضًا، وإنَّما أجمعوا على واحدةٍ، وتواصَوا بها حتى تأخُذ شكلاً أقرب إلى المنطق.
لقد توصَّل هذا المجتمع الساذج إلى أهمِّ الشروط العلميَّة لفنِّ الإشاعة، من وسط جماهيري، وتأقيت زمني، وحبكة ذكية، ودراسة للإشاعة، ثم اتِّخاذ قرار بها وإطلاقها بعد ذلك، إنَّ حربًا كهذه لا يمكن أن تمرَّ على العرب دون أن تلعب بعقولِهم، ولقد تصدَّى القرآن الكريم لتعرِيَتها، وكشْف نفوس أصحابِها؛ كيلا تدمِّر الثقة في نفوس المسلمين الذين كانوا قلَّة مستضعفة، تتعرَّض لشتَّى الإهانات في ذلك الوقْت العصيب من عمر الدَّعوة، إنَّ هذا النَّوع من الحرْب لا يستدعي عتادًا ولا قوَّة، كما أنَّه لا يُريق دمًا، ولا يهدِم حصنًا؛ لأنَّه موجَّه إلى نفسيَّة الشعوب وإلى روحها، بحيثُ لا يترك ذرَّة من هذا الكيان إلا أوْهنها وأضْعفها وسلبها قوَّة الإرادة؛ لتستسلِم بعد ذلك وتُلْقي السلاح، وتلك هي غاية العدو، وما يعمل له جاهدًا بأساليب الخداع والدهاء والمكْر والتمويه، ولقد أخذ هذا الفنُّ من حرْب الإشاعة يقوَى، ويكثُر التَّعويل عليْه على امتِداد الزَّمن بين أساليب الحرب، وتخصَّص فيه المتخصِّصون، وأصبح قوَّة يعمل لها كلُّ حساب.
ويشتدُّ خطر الإشاعة في زمن الحروب، حتَّى لتترك إشاعة خادعة ما لا تترُكُه أفتك أسلحة الدَّمار والهلاك، وكما ذكر القُرآن بعضَ أساليب الإشاعة أيَّام السلم، فإنَّه كذلك يذكُر بعض نَماذج الإشاعة التي تُطلق في ميادين القِتال؛ تنبيهًا على خطرها، وتجنُّبًا لآثارها، فنحن نقرأ كتابَ ربِّنا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، وقد كانت هذه الإشاعة في أعْقاب أُحُد، حيث كانت نفوسُ المسلمين مثْقلةً بالآلام لِما فقدوا من الأبْطال، ولِما تعرَّضوا له من الابتِلاء والشدَّة، ولقد واجهتْ قِيادة المسلمين هذه الحرب النفسيَّة بخطَّة أذكى وعمل أنْجح؛ كيلا تسري آثارُها في نفوس المسلمين، فسارعت بالتَّخطيط لِلقاء العدوِّ الهارب حتَّى لا يطمع في المسلمين، ولا يظنَّ بهم الظنون، إنَّه تجمُّع لإعلان نوْعٍ من الحرْب النفسيَّة على العدوِّ الذي ظنَّ أنَّه قد سحق المسلمين، ورغْم القتلى والدِّماء نَهض المسلِمون بهذا الواجب الثَّقيل، فقد خرَج الرَّسول – صلواتُ الله وسلامُه عليه – إلى المسجِد الجامع في أعْقاب أُحُد، وأمر بلالاً أن يؤذِّن للخروج في طلَب العدو، كما أمر ألاَّ يخرُج من المسلمين إلاَّ مَن كان مُحاربًا بالأمس، فارتفع الصَّحابة على الجراح والآلام ولبَّوا مُسرعين، مستجيبين لله ورسوله، ورفضوا منطِق الحرْب النفسيَّة التي كان يردِّدها العدوُّ وقتذاك، وهو أنَّ جيش المشركين لا يُغْلب بعد اليوم، وبدَّدوا هذه الخرافة.
امتحان صعب من غير شكٍّ، ولكنَّ روح الإيمان تتغلَّب على تهاويل الموقِف، وتنهض بتبعاته في قوَّة وحزم، لقد خرج الرَّسول بالمسلمين إلى مكانٍ يقال له: “حمراء الأسد”، بيْنه وبين المدينة ثَمانية أميال، واستخلف على المدينة ابنَ أمِّ مكتوم، يُريد إرْهاب العدوِّ، وبثَّ الذُّعر في نفسِه، فأقام هناك ثلاثةَ أيَّام.
