عداء اليهود للدين الإسلامي
الأحد12 صفر 1435 الموافق 15 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
أ. د. مصطفى حلمي
عداء اليهود للدين الإسلامي
النص المحقق من كتاب: “النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة“
العداء اليهودي هو السبب:
ومما يَنبغي أن ننبِّه عليه أنه ليس مِن المُستبعَد أن تكون هذه العداوة الضارَّة التي ذكرْنا نبذة من مكايدها، وهي متوجِّهة نحونا تارة بالذات، وتارة بصورة تهييج العداوة بين المسلمين والنصارى، عبارة عن عداوة اليهود، ولقد صدق الله – تعالى – حيث قال: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [المائدة: 82]؛ فاليهود معلومون ومعلوم تقادُم عداوتهم للمسلمين وفتنتهم المتصاعدة إلى عهد الخلفاء الراشدين[1].
وإني لذو شبهة مِن أنملة اليهود في اغتيال أكثر الخلفاء الراشدين، وفيهم الخليفة الأعظم والأعدل عمر بن الخطاب رجل الإسلام والمسلمين، لا سيما في دم عثمان بن عفان التي كانت مبدأ كل فتنة حدثت في الإسلام، وإنا – معاشر المسلمين الحاضرين – لمُقصِّرون في التنقيب عن تلك الوقائع الهامة وتدريس مسائلها في مدارسنا ليتعلم الطلاب والشباب قبل تعلمهم بتاريخ الأجانب تاريخ الإسلام وما يَحوط بحياة النبي – صلى الله عليه وسلم – وخلفائه من الشؤون بتفاصيلها، فنعتبر بها ويعتبر الطلاب والشباب، ويتأدبوا بآداب الإسلام في عصره الذهبي، ولنتعرف ونَكتَنه عبدالله بن سبأ وما لعب مِن الدور، بل وكعب الأحبار[2]، ثم إني أحسُّ في هدم سلطنة عبدالحميد – وقد أبلغه قرار خلعِه[3] “قره صوه” الاتحادي الشهير الإسرائيلي – تمام ظفر اليهود الذين ابتدأت فِتنتُهم في صدر الإسلام على الحكومة الإسلامية، ضدَّ مَن عدَّ جمهورية أنقرة إنشاءً وإحياءً ما هدمته وأعدمته واقعة “صفين” من الحكومة الإسلامية الراشدة، نعود إلى قوله – تعالى -: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [المائدة: 82]، فاليهود ذكرنا شدة فتنتهم وعلاقة عداوتهم، والاتحاديون والكماليون اللادينيون من الذين أشركوا، فاتَّفق هذان الخصمان الألدان وعمدا إلى قطع دابرنا ودابر دولة الخلافة، ولن تجد ملة أو قومًا في خارج بلادنا وداخله دامت مودة الاتحاديين والكماليين معهم إلا اليهود بأصليهم وعودتيهم، ولا يُقاس عليهم في الوثوق بصداقتهم في داخل المملكة غيرهم ولو كان مِن الأقوام الإسلامية؛ حتى إن الأتراك لا تَعْدِلُهم في ذلك، فلهذا لم يسلَم مِن اعتدائهم في تركيا ما بين ألبانها وعربها وأكرادها وأرمنها وأروامها وشراكسها وأتراكها إلا اليهود[4]، وحتى إنه لم يطَّرد اتخاذهم وليجة ولا وليًّا مِن مشايخ الإسلام اطِّراد اتخاذهم من رؤساء الحاخام.
