الإنسان وحياته الأخلاقية
السبت11 صفر 1435 الموافق 14 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
أ. د. مصطفى حلمي
إن النظام الأخلاقي يوجهنا – كما يقول دوركايم – نحو السيطرة على النفس بالذات ويعلمنا كيف نسلك على غير ماتريد دوافعنا الباطنة، فلا يترك نشاطنا ينساب في مجراه الطبيعي، ولكن يعلمنا كيف نقدم السلوك بمجهود. ولذا فإن كل فعل أخلاقي يتضمن مقاومة نبديها لميل معين – وكبتًا لشهوة ما – وتقييمًا لنزوع خاص[1].
أضفت إلى ذلك أن الإنسان هو الكائن الأخلاقي الذي أعده الله سبحانه لقابلية الارتفاع إلى درجات الكمال بمقتضى روحه التي تمده لبلوغ الغاية المطلوبة وهو يشعر في أعماقه بهذا الصراع الدائم بين روحه المهيأة وبين أخلاط عناصر جزئه الأرضي أي جسده المعرض للسقوط[2].
إن الدور الذي تقوم به الأخلاق هو تجريد هذا العنصر الروحي فترتقي به فوق المستوى الطبيعي[3]، وهو ما يسميه بارتملي المبدأ الأسى أو القانون الملزم لنا.
وتفسير ذلك أن الإنسان يجد في نفسه صوتًا يناجي ضميره فيمدحه إذا ما عمل صالحًا ويلومه إذا ما عمل سيئًا، فهو بمثابة القانون الملزم الذي يناجي العقل “هو المبدأ الأسمى وفوق الإنساني“[4].
ويذهب بارتملي إلى أننا نشعر في أعماق نفوسنا بصدى هذا القانون ونعجز عن تغييره رغم وحي منافعنا وعمليات شهواتنا. هذا دليل على أنه أمر مغاير لنا، وهو ما يعنيه بقوله “هو فينا ولكنه ليس إيانا“.
وربما يأتي في العبارة التالية للإرادة شارحًا لمقصوده، فإن الإرادة على عكس هذا القانون “هي نحن… نحن، وهي شخصنا. وبقدرتنا المزدوجة على الطاعة والعصيان“[5].
“فالإرادة تستطيع بما لها من حرية ويطلق عليها من صفات الهبة المعجزة المخيفة” أن تنفذ هذا القانون أو يخالفه. ومن الصراع الناشب بينها يجد الإنسان أنه يحمل في نفسه ما يشبه القانون أو المحكمة تملك الحق في إصدار الحكم بالإدانة أو البراءة حاسب أنواع سلوكه، ورهن قدرتها على تنفيذ الأحكام قاصرة إما على الرضا إن عمل خيرًا وإما باللوم ووخز الضمير إن عمل شرًا[6].
إن الأخلاق إذن لصيقة بالإرادة، تدور معها إيجابًا وسلبًا، أي صعودًا إلى المستوى الإنساني الراقي، أو هبوطًا إلى المستوى الحيواني.
وتأكيدًا لهذه المكانة، فإن الدكتور دراز قد حدد تعريف الخلق بأنه “قوة راسخة في الإرادة تنزع بها إلى اختيار ما هو خير وصلاح إن كان الخلق حميدًا، أو إلى اختيار ما هو شر وجور إن كان الخلق ذميمًا“[7].
وكأنه يضعنا بهذا التعريف أمام مرآة نفسنا لكي ننظر فيها ثم نعدل اتجاه إرادتنا لنتحرى فعل الخير ونتجنب فعل الشر.
وهذا هو هدفنا من دراسة علم الأخلاق.