ولقد أدَّت هذه الخطَّة هدَفَها، فحين علِم أبو سفيان بِخروج المسلمين في طلَبِهم، وأعلن ذلك في القوم، قال بعض المشركين لبعْض: ما بال هؤلاء مع آلامِهم وجراحِهم يخرجون لحربنا؟ أبقيَ فيهم عزمٌ وجلَد؟ وحارُوا في الأمر، وذهبت بهم الظنون كلَّ مذهب، فأوْرثتْهم خَبالاً وضعفًا، وفتَّتْ في عضُدِهم، فكرُّوا راجعين إلى مكَّة سراعًا، فلمَّا بلغ الرسولَ ذلك قال لأصْحابه: ((حسبُنا الله ونعم الوكيل)).
وفي هذا الموقف يتجلَّى بصَر القيادة المؤمنة بأساليب الحرْبِ النفسيَّة، والرَّدّ على الشَّائعات المسمومة التي كان العدوُّ يطلِقها لتنال من عزْم المسلمين وتوهِن إرادتَهم، ولقد نزل في هذا الموقف قرآنٌ يُتْلى؛ ليظلَّ درسًا خالدًا لأصْحاب المبادئ والرِّسالات على امتِداد التَّاريخ؛ يقول الحقُّ – تبارك وتعالى -: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ *فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 172 – 175].
وفي هذا التصرف من الرسول وأصحابه دروس وعظات، فقد ارتفعوا فوْق آلامهم وجراحِهم، كما ارتفعوا على الإشاعات المسمومة، التي كان يصوِّبُها العدوُّ إلى قلوبِهم بقصْد تفْتيت وَحْدتِهم، وإشاعة روح الهزيمة بين صفوفِهم، وتفريغ قلوبِهم من المحتوى الإيماني؛ لتُصْبِح خاويةً تتْبَع كلَّ ناعق، وتصغي لكلِّ شائعة، وتَموت فيها إرادة القتال، وفيه حزْم القيادة التي لم تتردَّد لحظةً في فرْض الخطَّة الصَّارمة على الجيْش المُثْخن بالجراح، وقد نهض الجيْش بواجِب الزَّحف حسبما أشارتِ القيادة، دون التِفاتٍ إلى المآسي والجراح، وفي ذلك من الولاء والطَّاعة ما يذْهل العقل ويُثير الإعجاب، وهكذا أحبطت خطَّة الحرب النفسيَّة التي شنَّها العدو بخطَّة أحْكَم، وتدبيرٍ أقوى، وكانت العقيدة هي التي تتحكَّم في الموقف كلِّه وتسود صفوف المجاهدين؛ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
وما أحْوجَ المسلمين اليوم إلى هذه الدُّروس؛ ليقِفوا صفًّا واحدًا أمامَ مُخططات العدو وأساليب كيده، وليَثْبُتوا في ميدان الحرْب النفسيَّة، ويُواجهوها بخططٍ مدْروسة ومواقفَ ثابتةٍ.
وما أكثر أعداءَنا المتربِّصين بنا على مرِّ العصور! وما أكثرَ ما يستخْدِمون ضدَّنا من أسلِحة الحرب النفسيَّة التي ينفخون فيها من أبْواقهم، وأنَّهم الجيش الذي لا يُقْهَر! والعصمة من ذلك كلِّه تكمُن في قول الله سبحانه: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
إنَّ هذا اليقين الجازم في الانتِصار على العدوِّ يفتقِر إلى تربية إيمانيَّة عميقة، حتَّى تكون الثَّمرة كما قال الله سبحانه {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174].
ولكي يزيدَنا القُرآنُ بصرًا بأساليب الحرب النفسيَّة، وما ينبغي أن تواجه به من عقيدة وعلم، وبخاصَّة بعد أن أصبحت في العصر الحديث سلاحًا فتَّاكًا، يتخصَّص فيه المتخصِّصون، وأصبحت له المعامل النفسيَّة والوسائل الحديثة، التي تتولى تحليل الإشاعة ومدى تأثيرِها على نفسيَّة الشعوب؛ من أجل ذلك نرى القُرآن الكريم يزوِّد الجماعة المسلمة بقواعدَ تَخطيطيَّةٍ، ووسائلَ وقائيَّةٍ، وأخرى علاجيَّة؛ لتعصم الصفَّ المؤمن من خطَر الشَّائعات، وتؤمِّن سلامة المجتمع من البلبلة، وتدرأ عنْه الآثارَ المدمِّرة التي تستهدف إرادتَه ورُوحَه، ولا شكَّ أنَّ تلك ناحيةٌ إعجازيَّة في كتاب الله، ترصُد بعين القُدرة مستقْبَل هذه الحرب وخطورتَها على أمن المجتمعات، فتضع الأسُس السليمةَ لتفاديها والخلاص من آثارها.