إذا نظرت بعين الحقيقة والبصيرة رأيت للإسلام أعداءً مُظهري العداوة وأعداءً مُسرِّيها، والاتحاديون والكماليون مِن القسم الثاني، وأكبر الأعداء أخفاهم مكيدة، يَعرِف ذلك مَن بلاهم وذاق بلاياهم واستقصى أحوالهم وأفعالهم، وإن افتتن بهم مَن سمعهم من بعيد بدلالة الألسنة والأقلام المستأجرة بأموالهم وبأموال مَن تُعهَد مُظاهرتهم مِن الجمعيات السرية النافذة في سياسة العالم[5]، ولقد غيَّر الاتحاديون والكماليون ما يتذكَّر فيه مَن تذكَّر، وحدث كثير مِن الحادثات والعبر، وهذه الدولة – أي العثمانية – التي صارت الدولة العظيمة في الأعصار وفي قريب عهدها ضيَّقت المعركة على جيوش اليونان بقرب عاصمته انحطَّت بأيديهم وأيدي إخوانهم في أقل زمان، وهبطت إلى حال يَعدلها فخرًا إنقاذ الأزمير من اليونان، ثم يطغى بهم هذا الفخر حتى يُخوِّلهم حق البغي والخروج على تلك الدولة والاستهانة بمجدها وشخصيتها المادية والمعنوية، وتغيير كل ما كان موضوعًا فيها، فجعلوا الدولة مُلغاة، والخلافة خرافة، والسياسة تلصُّصًا، وأهل الديانة عالميها وعامليها ودور كتبها التي تُباع فيها أو تُخزن للمطالعة كلها فضالة واجبة الإزالة، وقطعوا نسب الأمة مِن آبائهم القريبة العثمانية والإسلامية، وذهبوا بهم إلى الآباء البعيدة المنسية المُشرِكة، مُريدين مِن هذا القطع والانتساب قطع علاقاتهم بسائر الأمم الإسلامية أيضًا، فتركوا أمة الترك المسلمة المسكينة بلا آباء ولا إخوة إسلاميين، ومع ذلك ترى للأمم الإسلامية حبًّا لهؤلاء القطَّاع الطرق والرحم كل يوم جديد بمَكرٍ جديد، ولله در أبي فراس حيث قال:
وبعض الظالِمين وإن تناهَى شَهِيُّ الظلمِ مُغتفَر الذُّنوب |
فيا أهل الإسلام، ما هذه الألاعيب التي بكم يَلعبون؟ أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟ يومًا يقولون: إن “كريد” رُوحنا، ويومًا: إن “أدرنة” قرة أعيننا، و“سلانيك” كعبتنا، و“أزمير” عوض لنا عن جميع بلداننا المُضيَّعة في الحرب الكبرى والباقية في الحرب الكبرى والباقية في أيدينا وعن دولتنا العثمانية وخلافتنا الإسلامية وشريعتنا السمحاء، ويومًا يعدُّون الأستانة عبئًا ثقيلاً علينا، و“الطوران” وطننا، ويأجوج أصلَنا، وجِنكيز جدَّنا المعادل لجدِّ “الحُسين“، تراهم يَشنقون – اقتصاصًا لبعض الأرمنيِّين الذين قُتلوا في ثورة “أطنة” عام 1909 – جمًّا غفيرًا من المسلمين، ثم يستكثرون شنْقَ مسلم واحد – كمال بك قائم مقام قضاء “بوغازليان” – لقَتلى الأرمن في خلال الحرب الكُبرى، تارة يرون شهداء مِن الأرمن، وتارة يعدُّون الألبان والأكراد والشراكِسة والعرب والعلماء الإسلامية والسلاطين العثمانية خوَنة الوطن، فإذا أقبلوا على مَن شاؤوا من أنذل الناس وأضلِّهم جعلوه أميرًا أعظم يُصلى عليه ويُسلَّم، وإذا غَضبوا وسَخطوا خليفة المسلمين أمطروا عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، يضعون الشريف ويرفعون الوضيع، وينبِذون كتاب الله وراء ظهورِهم، ويسمونه كتابًا أسود، وعصبة الدين قوَّة سوداء، ومن يُكابدهم يلقَ عجبًا، وقد اتخذوا الإسلام والمسلمين هزوًا ولعبًا، فلو قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مِن روضته وناوأهم لقالوا هذا خائن الدِّين والوطن[6]، والحاصل أن ما أعظموا من المكان والإنسان يَصير عظيمًا، وما هانوه يصير مهينًا، والمسلمون – إلا مَن هَدى الله منهم – يُصدِّقونهم في كل ذلك.
هو الجدُّ حتى تَفضُل العينُ أختَها وحتى يكون اليومُ لليومِ سيِّدا |
فكأن المسلمين ليس لديهم أساس ولا قِسطاس يوزَن به كلُّ مَن يُريد أن يتقدَّم عليهم، ويُسلِّمون قيادهم إلى هديه؛ فلذلك تراهم يومًا يُلبِّسون الشرع الأنور بشرع “الأنور“، ويومًا يَخضعون لحكم مصطفى كمال أكثر مِن خضوعهم لأحكام الرب المُتعال.
