العلم يقوي الإيمان

السبت4 صفر 1435 الموافق 7 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض 

إن الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن، فعصفور الهزاز الذي عشَّش ببابك يهاجر جنوبًا في الخريف، ولكنه يعود إلى عشه القديم الربيع التالي. 

وفي شهر سبتمبر تطير أسرابُ معظم طيورنا إلى الجنوب، وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق عرض البحار ولكنها لا تضل طريقها، والحمام الزاجل إذا تحير من جرَّاء أصوات جديدة عليه في رحلة طويلة داخل قفص يحوم برهة، ثم يقصد قدمًا إلى موطنه دون أن يضلَّ، والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار، كل ذلك دليل يرى، وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الإنسان ولكنه يكمل عتاده القليل منها بأدوات الملاحة، ونحن في حاجة إلى هذه الغزيرة وعقولها تسد هذه الحاجة، ولا بُدَّ أن للحشرات الدقيقة عيونًا ميكروسكوبية لا ندري مبلغها من الإحكام وأن للصقور بصرًا تلسكوبيًا.

 

وهنا أيضًا يتفوق الإنسان بأدواته الميكانيكية؛ فهو بتلسكوبه يمكن أن يبصر سديمًا بلغ من الضعف أنه يحتاج إلى مضاعفة قوَّة إبصاره مليوني مرة ليراه، وهو بميكروسكوبه الكهربي يستطيع أن يرى بكتريا كانت غير مرئية، بل كذلك الحشرات الصغيرة التي تعضها.

 

وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده فإنه يلزم الطريق مهما اشتدَّت ظلمة الليل، وهو يستطيع أن يرى ولو في غير وضوح، ولكنَّه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه بعينين تأثَّرتا قليلاً بالأشعَّة تحت الحمراء التي للطرق، والبومة تستطيع أن تبصر الفأر الدافئ اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل، ونحن نقلب الليل نهارًا بإحداث إشعاع في تلك المجموعة التي نسميها بالضوء.

 

إن عدسات عينك تلقي صورة على الشبكة فتنظِّم العضلات العدسات بطريقة آلية إلى بؤرة محكَمة، وتتكوَّن الشبكية من تسع طبقات منفصلة هي في مجموعها ليست أسمك من ورقة رفيعة.

اقرأ أيضا  من مظاهر التسامح الإسلامي .. الأخوة بين المسلمين

 

وكل هذه التنظيمات العجيبة للعدسات والعيدان والمخروطات والأعصاب وغيرها، لا بُدَّ أنها حدثت في وقت واحد؛ لأنه قبل أن تكمل كل واحدة منها كان الإبصار مستحيلاً، فكيف استطاع كلُّ عامل أن يعرف احتياجات العوامل الأخرى ويوائم بين نفسه وبينها؟!

 

إن المحَّار العادي الذي نأكل عضله، له عيون عِدَّة تشبه عيوننا كثيرًا وهي تلمع؛ لأن كل عين منها لها عاكسات صغيرة لا تُحْصَى، ويقال: إنها تساعدها على رؤية الأشياء من اليمين إلى فوق، وهذه العاكسات غير موجودة في العين البشرية، فهل رتبت للمحار تلك العاكسات؛ لأنه لا يملك كالإنسان قوة ذهنية؟

  

ولما كان عدد العيون في الحيوانات يتراوح بين اثنتين وعدَّة آلاف وكلها مختلفة؛ فلا ريب أن الطبيعة كانت تلقى مشقة كبيرة في أحكام علم المرئيات، اللهم إلا إذا وجدت عونًا من الخالق.

 

إن نحلة العسل لا تجذبها الأزهار الزاهية كما نراها، ولكنها تراها بالضوء فوق البنفسجي الذي يجعلها أكثر جمالاً في نظرها، وفيما بين أشعة الاهتزازات البطيئة واللوحة الفوتغرافية وما وراءها عوالم من الجمال والبهجة والإلهام بدأنا نقدرها ونسيطر عليها، فلنتأمَّل أن يأتي علينا يوم نستطيع فيه أن نستمتع بعالم الضوء عن طريق النبوغ في الابتكار، وها نحن أولاء قد أصبحنا قادرين على أن نكشف اهتزازات الحرارة في كوكب بعيد، ونقيس طاقاتها.

 

إنَّ العاملات من النَّحل تصنع حجرات مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية، وتعد الحجرات الصغيرة للعمال والأكبر منها لليعاسيب، وتعد غرفة خاصة للملكات الحوامل.