ولنقرأْ في ذلك قوْل ربِّنا سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً* فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} [النساء: 83 – 84].
إنَّ هذه الآية تضعُنا وجْهًا لوجْهٍ أمام الشَّائعات التي تتردَّد في المجتمعات أيَّام الحروب، وتعلِّمُنا كيف يتصرَّف الأفراد في الشَّائعات إذا سمعوها تتردَّد في جنبات المجتمع، ثم توضِّح لنا أنَّ الإيمان هو خير عاصمٍ من شرور تلك الشائعات، وأنَّها لا تعدو من الإيمان أن تكون عملاً شيْطانيًّا لا ينبغي أن يفتَّ في عضُد المسلمين فيصدهم عن الاستِمْرار في الحرب، وتوضِّح للرَّسول الكريم – وهو القيادة التي تتطلَّع إليها الأنظار – أن يستمرَّ على قتال العدوِّ مهما اشتدَّ خطر الإشاعة، حتى ولو قاتل وحْده في الميْدان، فذلك وحْده خليقٌ أن يردَّ بأس العدو ويحبط مؤامراتِه، والله من ورائِه محيط.
ونحن نرى أنَّ الآية الكريمة تفرِض نوعًا من الرِّقابة على الأنباء أيام الحروب؛ حتى لا تتسرَّب الشَّائعات في صفوف المقاتلين، فتُوهن قوَّتَهم.
وتُطالِعُنا في هذه الآية أوضاعُ المجتمع المسلِم في فترة من أحرج الفترات بين أحُد والخندق، وهي فترة نشطَتْ فيها دعاياتُ العدوِّ بقصد إشاعة البلبلة في صفوف المجاهدين، وبثِّ الوهن والضعْف في نفوسِهِم، وكان المجتمع المسلِم يوْمذاك طوائفَ عدَّة، منهم المنافِقون، ومنهم اليهود، ومنهم فئة لَم ترتفع بإيمانِها إلى درجة الحصانة من عوامل الإغْراء والضَّعف، ومنهم السذَّج، الذين لا خبرةَ لهم بأساليب الحرْب النفسيَّة، فهم يردِّدون كلَّ ما يسمعون عن حسْن نيَّة، كل هذه الطَّوائف كانت تردِّد ما تسمع، إمَّا عن سوء نيَّة أو عن سذاجة، فيتلقَّفها لسان عن لسان، وينقلها فردٌ عن فرد، فلا تلبث أن تملأ رحاب المجتمع، ومن البديهي أنَّ نيَّات اليهود والمنافقين مدخولة، فهم يردِّدون الإشاعة عن عمْد وقصد، كلَّما سمعوا شائعة طاروا بها لتفتَّ في عضُد المجتمع المسلم فيلقي السلاح، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}، فمَن أولئك الذين يُذيعون الشائعات؟ ومن أين تأتيهم؟
إنَّ الذين يُذيعون الشَّائعات هم طوائفُ من المجتمَع الإسلامي، بعضُهم منافقٌ يُريد إلْحاق الدَّمار بالمسلمين، وبعضُهم من اليهود الذين يَعيشون على إثارة الأحْقاد وتَحريك الشَّائعات لإرْباك المسلمين وبثِّ الوهن في نفوسِهم، وهناك فريقٌ ثالث لم يرتفِع بالإيمان إلى مستوى الموقف العصيب، فهؤلاء يردِّدُون الإشاعة دون رويَّة ولا تَمحيص؛ لأنَّهم لا يُدْرِكون خطرَها كما أسْلفْنا.
ومن البديهي أنَّ الإشاعة إنَّما تعود إلى تلك الطَّوائف من أعداء المسلمين، وأعوانهم في القتال، يحيكونَها بذكاء، وينشرونَها بوعي، ويختارون لها الظروف الملائمة زمانًا ومكانًا، وقد يتولَّى نشْرها عملاءُ من بيْنِهم، أو من ضعاف النُّفوس الذين يتظاهرون بِمؤازرة المسلمين.