وإعظام أمر أزمير مِن هذا القبيل، مع أن مَن منحَهم اليونان هم الذين دخلوا الحرب الكبرى ضدَّ حلفاء اليونان وغُلبوا فيها كما ذكرنا من قبل، فلو لم يكن منا الولوج في تلك الحرب لما وقعَت واقعة أزمير ضياعًا واستردادًا، كما لم تقع واقعات البلاد العظيمة التي ماثَلَ كلٌّ منها أزمير ضياعًا ولم يُماثِلها استردادًا، ثم لو لم يكن ذلك الولوج لما انحصَر ربحنا بعدم ضياع تلك البلاد واسترداد أزمير، بل ضاعت مِنا بترك المُحايَدة في تلك الحرب فرصة عُظمى لا تَسمح الدهور بمثلها، ولو انتُهزت لكان يُمكن أن يُستدرَك بها ما فقدته الدولة العثمانية في الأعصار الأخيرة مِن سياساتها واقتصادياتها بلا سفكِ قطرة مِن دماء أمتها، ووجد في راحتها اليوم مع تلك الساحة الوسيلة شعب مرفَّه وجيش يبلغ مليونين ما قلَّ منه نفس أو عضو أو كلَّ[7].
[1] يُظهِر هذا الرأي سَعَة اطِّلاع الشيخ مصطفى صبري وإلمامه الدقيق بأحداث التاريخ وترابُط حلقاته، أضفْ إلى ذلك مراقبته لأفعال اليهود مِن معاصريه؛ حيث اتَّضح له تَسلسُل المؤامرات التي لم تنقطع منذ عبدالله بن سبأ حتى “قره صوه“.
وفي دراسة أخرى للدكتور محمد بديع الشريف، يرى تسلسل العداء اليهودي مرَّ مُترابطًا منذ عصور المسلمين الأوائل؛ فإن التآمر على قتل الخليفة الثاني – رضي الله عنه – لا يختلف عن الفتنة التي أشعل نارها عبدالله بن سبأ الذي أطلق فكرة تأليه علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وتآمر على قتل الخليفة الثالث، ولا يختلف عن يعقوب بن كلس وزير الإخشيدي الذي دلَّ المُعزَّ لدين الله – وهو مِن الباطنيَّة – على عورات البلاد في حكم سيِّده، وهذا لا يختلف عن دزرائيلي الذي اشترى لقومه أسهم قناة السويس، واحتجز للإنجليز جزيرة قبرص؛ “كتاب الصراع بين الموالي والعرب” (ص: 179).
[2] انقاد الشيخ مصطفى في اتهامه لكَعب الأحبار بما رواه الطبري في الرواية التي تُشير بأصابع الاتهام لكعب – رضي الله عنه – بأن له يدًا في استِشهاد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وقد ناقَش الدكتور الذهبي – رحمه الله تعالى – مدى صحَّة هذا الخبر، وخلاصته أنه جاء إلى عمر قبل مقتله بثلاثة أيام وقال له: اعهد؛ فإنك ميت في ثلاثة أيام، قال: وما يُدريك؟ قال: أجده في كتاب الله – عز وجل – وفي التوراة، قال عمر: إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكن أجد صفتك وحليتَكَ، وأنه قد فني أجلك.
ويرى الشيخ الذهبي أن ابن جرير لم يلتزم الصحة في كل ما يرويه، كما أن ما يرويه في تاريخه لا يعدو أن يكون مِن قبيل الأخبار التي تَحتمِل الصدق والكذب.
كذلك يدافع الذهبي عن كعب الأحبار ردًّا على المُفتريات التي وجَّهها البعض إليه، محتجًّا بمقالات بعض أعلام الصحابة فيه، ومحصيًا مَن أخرَج له مِن شيوخ الحديث في مصنفاتهم، مُستخلصًا من ذلك كله ما يشهد لهذا الصحابي الجليل بقوة دينه وصدق يقينِه، وأنه طوى قلبه على الإسلام المحضِ والدِّين الخالص، ويُبرهِن على ذلك بالعوامل الآتي بيانها:
أولاً: أنه أسلم – على المشهور – في خلافة عمر – رضي الله عنه – وسكَنَ المدينة وصحِب عمرَ وروى عنه، وشارك في غزو الروم في خلافة عمر – وهو العبقري الملهم – فلا يعقل أن يُساكِن كعبًا في المدينة ويصاحبه ويكتبَه في جيش المسلمين لغزو الروم وهو مخدوع فيه وفي إسلامه.
