طرق الإلزام الأخلاقي وتنوعها (أو وسائل الردع والزجر) في الإسلام

الأحد12 صفر 1435 الموافق 15 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

أ. د. مصطفى حلمي 

تنطوي الشرائع الوضعية على الإلزام، ولكنه إلزام سطحي، يتسم بالنقص حيث يقف عند حدود الجرائم دون أن يتناول الأخلاق، وينص على التخويف بالعقوبات الدنيوية دون الأخروية، أو يعتمد على الاقتناع العقلي. 

ولكن القرآن يمتاز عن الشرائع باستكماله طرق الإلزام، ومعنى الإلزام هو إلزام المكلف بتصديق ما قرره من الحق، وتنفيذ ما شرعه من الأحكام والأخذ بما وصى به من مكارم الأخلاق والعزوف عما نهى عنه من مساوئها.

 

وقد عدد القرآن – كما يذكر الشيخ نديم الجسر – طرق الإلزام وفصلها وشعبها، كما أوضح الكبائر والصغائر والأخلاق والآداب، مفصلًا أبواب الترهيب والترغيب، متبعًا طرق التربية الأخلاقية التي تهذب النفس وتقومها.

 

وتكاد تنحصر طرق الإلزام في القرآن في ستة أنواع كما حددها الشيخ نديم الجسر في بحثه الجامع بين دراسة النفس والأخلاق في الإسلام[1]، نلخصها فيما يلي:

1- الإلزام بوازع العقل:

إن مزية الإسلام الكبرى على باقي الأديان هي منحة العقل والسلطة في الفهم واستنباط الأحكام، والآيات القرآنية التي تحث على تحكيم العقل وترك اتباع الظن لا تكاد تحصى، ذلك لأن عقل الإنسانية في بدايته وأثناء مراحله الأولى كان عاجزًا أمام التجارب المحدودة أن يدرك الخير، وأن يحدد مكارم الأخلاق ومساوئها، وكان الوحي السماوي يتولى هذا التجديد بواسطة الرسل. وعندما تكامل العقل الإنساني وبلغ حدًا يستطيع أن يعرف الحق والخير “أنزل الله سبحانه آخر كتبه على آخر رسله، وجعل للعقل بمقتضى هذه الشريعة الأخيرة السلطان الأعلى في إدراك حكمة ما حدده القرآن من المبادئ لخدمة الحق والخير ومكارم الأخلاق[2].

 

وآيات النظر العقلي، والحض على النظر والتفكير والتدبر كثيرة في القرآن، مع وصفه للغافلين بأنهم يعيشون كالأنعام، لا حظ لهم في تزكية الأنفس أو تثقيف العقول. وهكذا أبطل القرآن الحجر على حرية التفكير حيث كانت التقاليد الدينية قد كبلت بهذا الرق البشرية “وإن أكثر ما ذكر فعل العقل في القرآن قد جاء في الكلام على آيات الله، وكون المخاطبين بها، والذين يفهمونها، ويهتدون بها هم العقلاء[3].

 

ولئن كان منأشرف ثمرات العقل معرفة الله تعالى وحسن طاعته والكف عن معصيته[4]، فإن من البديهي أيضًا أن يصبح اللإلزام بوازع العقل في المحيط الأخلاقي هو عماد طرق الإلزام وأولها، إذ أوضح القرآن أن الله خلق الإنسان ليعبده وأنه يريد اختياره في هذه الحياة الدنيا، كما بين أنه لا إكراه في الدين، ودل على الأوامر والنواهي، لذلك كان الاقتناع العقلي بصحة القضايا العقلية والمبادئ والأحكام أول أنواع الإلزام[5].

 

2- الإلزام بوازع الضمير:

ولكن اللإلزام العقلي لا يتم إلا للقلة من الحكماء الذين يعبدون الله تعالي، ويدعون أوامره، لأنه سبحانه مستحق بذاته للعبادة وأن أوامره مستحقة الطاعة.

 

ولكن الكثرة الغالبة لا يكفيها وازع العقل، وتحتاج إلى وازع الضمير كزاجر يبعدها عن الذنوب التي تخفى على أعين الناس، ولا ينالها العقاب الأرضي بواسطة البشر. والضمير هو عبارة عن حالة نفسية من الانشراح أو الانقباض، ويتكون من الحكم العقلي على الأفعال بالنظر إلى حسنها وقبحها، نفعها وضررهاومن الإيمان بالله، وقدرته، وعدله، ومن الخوف على النفس، والأموال، والأولاد، ومن خوف العقاب من الله ومن الناس[6].

