الشريعة في التصور الغربي
الإثنين 13 صفر 1435 الموافق 16 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
عبد السلام بلاجي
عندما يذكر لفظ الشريعة ينصرف الأمر في التصور الغربي إلى الشريعة الإسلامية مباشرة، علما بأن مفهومها عند الغربيين يقتصر على جزء منها وهو الجزء المتعلق بالحدود الشرعية، وينطلق التصور الغربي من أن الشريعة الإسلامية قاسية ووحشية لأنها تطبق القتل والقطع، خاصة في جرائم السرقة والزنا.
ثم يحكم الغرب انطلاقا من فهمهم هذا على الإسلام بأنه وحشي وظلامي ورجعي وغير إنساني، ولذا فهو لا يصلح للمجتمعات المعاصرة ولا يتواءم مع الديمقراطية.
وهم يقيسون كون الحركات والأحزاب والدول “معتدلة” أو “متطرفة” بمدى تطبيقها أو مناداتها بتطبيق الشريعة الإسلامية، فالمطبقون لها أو المطالبون بتطبيقها متطرفون، والساكتون عنها أو الرافضون لها معتدلون، ومن هنا حكموا على المسلمين العلمانيين وبعض الصوفيين بأنهم معتدلون وينبغي التعاون معهم والتمكين لهم سياسيا واقتصاديا في بلدانهم.
والشريعة في اللغة هي الطريقة، وفي الاصطلاح هي الأحكام الفقهية أو القانونية، والشريعة الإسلامية هي مجموع الأحكام الفقهية ومعظمها اجتهادية، فالنصوص متناهية والوقائع والأحداث غير متناهية، كما يقول الفقهاء وعلماء الأصول أنفسهم.
ولذلك قالوا بأن الفقه ليس قطعيا بل معظمه ظني أي اجتهادي، ومعنى الظني أنه يغلب على ظن المجتهد صحته، ولذلك يؤجر المجتهد على مجرد الاجتهاد فإذا أصاب ضوعف له الأجر.
وكون معظم الفقه شأنا اجتهاديا معناه أن لعلماء المسلمين ومجالسهم التشريعية استنباط الأحكام الشرعية المناسبة لكل الظروف والأحوال وفق آليات علمية وضوابط دستورية وتشريعية خاصة كما هو الشأن عند كل الأمم والشعوب.
وتتجسد الشريعة حاليا في الفقه الذي ينقسم تقليديا إلى فقه عبادات وفقه معاملات، كما تعتبر الحدود جزءا صغيرا جدا من فقه المعاملات لا تتجاوز نسبتها 10% من مجموع أي كتاب فقهي.
وعلى سبيل المثال تبلغ مجموع صفحات كتاب “مدونة الفقه المالكي وأدلته” 2804 صفحات دون احتساب الفهارس لعدم التأثير بتقليص النسب، منها 863 صفحة في العبادات بنسبة 30.7%، ويفضل للمعاملات بقية الصفحات ومنها 461 صفحة للجنايات والحدود بنسبة 8.7%، ولا تحتل منها جريمتا الزنا والسرقة إلا 47 صفحة بنسبة 1.6% من إجمالي الفقه، وهما الجريمتان الأكثر إثارة في التصور الغربي خاصة والمغرض عامة.
بالإضافة إلى نصيب النساء من التركات خاصة أن أحكام المواريث والتركات من باب الأحوال الشخصية في التقسيم القانوني المعاصر، ما أن الجاليات المسلمة المقيمة في البلدان الغربية تطالب بتطبيق أحوالها الشخصية أسوة بغيرها من الأقليات.
وفضلا عما تقرر وفق المنهج الإحصائي السابق، نجد أن تطبيق حدي السرقة والزنا محاط بسياج من الاحتياطات والضمانات القانونية والقضائية تجعل العقوبتين ردعيتين أكثر من كونهما عقوبتين واسعتي التطبيق، خاصة عقوبة الزنا التي لا يمكن توفر شروط تطبيقها إلا بالإقرار.
كما أن بعض الفقهاء المعاصرين نادوا بتعليق تطبيق بعض الحدود كحد الزنا مثلا نظرا لانتشار التبرج وكل ما يؤدي إلى الزنا، وذلك بتوسيع مفهوم “درء الحدود بالشبهات” من المفهوم الخاص إلى العام قياسا على تعليق عمر بن الخطاب لحد السرقة زمن المجاعة بشكل عام وليس في نازلة خاصة.