 

والكلب بما أوتي من أنف فضولي يستطيع أن يحس الحيوان الذي مرَّ وليس ثمَّة أداة من اختراع الإنسان لتقوي حاسة الشم الضعيفة لديه، ونحن لا نكاد ندري أين نبدأ لنفحص امتدادها، ومع هذا فإن حاسة الشم الخاصة بنا هي على ضعفها قد بلغت من الدقة أنها يمكنها أن تتبين الذرَّات الميكروسكوبية البالغة الدقة، وكيف نعرف أننا نتأثر تأثرًا واحدًا، كذلك حاسَّة الذوق تعطي كلامنا شعورًا مختلفًا عن شعور الآخر، والغريب أن اختلافات الإحساس هذه هي وراثية.

اقرأ أيضا  في الحث على اغتنام ما بقي من شهر رمضان

 

والجندبة (النطيط) الأمريكية Katydid تحكُّ ساقها أو جناحيها معًا فيسمع صريرها هذا في الليلة الساكنة على مسافة نصف ميل، إنها تهز بها ستمائة طن من الهواء وتنادي رفيقها.

 

وكثير من الحيوانات هي مثل سرطان البحر Lobster الذي إذا فقد مخلبًا عرف أن جزءًا من جسمه قد ضاع وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل الوراثة، ومتى تمَّ ذلك كفَّت الخلايا عن العمل؛ لأنها تعرف بطريقة ما أن وقت الراحة قد حان.

 

وكثير الأرجل المائي إذا انقسم إلى قسمين استطاع أن يصلح نفسه عن طريق أحد هذين النصفَين، وأنت إذا قطعت رأس دودة الطعم تسارع إلى صنع رأس بدلاً منه، ونحن نستطيع أن ننشِّط التئام الجروح، ولكن متى يتاح للجراحين أن يعرفوا كيف يحرِّكون الخلايا لتنتج ذراعًا جديدة أو لحمًا أو عظمًا أو أظافر أو أعصابًا، هذا إذا كان حقًّا في حيز الإمكان؟!

 

وكل الحيوانات تسمع الأصوات التي يكون كثير منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصَّة بنا، وذلك بدقَّة تفوق كثيرًا حاسَّة السمع المحدودة عندنا، وقد أصبح الإنسان يستطيع بفضل وسائله أن يسمع صوت ذبابة على بُعْد أميال كما لو كانت فوق طبلة أذنه، ويستطيع بمثل تلك الأدوات أن يسجِّل وقع شعاع شمسي.

 

إن جزءًا من أذن الإنسان هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنية – قوس – دقيقة معقَّدة متدرِّجة بنظام بالغ في الحجم والشكل، ويمكن القول بأن هذه الحنية تشبه آلة موسيقية، ويبدو أنها مُعَدَّة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ بشكل ما كل وقع صوت أو ضجة من قصف الرعد إلى حفيف الشجر.

 

ويبدو أن الحيوانات لها القدرة على تبادل الشعور، مَن ذا الذي يراقب طائر الطيطوى – أو زمار الرمل – ولم يعجب به وهو يحلق في الجو ويدور حتى تطير كل طيور ذوات الصدر الأبيض في أشعة الشمس في وقت واحد؟

اقرأ أيضا  حسن العشرة بين المسلمين

 

وإذا حملت الريح فراشة أنثى من خلال نافذة إلى علية بيتك فإنها لا تلبث أن ترسل إشارة خفية، وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة ولكنه يتلقى تلك الإشارة ويجاوبها مهما أحدثت أنت من رائحة بمعملك لتضليلها، ترى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطَّة إذاعة؟ وهل لذكَر الفراشة جهاز راديو عقلي فضلاً عن السلك اللاقط للصوت (إيريال)؟ أتراها تهز الأثير فهو يتلقى الاهتزاز؟

 

وما دامت عقولنا محدودة فإننا لا نقدر أن ندرك ما هو غير محدود، وعلى ذلك لا نقدر إلا أن نؤمن بوجود الخالق المدبر الذي خلق كل الأشياء بما فيها تكوين الذرَّات والكواكب والشمس والسدم – جميع سديم – والزمن والفضاء هما عنصران في هذا الإدراك، وإن محاولة معرفة حقيقة الخالق لتحير أذكى الأذكياء.

 

كذلك لا يمكننا أن نحسب أن الإنسان هو الغرض الوحيد أو النهائي، ولكننا يمكننا أن ننظر إلى الإنسان على أنه أعجب مظهر لذلك الغرض، على أننا لسنا مضطرين لأن نفهم ذلك كله حتى نتقدم كثيرًا، وإن زيادة العلم لتشير إلى هذه النهاية.

 

إننا نقترب فعلاً من عالم المجهول الشاسع، إذ ندرك أن المادة كلها قد أصبحت من الوجهة العلمية مجرد مظهر لوحدة عالمية هي في جوهرها كهربية، ولكن ممَّا لا ريب فيه أن المصادفة لم يكن لها دخل في تكوين الكون؛ لأن هذا العالم العظيم خاضع للقانون[1].

[1] “العلم يدعو للإيمان”، ص189.

المصدر:الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.