وقد قسَّمت الآية الكريمة الإشاعة قسمين، أُولاها: إشاعة الأمن، والأخرى: إشاعة الخوف، والهدف واحد لا محالة، وهو توهين الصفِّ المسلم، وبثّ روح البلبلة والضَّعف في جنباته.
وإشاعة الأمن: هي التي تتحرَّى أوقاتَ الحشْد والتعبئة للجيش المسلم، حتَّى إذا استكمل غايتَه من الاستعداد المادِّي والمعنوي وهمَّ بالتحرُّك إلى العدو، إذا بإشاعة الأمن تتردَّد قائلة: ما بال هذا الاستعداد الهائل والعدو ضعيف، وعدَّته قليلة، وعدده ضئيل؟! ولماذا كلُّ هذا الإنفاق والاستعداد والحالة آمنة؟
تلك إشاعةٌ لو تعقَّلها المسلِمون، لرفضوا الأخْذ بها والانصِياع إليْها أو ترديدَها؛ لأنَّها تريد أن تَخدعهم، وتُؤَمِّنهم تأمينًا كاذبًا؛ حتى تفتُر عزيمتُهم، وتبرد همَّتهم، ويقلّ تحمُّسهم للقتال، فيدرك العدوُّ غايته، ويَميل عليْهِم ميلةً واحدة.
أمَّا إشاعة الخوف، فهي التي تُحاول إرْهاب الجيْش المسلم، بالمبالغة في وصف قوَّة العدو ووفْرة أسلِحته، وكفاءته القتاليَّة، وأنَّ جيشه لا يُقْهر، وتلك الشَّائعات ولو لم يُكْتشف خطرها في أوَّل الأمر، فإنَّها تثير الذُّعر في نفوس المسلمين، وتسلبهم الأمْن، وتدَع أفئِدَتَهم هواء، وهي في الوقْت ذاته تهيِّئ الفُرصة لدعاة الهزيمةِ لكي يُذيعوها في الآفاق، فتطير هنا وهناك تاركةً أسوأ الآثار في نفوس المسلمين.
وتأمَّل معي كيف يعبِّر القرآن عن نشاط أولي الأغْراض السيِّئة في بثِّ الدعاية؛ وذلك قوله سبحانه: {أَذَاعُوا بِهِ}، دون أن يقول: “أذاعواه”، كأنَّما جعلت تلك الشَّائعات المغْرِضة بوقًا ينفُخ فيه دعاةُ الهزيمة وأعداء الدَّعوة، فقد غدت الشَّائعة آلةً ينفخ فيها هؤلاء، يُكَبِّرون صغيرها، ويجسِّمون ضعيفَها، وينفثون فيها من أحقادِهم وأضغانِهم؛ لتعمل عملها في الصف المسلم.
إنَّ هذا التَّعبير يصوِّر لنا تحمُّس هؤلاء لإذاعة الشَّائعات الضارَّة، سواءٌ كانت متَّصلة بالأمن أم الخوف؛ لتؤدي هدَفَها من قتْل الثِّقة في نفوس المسلمين، وهذا تعليم للمُسلمين ليعرفوا أخلاقَ عدوِّهم.
كيف نتصرَّف في الإشاعة التي تصِلُنا من أعدائِنا؟
هنا تَمضي الآيةُ في تعليم المسلمين وتنْمِية إدْراكهم حتَّى لا يتسرَّعوا في ترْديد ما يصِلُهم من إشاعات، فذلك هو طريق الوهن وسبيل الهزيمة، وإنَّما عليهِم أن يرفعوا كلَّ إشاعةٍ وافدة إلى نبيِّهم، أو إلى أمير الجيْش، حتى يتصرَّف في أمْرِها.
والآية الكريمة تفترِض أن توجد فئة متخصِّصة بين المسلمين في دراسة الإشاعة وتَحليلها، ومعرفة بواعثِها وأهدافها؛ لتستنبِط بعد ذلك ما ينبغي عملُه إزاءَها؛ كيلا تؤثِّر في المسلمين؛ بدليل قوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، فهُم إذًا جماعةٌ مهمَّتُها دراسة الشَّائعات واستنباط أهدافِها وبواعثِها، ومعرِفة الرَّدِّ عليْها، وربَّما استنْبطت تلك الجماعة معرِفَة شخصيَّة العدو، ومدى استِعْدادِه ومبلغ تحفُّزه، وهكذا تجعل الآيةُ من الإشاعة خطرًا يتخصَّص في دراستِه المتخصِّصون، وترسم للمسلِمين كيف يتصرَّفون فيما يصِلُهم من إشاعات[1].