اقرأ أيضا  الإعجاز في أسلوب الرسول الكريم

 

ويرتبط الضمير بفكرة المسئولية، وضمير المؤمن موصول بالله سبحانه فهو يعيش في حراسة ضميره ويقظة نفسه اللوامة.

 

ولما كانت النفس البشرية معتركًا للخير والشر، فإن سلاح مجاهدة المؤمن هو الضمير أو النفس اللوامة “ويسمى هذا الضمير في عرف أهل الشرع المراقبة أو خوف الله أو وازع القلب[7]، ذلك أن في إمكان الإنسان أن يخدع القانون أو يستغله لصالحه أو يحتال عليه، أو يفلت من العقاب الذي ينص عليه لأن القانون من صنع الناس أنفسهم، أما ضمير الإنسان المؤمن فهو بمثابة “محكمة أمن” داخل الإنسان “لا يمكن خداعها ولا الفلات منها ولا تجدي عنها المعاذير، لأنها مرتبطة برقابة عليا، إنها لوامة دائمًا، توجه إلى صاحبها إنذارات التأنيب، حتى ترده إلى الخير[8].

 

ومن مكونات الضمير الكبرى الرقابة الإلهية[9] التي نفهمها من الآيات القرآنية العديدة التي تحذرنا مغبة الانحراف عن الطريق السوي لأن الله سبحانه ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19].

 

ومن هذه الآيات ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16].

 

﴿ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [النمل: 75].

 

﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل: 19].

 

 

﴿ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم: 38].

 

﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء: 108].

 

﴿ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا [يونس: 61].

 

3- الإلزام بالترهيب والترغيب:

تنوعت أساليب القرآن من حيث الترهيب والترغيب. ففيما يتصل بالترهيب فإن الله سبحانه يحذر العاصي من انتقامه في النفس والأولاد، أو في الأموال والثمرات هذا في الدنيا. أما في وللآخرة، فالتحذير من أهوال القيامة وعذاب النار.

 

وفي جانب الترغيب، وعد بخير الدنيا وزيادته لمن يشكر، وحفظ النعم على من يحافظون على سلوك طريق الاستقامة، ووعد المتقين بالجنة في الآخرة بما فيها من نعيم دائم، لتعويض المحرومين من خير الدنيا في المآكل والمشارب والمساكن وغيرها وهو وصف يعترض عليه بعض الجهال والمشككين الذين يملأ الزيغ قلوبهم، أما الذين يدركون خفايا النفس البشرية في شدة حبها للخير والنعيم، ونقمتها من الحرمان، فإنهم ليعلمون أنه وصف لازم وضروري وفي منتهى الحكمة[10].

 

4- الإلزام بوازع الكفارات:

ومن أساليب تربية الضمير، تفويض الله سبحانه إلى العبد أن يعاقب نفسه جزاء لما اقترفت يداه، وتكفيرًا عن بعض الذنوب كالصوم، وهي عقوبة جسدية، أو عتق رقبة أو إطعام المساكين وهي عقوبة مالية. وهكذا يظهر لون من امتحان الإيمان وتعود الإنسان على محاسبة نفسه، بعد الإقرار بذنبه، والإذعان لحكم ربه وفيها تربية للضمير، واستحضار للرقابة الإلهية، وتعويد على حفظ الإيمان والكف عن بعض المخالفات[11].

اقرأ أيضا  دعوات الرسل عليهم السلام

 

وعن أنواع الكفارات ودورها الاجتماعي أيضًا يرى الشيخ محمد أبو زهرة – رحمه الله – “أن الإسلام جعلها بمثابة التعاون الاجتماعي، من أفطر في رمضان بغير عذر شرعي فعليه عتق رقبة، أو صيام ستين يومًا أو إطعام ستين مسكينًا ومن قال لامرأته أنت حرام على كأمي لا يقربها إلا إذا أعتق رقبة أو صام ستين يومًا أو أطعم ستين مسكينًا، ومن حلف وحنث في يمينه كان عليه عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم[12].

 

5- الإلزام بوازع الرأي العام:

ومن الأساليب التي امتاز بها القرآن في التربية، هو الأخذ بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قدر الطاقة، ولا سيما في النهي عن منكرات الأخلاق التي لا تمتد إليها يد القوانين والحديث أيضًا يؤيد هذا الأسلوب وهو قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه“.

 

ويعتمد هذا الإلزام على استثارة غريزة حب الظهور والرغبة في الثناء ولا خوف من الذم، وهذه من حكم القرآن التي تحول طاقة الغرائز، وتعمل على إعلائها إلى الخير بالأسلوب الذي اكتشفه علماء النفس بعد قرون عديدة[13].