وإذا أضفنا إلى قصد الشريعة لحفظ حياة الإنسان في روحه ونفسه وأعضائه وعقله وعرضه، آلية درء الحدود بالشبهات بالمفهوم الخاص والمفهوم الموسع، لأمكن القول بكل اطمئنان إن الشريعة حريصة على حياة الإنسان، وإن الحدود نفسها إنما وضعت لأجل تحقيق هذه المقاصد.
وتعتبر أحكام المواريث والتركات كذلك من الأحكام المثيرة للتصور الغربي في فهمه للشريعة، حيث تثير بعض أنصبة النساء في تقسيم التركات جدلا كبيرا بشأن الشريعة باعتبار ذلك حطا من مكانتهن وعدم مساواتهن بالرجال.
وهذا الإشكال بعضه متوهم وأكثره غير صحيح، فهو متوهم لأنه لا يستقيم إلا بعزله عن المنظومة المجتمعية والأسرية للشريعة، وهو غير صحيح لأنه عمم حالات محدودة على كل أحكام التركات: والواقع كما فصل ذلك الدكتور صلاح الدين سلطان في كتاب “ميراث المرأة وقضية المساواة”، أن الرجل يرث أكثر من المرأة في أربع حالات، وهي ترث مثله في أضعاف هذه الحالات الأربع، وترث أكثر من الرجل في عشر حالات أخرى، إلى جانب حالات ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل.
لقد أقرت الشريعة مبدأ شخصية القانون، وسمحت لأهل الكتاب بتطبيق شرائعهم الخاصة، وما يزال هذا الحق ساريا في البلدان الإسلامية إذ تطبق مختلف الأقليات الدينية تشريعاتها الخاصة.
وقد أقرت معظم البلدان الأوروبية هذا المبدأ في عصر التنوير، لكن البلدان الاستعمارية استثمرته لفرض تشريعاتها كاملة تدريجيا على البلدان الضعيفة والمستعمرة ومن بينها البلدان الإسلامية، وهي تعطي اليوم هذا الحق لبعض الأقليات الدينية في مجتمعاتها خاصة الأقلية اليهودية، لكنها تحرم الجاليات المسلمة بإصرار من هذا الحق.
ولعلها تستبطن العداء التاريخي مع الإسلام، أو لعلها تتخوف من تكرار التجربة التي سلكتها في فرض قوانينها على البلدان الإسلامية فتفرض الشريعة نفسها كاملة عليها، أو لعل العاملين معا مع عوامل أخرى تكون داخلة في الحسبان، خاصة مع ما يروج عن “القنبلة الديمغرافية الإسلامية”، أو “صراع الحضارات”، أو “الغزو الإسلامي الجديد للغرب”.
وغير بعيد عنا ما وقع في كندا، ففي نهاية سنة 2004 أوصت مدع عام سابقة بولاية أونتاريو Ontario باعتماد التحكيم الديني في مسائل الأحوال الشخصية والعائلية لأتباع الديانات، وهذا ما يسمح للمسلمين كأقلية بتطبيق بعض أحكام الشريعة الإسلامية.
ودافع بعض البرلمانيين عن حقوق كل الأقليات الدينية في هذا المجال، لكن النقاش احتدم خاصة حول الجالية المسلمة والشريعة الإسلامية التي وجهت لها انتقادات كبيرة، وقال المحتجون إن تطبيق الشريعة سيكون فيه إجحاف بحقوق النساء.
فانتهى الأمر بالوزير الأول ماك كينتي McGuinty في سبتمبر/ أيلول 2005 برفض اعتماد التحكيم الديني على أساس ضرورة تطبيق قانون واحد على كل من يقيم في كندا.
وفي بريطانيا صرح روان ويليامز Rowan Williams رئيس الكنيسة الأنجليكانية في بداية فبراير/ شباط 2008 ، بأن “إقرار بعض جوانب الشريعة الإسلامية في البلاد لا مفر منه” وقصد بذلك جوانب الأحوال الشخصية للمسلمين في بريطانيا أسوة ببقية الأقليات.
فقامت ضجة كبيرة حول ذلك سببها المفهوم المختزن في التصور الغربي حول الشريعة، فاتهم الرجل بأن تصريحه يمس اللحمة الوطنية، وبأنه “ارتكب خطأ شنيعا”، على حد تعبير صحيفة التايمز Times، كما تم التذكير بكون المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان صرحت سنة 2001 بأن الشريعة الإسلامية تختلف عن القيم الأوروبية.