الهدف من دراسة علم الأخلاق:
قلنا إن الخلق في اللغة: هو الحجية والطب والعادة ولكن كلمة “خُلُق“وحدها لا تعطي معنى الأخلاق الحسنة؛ لأنها تحتمل المعنيين الحسن والقبيح، فكيف نكتسب الأخلاق الحسنة ونتخلص من الأخلاق السيئة؟
إن هذا السؤال في موضعه تمامًا لأننا نعتقد أن ثمرة العلم العمل، فلا يكفي في الدراسة الأخلاقية البحث العلمي في الحياة الخلقية وقوانينها، ولكن يجب أن نهدف إلى الإقناع بأنه في إمكاننا بواسطة الجهد الدائب أن نرتفع بأخلاقنا إلى المستويات الحسنة وأن نتخلص من الأخلاق السيئة، وهذا ما تنبه إليه علماء الإسلام حيث هدفوا إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة بالتكلف والمران. منهم الإمام ابن القيم الذي رأى أن يكون الخلق بالنفس يتم على مراحل ويأتي بالتكيف والتمرن، كالتحلم والتشجع والتكرم وسائر الأخلاق، فإذا تكلفه الإنسان واستدعاه صار سجية وطبعًا مستندًا في ذلك إلى حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – “ومن يتصبر يصبره الله“[8].
ويقول الراغب الأصفهاني: “الإنسان مفطور في أصل الخلقة على أن يصلح أفعاله وأخلاقه وعلى أن يفسدها، وميسر له أن يسلك طريق الخير والشر“[9].
وتصبح الدراسة الأخلاقية مساعدة على بذل الجهد الأخلاقي المطلوب، إذا اقتنعنا بعد البحث والدراسة أن في إمكان الإنسان التخلص من أخلاقه الرديئة واكتساب الأخلاق الحسنة، فالعلم لابد أن يقودنا إلى العمل وإلا فلا فائدة فيه إذ الاكتفاء بالعلم دون العمل مضيعة للوقت والجهد.
الهدف إذن من علم الأخلاق – كما يحدده ابن مسكويه “421هـ” أن نحصل لأنفسنا خلقًا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة ولا مشقة ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي[10].
ويشير ابن مسكويه في عبارته إلى رياضة النفس وتقويمها بالتهذيب والصقل حتى تصير الأخلاق ملكه.
ويقول زميلنا الفاضل الدكتور عبد اللطيف العبد: “إنه لابد من إعادة بناء شخصية الإنسان المسلم على أساس من القيم الأخلاقية الرفيعة، المستمدة من شريعة الله تعالى. لا على أساس المنهج المادي وحده، هذا المنهج الذي يجعل من الإنسان شخصية هزيلة الروح. وشبحًا بعيدًا عن الإنسانية والرحمة“[11].
ولتحقيق ذلك لابد من معرفتنا بأنفسنا والوقوف على المعركة الدائرة فيها بين الإرادة والغرائز.
الإنسان بين الغريزة والإرادة:
مهما تعددت النظريات الأخلاقية وتباينت الفلسفات التي تعالج المشكلات الأخلاقية فإنها تتفق على موضوع واحد تتخذ منه أساسًا لأبحاثها وهو الإنسان بعامة والإرادة الإنسانية بخاصة إذ أن الأخلاق تدور على ماهية الإنسان[12] فهي تعد بالبحث في عواطفه وغرائزه وانفعالاته وميوله وحاجات أساسية يتفق فيها مع الحيوان، وهي تمثل الحد الأدنى للإنسان. كما أن هذا الإنسان يتميز عن الحيوان بالعقل والعلم والإرادة. ولا يعنينا في الدراسة الأخلاقية كما قلنا العلوم والمعارف، بل يعنينا في المقام الأول الإرادة الإنسانية. ولهذا قلنا إن هذه الإرادة هي مركز الدائرة في المعظم- إن لم يكن كافة مذاهب المفكرين الأخلاقيين والفلاسفة، لأن علم الأخلاق يتناول دراسة أفعال الناس بالقياس إلى مثل أعلى[13].
