مَنِ احْتَفَرَ حفرة لِأَخِيهِ وَقَعَ فِيهَا
جعفر الطلحاوي (داعية مصري)
الثلاثاء 14 صفر 1435 الموافق 17 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
هذا نموذج للعدل الإلهي، والقصاص الرباني، “وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا”[1] وهو يربي فى التنفس ملكة المراقبة لله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء، وهو مثل: يُضرب لسوء عاقبة الغدر. وبيان لعقاب الله تعالى لكل من يخون أمَّته ودينه، وهي سنة لله تعالى لن تتبدل ولن تتخلف، وَفِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ «مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ جُبًّا وَقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا» وتقول ” مَنْ حَفَرَ لأَخِيهِ قَلِيبًا أَوْقَعَهُ اللَّه فِيهِ قَرِيبًا ” وتقول ” يعدو على الْمَرْء مَا يأتمر” ومن يحتفر بئرا ليوقع غيره… سيوقع يوما في الذي هو حافر
وشاهده من كتاب الله تعالى الكثير من الآيات، وبعض هذه الآيات صار مثلا سائرا سارت به الركبان، وله شاهد أيضا من الوقائع التاريخية القديمة والحديثة، فمن القرآن الكريم: قوله تعالى: ” وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ”[2]. أي لا يحيط وبال المكر السيء إلا بمن مكره ودبره، ولما قال كعبٌ لابن عباس: إن في التوراة «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها»، فقال ابن عباس: أنا أُوجِدُك هذا في كتاب الله، واستشهد بهذه الآية الكريمة.
وللبعض شبهة، مُفادها ؛ كَثِيرًا نَرَى الْمَاكِرَ يُفِيدُهُ مَكْرُهُ وَيَغْلِبُ خَصْمَهُ بِالْمَكْرِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ، ورد هذه الشبهة: أَنَّ الْأُمُورَ بِعَوَاقِبِهَا، وَمَنْ مَكَرَ بِهِ غَيْرُهُ وَنَفَّذَ فِيهِ الْمَكْرَ عَاجِلًا فِي الظَّاهِرِ، فَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْفَائِزُ، وَالْمَاكِرُ هُوَ الْهَالِكُ. فالعبرة والأعمال بالخواتيم.
وفى القرآن أيضا ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ” [3]
وهذه الآية شاهد لقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن البغي يصرع أهله، وإن على الباغي تدور الدوائر):
قضى الله أن البغي يصرع أهله… وأن على الباغي تدور الدوائر
والآن إلى النماذج على هذا العقاب الرباني
أولا: من القرآن الكريم نموذجان
1 — قتل خائن عيسى عليه السلام
قوله تعالى:” وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا”[4] «قيل أوقع الله شبهه على الساعي به فقُتل وصُلب مكانه، يقول ابن اسحق (نقلا عن رواية نصرانية) أن ليودس مقابل ثلاثين درهما هو الذي دل الأعداء على عيسى بأن قبّله ساعة دخولهم فأخذوه فصلبوه. انتهت الرواية. هذه الرواية التي اعتمد عليها ابن اسحق تتفق مع ما جاء فى الأناجيل الأربعة وليودس هذا هو يهوذا الاسخريوطى.
2 — فى قصة أصحاب الجنة،
قال تعالى ” إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ…..”[5] والخلاصة: كانت هذه الجنة لرجل صالح وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل، وما فى أسفل الأكداس، وما أخطأه القطاف من العنب، وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع لهم من ذلك شىء كثير، فلما مات الرجل قال بنوه إنْ فعلنا ما كان يفعلُ أبونا ضاق علينا الأمر، ونحن أولو عيال، فحلفوا ليصرمنّها وقت الصباح خفية عن المساكين فجازاهم الله بما يستحقون وأحرق جنتهم، ولم يبق منها شيئا.. إن أَصْحَابَ الْجَنَّةِ خَرَجُوا لِيَنْتَفِعُوا بِالْجَنَّةِ وَيَمْنَعُوا الْفُقَرَاءَ عَنْهَا فَقَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَضِيَّةَ.