 

لقد أخذ القرآن بأساليب التربية التي تعتمد على نظرة الإعلاء للغرائز، مثل تحول المقاتلة للنهب والسلب إلى الدفاع عن الوطن والمستضعفين والشرف، وغريزة حب الظهور بالكرم والسخاء، والتبذير إلى الإنفاق في سبيل الله، وغريزة حب الظهور ومدح الناس، لتوجيه الإنسان إلى عمل الخير وصرفه عن الشر.

 

ونستطيع أن نختار بعض الآيات التي تشير إلى هذه المعاني في النفس البشرية، مثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53]، تشير إلى جموح الغرائز والشهوات.

 

﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة: 36] إشارة إلى غريزة المقاتلة وتنازع البقاء.

 

﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54] إشارة إلى غريزة حب الاستطلاع، والبحث والانسياق مع هوى النفس.

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء: 36]، ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7]، ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ [آل عمران: 188].

 

وهذه الآيات تشير إلى غريزة حب الظهور والاستعلاء والتفاخر.

 

وقد ارتقى القرآن بالنفس البشرية إلى أسمى الغايات، حتى يصبح العمل ابتغاء مرضاة الله “بل إنه بلغ من عناية القرآن بإعلاء نفس المسلم فحصر أعظم المدح وأوثق الوعد والرضوان والنجاة من نار جهنم بالأتقى الذي ينفق إكرامًا لوجه ربه الأعلى[14].

 

6- الإلزام بوازع السلطان:

اقرأ أيضا  العناية بشروح كتب الحديث والسنة

وقد لا يصلح مع بعض الناس طرق الإلزام السابقة، فقد لا يكفي وازع العقل وحده عند جميع الناس، كما لا يكفي وازع الضمير عند الغارقين في الجرائم والآثام، والترهيب لا يحقق هدفه مع المفضلين للعاجلة، أو المعتمدين على رحمة الله عز وجل بلا تفكير في أن الرحمة لا تناقض العدل والحكمة البالغة، ووازع الرأي العام لا يؤتي ثماره مع الذين جف في وجوههم ماء الحياء من الله، والناس لا سيما عندما يعم البلاء، كما يضرب الله المثل بما حدث للذين كفروا من بني إسرائيل حيث ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 79] لذلك كان لا بد من وازع أعظم، وهو وازع السلطان، حيث قيل “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وهى العقوبات المختلفة التي فرضها القرآن على بعض الجرائم، وفوض أمرها إلى الحكام[15].

 

وأخيرًا فإننا نرى أن القرآن جمع الوازعات كلها حول الإنسان، ولم يكتف بنوع واحد منها أو اثنين، كما اكتفت الشرائع والقوتين الأخرى، إذ أن وازع السلطان أيضًا قد لا يمتد إلى بعض الجرائم التي تخفى عليه “أو يفلت من يد العدالة من ضعف الحكومة أو فقدان الأدلة أو فساد القضاء[16].

 

واجتماع الوازعات كلها قد يكفي عند أكثر الناس، لأن إحاطتها بالإنسان تردعه وتزجره وتنهاه.

 


[1] القرآن في التربية الإسلامية: الشيخ نديم الجسر ص 102.

وهو بحث جامع عميق يحتوي على دراسة قضايا حيوية في النفس والأخلاق ويقع في نحو 75 صفحة من القطع الكبيرة منشور في مجلة مجمع البحوث الإسلامية عدد خاص بعنوان (التوجيه الإسلامي للشباب) 1391هـ- 1971م.

[2] القرآن في التربية الإسلامية: الشيخ نديم الجسر ص 88.

[3] الوحي المحمدي: محمد رشيد رضا ص 183 المطبعة السلفية.

[4] الذريعة إلى مكارم الشريعة: الراغب الأصفهاني ص 66.

[5] القرآن في التربية الإسلامية: الشيخ نديم الجسر ص 104.

[6] نفسه ص 95.

[7] ينظر البحث السابق عن الجيلاني.

[8] دروس ونفوس: د. توفيق سبع ج1 ص 210، 211، ط مجمع البحوث الإسلامية.

[9] القرآن في التربية الإسلامية. الشيخ نديم الجسر ص 82.

[10] القرآن في التربية الإسلامية: الشيخ نديم الجسر ص 105.

[11] نفسه ص 97.

[12] كتاب (تنظيم الإسلام للمجتمع) للشيخ محمد أبو زهرة ص 21 ط دار الفكر العربي- بدون تاريخ.

[13] القرآن في التربية الإسلامية: الشيخ نديم الجسر ص 106.

[14] القرآن في التربية الإسلامية: الشيخ نديم الجسر ص 48، 50، 62، 106.

[15] نفسه ص 106.

[16] نفسه ص 107.

المصدر:الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.