ثانيًا: كان له بالثقافة اليهودية والثقافة الإسلامية مَعرِفة واسِعة.
ثالثًا: أجمعَ العلماء على توثيق كعب.
وقد أسهب الشيخ الذهبي – رحمه الله تعالى – في تفنيد الاتهامات الموجَّهة إلى كعب؛ حيث حلَّل الأقوال كلها مما لا يَدعُ مجالاً للشكِّ في عدله وتوثيقه، ونُحيل القارئ الكريم إلى هذا البحث القيِّم، مُكتفين هنا فقط بمناقشة ألصق هذه العبارات بموضوعنا الواردة على لسان معاوية: “إنا كنا لنَبلو عليه الكذب“.
وبالرجوع إلى شُرَّاح الحديث نجدهم – كما يقول الدكتور الذهبي – يَشرحونه بما يُبعد هذه الوصمة الشنيعة عن كعب الأحبار، وفي شَرحِ ابن حجر في الفتح يقول “وإنا كنا لنبلو عليه الكذب”؛ أي: يقع بعض ما خبَّرَنا عنه بخلاف ما يُخبرنا به، وقال ابن حبان في كتاب “الثقات”: أراد معاوية أنه يُخطئ أحيانًا فيما يُخبر به، ولم يردْ أنه كان كذابًا، وقال غيره: الضمير في قوله “لنبلو عليه” للكتاب لا لكَعبٍ، وإنما يقع في كتابهم الكذب لكَونِهم بدَّلوه وحرَّفوه.
وقال عياض: يصحُّ عَوده على الكتاب، ويصحُّ عَوده على كعبٍ وعلى حديثه، وإن لم يَقصِد الكذب ويتعمَّده؛ إذ لا يُشترَط في مُسمى الكذب التعمُّد، بل هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وليس فيه تجريح لكعب بالكذب، وقال ابن الجوزي: إن بعض الذي يُخبِر به كعب مِن أهل الكتاب يكون كذبًا، وإلا فقد كان كعب مِن أخيار الأخيار.
ويضيف الشيخ الذهبي إلى ذلك وصف معاوية لكعب بقوله: “إلا أنَّ كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده عِلم كالثمار – وفي رواية: كالبحار – وإن كنا لمُفرطين”، فمعاوية – رحمه الله – قد شهد لكعب بالعلم وغزارته، وحكَمَ على نفسه بأنه فرَّط في علم كعب، فهل يُعقَل أن معاوية يشهَد هذه الشهادة لرجل كذاب؟ وهل يعقل أن يتحسَّر ويندم على ما فاته مِن علم رجل يدلس في كتب الله ويُحرِّف في وحي السماء؟ “اللهم إن كعبًا مظلوم مِن متَّهميه، ولا أقول عنه إلا أنه ثِقة مأمون، وعالم استُغلَّ اسمُه فنُسب إليه روايات معظمها خرافات وأباطيل، لتروج بذلك على العامة، ويتقبَّلها الأغمار مِن الجهلة”، (ص: 139 – 140)؛ يُنظَر كتاب الشيخ الدكتور محمد السيد حسين الذهبي: الإسرائيليات في التفسير والحديث، سلسلة البحوث الإسلامية – السنة الثالثة – الكتاب السابع والثلاثون شعبان 1391 هـ – أكتوبر سنة 1971 م، من (ص: 125) إلى (ص: 140).
[3] بعدما يئس اليهود من السلطان عبدالحميد لرفضه رشوتهم مقابل شراء أراضٍ بالقدس استطاعوا – بواسطة يهود الدونمة كما أوضحنا – القيام بانقلاب ضدَّه، وزيادة في التشفي من السلطان، حمل له كتاب التنازل هذا اليهودي “قره صوه“.
[4] وهكذا أثبتَت الأحداث أن اليهود يختفون وراءها، يقول هربرت إبري: “ولم يكن أحد مِن الناس يجرؤ أن يتنبأ أن هذه الفئة المغمورة المعروفة بـ “الدونمة” ستلعب دورًا رئيسيًّا في ثورة كان لها نتائج خطيرة في سير التاريخ؛ نقلاً عن د/ يوسف القرضاوي: الحلول المستوردة (ص: 153).