نموذجان من التاريخ أولهما: من التاريخ القديم
حُكي: أن رجلا من العرب دخل على المعتصم فقرّبه وأدناه وجعله نديمه، وصار يدخل على حريمه من غير استئذان. وكان له وزير حاسد فغار من البدوي وحسده، وقال في نفسه: إن لم أحتل على هذا البدوي في قتله أخذ بقلب أمير المؤمنين، وأبعدني منه، فصار يتلطف بالبدوي حتى أتى به إلى منزله، فطبخ له طعاما، وأكثر فيه من الثوم، فلما أكل البدوي منه قال له: احذر أن تقترب من أمير المؤمنين، فيشم منك رائحة الثوم، فيتأذى من ذلك فإنه يكره رائحته، ثم ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين، فخلا به وقال: يا أمير المؤمنين إن البدوي يقول عنك للناس إن أمير المؤمنين أبخر وهلكت من رائحة فمه. فلما دخل البدوي على أمير المؤمنين جعل كمه على فمه مخافة أن يشم منه رائحة الثوم، فلما رآه أمير المؤمنين وهو يستر فمه بكمه قال: إن الذي قاله الوزير عن هذا البدوي صحيح، فكتب أمير المؤمنين كتابا إلى بعض عماله يقول فيه: إذا وصل إليك كتابي هذا، فاضرب رقبة حامله، ثم دعا البدوي ودفع إليه الكتاب، وقال له: امض به إلى فلان وائتني بالجواب. فامتثل البدوي ما رسم به أمير المؤمنين وأخذ الكتاب وخرج به من عنده، فبينما هو بالباب إذ لقيه الوزير، فقال: أين تريد؟ قال: أتوجه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان، فقال الوزير في نفسه: إن هذا البدوي يحصل له من هذا التقليد مال جزيل، فقال له: يا بدوي ما تقول فيمن يريحك من هذا التعب الذي يلحقك في سفرك، ويعطيك ألفي دينار؟ فقال: أنت الكبير، وأنت الحاكم، ومهما رأيته من الرأي افعل. قال: أعطني الكتاب، فدفعه إليه، فأعطاه الوزير ألفي دينار، وسار بالكتاب إلى المكان الذي هو قاصده، فلما قرأ العامل الكتاب أمر بضرب رقبة الوزير. فبعد أيام تذكر الخليفة في أمر البدوي، وسأل عن الوزير، فأخبر بأن له أياما ما ظهر، وأن البدوي بالمدينة مقيم، فتعجب من ذلك وأمر بإحضار البدوي، فحضر، فسأله عن حاله، فأخبره بالقصة التي اتفقت له مع الوزير من أولها إلى آخرها، فقال له: أنت قلت عني للناس أني أبخر؟ فقال: معاذ الله يا أمير المؤمنين أن أتحدث بما ليس لي به علم، وإنما كان ذلك مكرا منه وحسدا، وأعلمه كيف دخل به إلى بيته وأطعمه الثوم وما جرى له معه. فقال أمير المؤمنين: قاتل الله الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله. ثم خلع على البدوي واتخذه وزيرا وراح الوزير بحسده[6].
ثاني النماذج من التاريخ المعاصر: موت عبد الناصر
ذكر المؤرخ الدكتور محمد الجوادى — حفظه الله — كيفية موت عبد الناصر، أن عبد الناصر لما تميز غيظا من الفلسطينيين، ووقعت معركة تل الزعتر بين الفلسطينيين والأردن، وقف عبد الناصر مع الأردن ضد الفلسطينيين، تأييدا ومظاهرة فى الخفاء والسر ودهاليز السياسة الإجرامية التي تُظهر غير ما تعلن، بينما فى العلن والجهر ووسائل الإعلام يستنكر ويشجب، وكان الاتفاق أن يشجب فى العلن ويستنكر بينما هو فى الخفاء يبطن غير ذلك:” يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا”[7]
وارتفعت نبرة صوته، وعلا ضجيجه وفحيحه علنا وجهارا، حتى ضاق صدر الملك حسين من هذه السياسة الرعناء، فما كان منه إلا أن ركب طائرته التي كان يقودها بنفسه وحضر إلى القاهرة فى مؤتمر قمة طارئة لبحث إيقاف إطلاق النار بين الأردنيين والفلسطينيين، ولديه تسجيل للاتفاق السري بينه وبين عبد الناصر، يفضح سيرة وسريرة عبد الناصر، وأنه يُظهر غير ما يُسر، وأنه يتعامل بوجهين،وقام بتشغيل التسجيل الذي فضح خبيئة عبد الناصر، وخبثه وكيده للأمة العربية وشعوبها ولا سيما شعب أرض المحشر، فأسرها عبد الناصر فى نفسه، وكادت المخابرات المصرية مكيدتها لاغتيال الملك حسين قبل أن يغادر القاهرة بالتخطيط لاحتسائه سُمًّا قاتلا لا يستغرق سوى خمس ساعات حتى تكون الضحية قد سقطت صريعة، وأن يوضع هذا السم فى فنجان القهوة، ويشاء رب الأقدار والغالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، أن يتجرع عبد الناصر هذه الجرعة القدرية. ففى الوقت الذي كان يترقب فيه سماع خبر اغتيال الملك حسين، كان هو على موعد مع القدر، ومن حفر حفرة لأخيه وقع فيها. هذا وبالله التوفيق ومنه وحده العصمة من الخطأ والزلل والخلل في القول والعمل.
المصدر: بوابة الشرق