وعندئذ يتضح لنا موضوع هذا العلم بصورة شاملة ولا نقصد بالأفعال الفصل بين النشاط الفسيولوجي والنشاط العقلي في الإنسان إلا لمجرد محاولة تبسيط الموضوع الذي نحن بصدده. فالحقيقة أن الجسم والروح هما وجهان لشيء واحد، فلا الروح ولا الجسم يمكن أن يفحص كل منهما على حدة – إذ يتكون الإنسان من جميع وجوه نشاطه الفعلية والمحتملة، ولكننا مع هذا سنظل نتحدث عن الروح باعتبارها شيئا ذاتيًا “فالروح هي جانب أنفسنا المحدد طبيعتنا والذي يميز الإنسان عن جميع الحيوانات الأخرى“[14].
والواقع أن كل عصر وكل مجتمع إدنا يضعان تحت “مفهوم الإنسان” إنسان“هذا العصر” أو هذا المجتمع لا “الإنسان المطلق” أو الإنسان بصفة عامة. وإذا كان من الحق أن الرجل اليوناني قديمًا لم يكن يحتسب للرجل البربري أي حساب، فإن من الحق أيضًا كما يقول “دوركايم ” إن الرجل الأوربي في أيامنا هذه ما يزال يعتقد أن الإنسان هو على وجه التحديد “إنسان هذا المجتمع الغرب المسيحي“[15]. وهذه النظرة تفسر لنا اختلاف الفلاسفة وعلماء الأخلاق في معالجتهم للمسائل الأخلاقية، وتكشف عن النزعة العنصرية أيضًا. على أن الاكتفاء بوصف الإنسان بأنه كائن ناطق روحي شاعر بذاته[16]، قد يصلح في مجال دراسة علم النفس الذي يعنى بدراسة الإنسان من الناحية النفسية أو العقلية، ولكنه لا يعطينا المدلول الرئيسي في مجال الأخلاق؛ إذ لابد من إثبات الإرادة حتى يمكننا تحليل السلوك الإنساني من حيث حرية الفعل أو العكس. وتظهر المسئولية الأخلاقية بوضوح إذا نظرنا إلى ركنيها الرئيسيين وهما كما بينا من قبل – العقل وحرية الاختيار[17]، وما دام الأمر كذلك فإن البحث في مجال الأخلاق له صلة وثيقة بالتربية.
[1] التربية الأخلاقية: إميل دوركايم ص 47.
[2] ابن باديس حياته وآثاره إعداد وتصنيف: د. عمار السالبي ج1- ص 515 دار ومكتبة الشركة الجزائرية 1388هـ- 1968م.
[3] المشكلة الأخلاقية: زكريا إبراهيم ص 28.
[4] مقدمة كتاب الأخلاق لأرسطو: بارتملي ص 13.
[5] بارتملي: ص 13.
[6] نفسه ص 13.
[7] دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية: للدكتور محمد بن عبدالله دراز ص88 ط دار القلم بالكويت 1393هـ/1973م.
[8] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين: ابن القيم ص 12 مطبعة الإمام بمصر تعليق زكريا إبراهيم.
[9] تفصيل النشأتين: للراغب الأصفهاني ص 52.
[10] تهذيب الأخلاق: ابن مسكويه ص 2.
[11] الأخلاق في الإسلام: د. عبد اللطيف العبدي ص5 مكتبة دار العلوم 1405هـ- 1985م.
[12] تاريخ الفلسفة اليونانية: يوسف كرم ص 53.
[13] مقدمة في الفلسفة العامة د. هويدي ص 214.
[14] الإنسان ذلك المجهول ص 141.
[15] المشكلة الخلقية: زكريا إبراهيم ص 61.
[16] مقدمة كتاب سدجويك: توفيق الطويل ص 35 ج1 دار نشر الثقافة بالإسكندرية 1994م.
[17] الكتاب التذكاري- ابن عربي: توفيق الطويل ص 171 الهيئة العامة للتأليف والنشر 1389هـ- 1969م.
المصدر:الألوكة