[5] وهنا أَذكُر ما جرى في البرلمان العثماني عند بدء الحرب بيننا وبين الإيطاليين في “طرابلس الغرب”، وقد عقدت جلسة سرية بطلب سعيد باشا رئيس الوزارة الاتحادية يومئذ، وكان الغرض من عقده المجلس استجلاب أصوات الثِّقة بتلك الوزارة مِن النواب، فاتفق أن قرأ “محمود ناجي بك” نائب طرابلس الغرب وعيناه تدمَعان رسالة أرسلها إليه أخوه، وقد كُتبت قبل بدء الحرب بعشرة أيام، يقول فيها: يا أخي، ماذا تصنعون؟ وماذا تصنع الحكومة وقد جرَّدت بلادنا مِن أدوات الدفاع؛ فسحبَت المدافع الكبرى عنها، ودعت الوالي وقائد الجيش إلى الأستانة ولم تُقِم مقامهما غيرهما، وأنا أطالع وأتتبَّع صحُف الإيطاليين من زمان فأراها اليوم تحثُّ الحكومة على الاحتلال بطرابلس قائلة: إن هذا وقته فيجب انتِهاز الفرصة، وهذا مشروع جميع الأحزاب في إيطاليا لا يُخالفهم إلا فريقان، وهم البناؤون الأحرار ويتبعهم الاشتراكيون، وهم يقولون: لا يجدر بنا أن نَصول على الأتراك حال كون حكومتها في أيدي البنائين الأحرار؛ لأن ذلك يُفضي إلى تَزعزُع مراكزِهم هناك، هذا ما سمعتُه بأذني وأنا نائب “توقاد”، وحمله معي من النواب أكثر مِن مائتين، فإن لم يشهدوا به فسيَشهدون يوم يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، وقارئ الرسالة – أعني محمود ناجي بك – كان مِن حزب الاتحاد، ولكنه أثر في الحال والزمان فلم يَملك نفسه، وأنطقه الله الذي أنطق كل شيء، وفيه عِبرة لمن يَعتبِر ويَختبِر مِن ماضي الاتحاديين وحالهم، ولم يَعسُر على أصحاب النظر فهمُ الرابطة بين الماضي والحال، كما لم يعسر فهمهما من الرجال بعد تقلب عنوانها إلى الكماليين الذين كان أول وفد منهم دخلوا الأستانة في رئاسة رأفت باشا نزلوا “محفل الشرق”. (م. ص).
[6] إلى هذا الحد كمَّموا الأفواه، وفرضوا أنفاسهم بقوة البطش والطغيان لكل مَن يَعترِض على أتاتورك، لا سيما إذا ارتفع صوت ينادي بالإسلام، فقد ثارت قبائل الأكراد التي تَستوطِن الجبال المُجاوِرة للحدود الإيرانية، وارتفعت صيحتها المدوية “تسقُط جمهورية أنقرة، ويحيا السلطان والخليفة”، ثم زحفَت جحافلها الضارية نحو أنقرة تبغي “إنقاذ الإسلام”، فانقضَّ عليها مصطفى كمال بعد أن خدَع الشعب كطريقته المعتادة؛ بحُجَّة أن الإنجليز وراء الأكراد، وباتَت كردستان كلها طُعمًا للنار والسيف؛ أحرقت قراها، وعذِّب رجالها وقتلوا، وأُتلِفت محاصيلها، واغتُصبت نساؤها وقتل أطفالها؛ أرمسترونج: مصطفى كمال الذئب الأغبر (ص: 215، 216).
[7] وكأن أعداء الدولة العثمانية استدرجوها للحرب ضدَّ مصلحتها، ونتائج هذه الحرب تؤيد هذا الاحتمال، وإن مثل هذا الرأي الذي يذهب إليه المؤلف يدعونا إلى إعادة النظر في تاريخنا الحديث؛ إذ يبدو أن خطط أعدائنا تسير على وتيرة واحدة، وحروب فلسطين المتكرِّرة بلا استعداد حقيقي، أو إيقافها للهدنة، أو إجهاض نتائجها، كل ذلك ماثل أمامنا!
المصدر:الألوكة