ومن المعروف في بريطانيا وجود “مجالس للشريعة” ملحقة ببعض المساجد تتعاون مع مختلف مؤسسات الدولة، حيث يلجأ إليها المسلمون طلبا للمشورة في قضايا الأحوال الشخصية كالطلاق.
كما أن بإمكان اليهود المتدينين اللجوء إلى تشريعات الدين اليهودي فيما يتعلق بالأكل، وبإمكان الأطباء المسيحيين أن يطلبوا إعفاءهم من إجراء عمليات الإجهاض لأسباب دينية.
وهذا ما يدل على أن دعوة روان ويليامز تنطلق من وضع قائم فعلا، إلا أن البعض تحفظ على جهة الاقتراح الذي “كان يجب أن يأتي من مجلس مشترك للديانات السماوية الثلاث”.
لكن الحقيقة أن التصور الغربي كان له الدور الأكبر في الموضوع، وهو ما لخصته صحيفة الصنداي تلغراف بقولها إن “إنشاء محاكم شرعية في بريطانيا سيواجه صعوبات بالغة، بسبب ما ترتبط به تلك المحاكم في أذهان البريطانيين من عقوبات بالغة القسوة كقطع الأيدي والرجم حتى الموت”. وهذه حقيقة وجود وتأثير “التصور” الغربي.
والدليل البين على ذلك أن التأويلات المختلفة للتوراة تضع المرأة في مكانة دنيا، ومع ذلك فالصمت يلف الأمر في أوروبا وأميركا حول هذا الموضوع.
وزاد من حدة هذا السكوت أن اليهود حموا أنفسهم بقوانين “تحريم وتجريم معاداة السامية”، فضلا عما أججه بعض المتطرفين في الغرب حول “صراع الحضارات” بين الإسلام والمسلمين وحضارة الغرب “المسيحية-اليهودية”، وإلا فما معنى السكوت عن تحميل المرأة اليهودية معصية الأكل من الثمرة المحرمة وربطها بالشيطان؟
وما معنى أن يرد في التلمود من أن “المرأة حقيبة مملوءة بالغائط”. وأن “على الرجل ألا يمر بين امرأتين، أو كلبين أو خنزيرين، كما يجب ألا يسمح رجلان لامرأة أو كلب أو خنزير بالمرور بينهما”. وأن يقول الرجل في دعاء الصباح “مبارك أنت يا رب لأنك لم تخلقني وثنا ولا امرأة ولا جاهلا”.
كما يعتبرون المرأة لعنة عند ولادتها وطفولتها وبلوغها وحملها، وتعتبر آلام الحيض من آثار لعنة الخطيئة الأولى، حيث تكون المرأة نجسة ومنجسة لما حولها.
ويجب هجرها بعد الولادة لأنها نجسة، فإذا كان المولود ذكرا تدوم نجاستها سبعة أيام، وإذا كانت أنثى تدوم أسبوعين، وإذا لمست عباءة الصلاة الخاصة بالرجال وجب استبدالها.
ومنهم من يرى أن الأنثى لا ترث قبل سن الثانية عشرة، وإذا كانت أكبر من ذلك فلها سهم ولأخيها سهمان أو أربعة أسهم إذا كان بكرا. وفي الواقع كذلك تتقاضى المرأة -في الدولة العبرية- على نفس العمل أجرة أقل من الرجل، وفي إحصاء لسنة 2000 كانت أجور النساء أقل بقدر الثلثين من معدل أجور الرجل، رغم أن المؤهلات التعليمية والأكاديمية لدى النساء كانت أعلى منها لدى الرجال.
إنه التصور الغربي الذي يعيش التناقض والحرج معا، تناقض يؤدي به إلى الكيل بأكثر من مكيال في قضايا متماثلة وما أكثرها والشريعة واحدة منها.
وحرج يضعه في مأزق المواءمة المستحيلة بين المبادئ التي يرفعها ويبشر بها، وبين الخرق السافر الذي يرتكبه في حق هذه المبادئ، ولسوء حظه فمعظم هذه الخروق ارتبطت بالإسلام والمسلمين في هذه العقود الأخيرة.
__________
كاتب مغربي
المصدر:الجزيرة