وبهذا يتمُّ توقير القيادة، وتربية خلُق الطَّاعة في المسلمين، وردّ الأمور إلى أربابِها، وربما توحي كلمة “يستنبطونه” بإعمال العقل، وشحْذ الذِّهْن في كل إشاعة وافدة، وهذا يعطي الانطِباع بخطر الإشاعة وقوَّة آثارها؛ وإلاَّ لَما استدعتْ تَحليلاً ولا استِنْباطًا، لا غرْوَ أنَّ حرب الإشاعة ضربٌ من ضُروب الحرْب النفسيَّة ترتَكِزُ على الذَّكاء والحيلة، ومن ثَمَّ كان الخلاص منها محتاجًا إلى الدِّراية وذكاء العقل؛ لكشْف مخطَّطات العدوِّ وتعرُّف أهدافه، ثم تأتي الآية الأُخْرى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ}؛ لتؤكِّد للقيادة المسلِمة رفْض الإشاعة، وعدم الإذعان لها، والمضي إلى القتال ولو فريدًا، وتَحريض المسلمين عليه، ففي ذلك ما يُحْبِط خطَط العدو، ويبطل تدبيره.
إنَّ هذه الآية تبثُّ الطُّمأنينة في نفوس المسلِمين، وأنَّه لا سبيل إلى تأْثير هذه الحرْب النفسيَّة ما دامت قلوبُهم مؤمنة، وعقولهم واعية، وطاعتهم موْفورة، وعيونُهم مفتوحة على عدوِّهم، بعد ذلك كلِّه فإنَّ أمر الإشاعة يُصْبِح هيِّنًا؛ لأنَّه من كيْد الشَّيطان، وكيد الشيطان ضعيفٌ واهن.
إنَّ هنا درسًا يَجب أن ننتبِه له في جَميع الأقطار الإسلاميَّة، ذلك هو التِماس العلاج من القُرآن الكريم وتَحكيم منهج الله في سِلْمنا وحرْبِنا، ففيه ما يعصمنا من الخطأ ويردُّنا إلى الصواب.
وأساليب الحرب النفسية رغْمَ اهتمام الأعداء بها في العصر الحاضر، وصرف الجهود إليْها، وإنفاق الأموال الطَّائلة عليْها لتؤدي هدفها، قد تناولَها القرآن على شكْل نماذجَ قويَّةٍ، تتجلى في إرادة الجيْش المسلم وصلابتِه أمام الدعايات، كما تناولها على شكل دراسةٍ تحليليَّة توضِّح أهدافَها ومخاطرَها، وترسم للمسْلِمين السبيلَ الأمثل لتجنُّبِها؛ ليحيا المجتمع المسلِم في أمْنٍ وسلام، لا تلعب به الشَّائعات ولا تضلِّلُه دعايات الأعداء؛ وذلك لكي يعرف المسلمون أنَّ قرآنهم قد استوعبَ ظروفَهم الحاضرة والمستقبلة كما استوعب أوضاعهم الماضية، وذلك من أقوى الأدلَّة على إعجازه، وأنَّه تنزيل من حكيم حميد، وبالله التَّوفيق.
[1] [تعليق الألوكة]: إيجاد فئة متخصِّصة في دراسة الإشاعة من الأمور التي ينبغي الاهتمام بها للتحلِّي بالحذَر والدقَّة المطلوبَين أمام الشائعات كما نبَّهت الآيات الكريمة؛ لكن القوْل بأنَّ الآية تفترِض وجود فئة … إلخ قد يكون فيه نوع تكلف؛ لأنَّ الآية أمرت المسلمين بالرجوع إلى أولي الأمر من الأُمراء وأهل الرأي، وهؤلاء بدوْرِهم أعلم من غيرهم بتمْييز الحقائق من الشَّائعات، ومعرفة السبيل إلى مواجهة تلك الشائعات، لا أن تخصيص فئة بعينها لدراسة الشائعات قد ذُكر صريحًا في الآية.
المصدر:الألوكة