الجهاد في سبيل الله

الخميس 16 صفر 1435 الموافق 19 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله

مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعدُ:
فقد سألني مَن تعيَّنت إجابته بأن أُفْرِد من كتابي “بهجة الناظرين فيما يصلح الدنيا والدين” بعض المواضيع المهمَّة في حياة المسلم؛ لتكون قريبة التناول خفيفة المحمل، ولأن الكتاب الصغير هو الذي يُقْرَأ غالبًا ويكون في متناول أيدي الناس فأحببته إلى ذلك، سائلاً الله – تعالى – أن ينفع بها مَن طبعها أو قرأها أو سمعها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، ومن أسباب الفوز لديه بجنَّات النعيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
المؤلف 
1/1/1406
هـ.

•        •        •
الجهاد
الجهاد في سبيل الله وعوامل النصر على الأعداء

الفصل الأول:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
وبعدُ:

فإن القيام بالدين والجهاد فيه قِوام الأمور وصلاحها، وأخذ الحذر لمقاومة الأعداء به كمال الأمور ونجاحها، فقد أمر الله بالجهاد وحثَّ عليه ورغَّب فيه في نصوص كثيرة، ورتَّب عليه خيرات الدنيا والآخرة؛ ففي الدنيا النصرُ والعزُّ والفتح القريب، وفي الآخرة الفوز بجنات النعيم، والسلامة من العذاب الأليم، وما لا يتمُّ المأمور إلا به من أسبابه ووسائله فهو داخلٌ في المأمور ومترتِّب عليه ما فيه من الأجور الخيرات، فلا يقوم الجهاد إلاَّ بتعلُّم العلوم الحربية والتفنُّن بالفنون العسكرية، والتدريب على القوة والشجاعة والحزم في أمور الحرب؛ قال الله – تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]، فأمر الله المؤمنين بالاستعداد لأعدائهم الكافرين الساعين في إهلاكهم وإبطال ما كانوا عليه من دين الإسلام، وأمرهم بإعداد ما يقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يُعِين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواعُ الصناعات التي تُعمل فيها أنواعُ الأسلحة والآلات، من المدافع والرشاشات والطائرات الجوية، والمراكب البريَّة والبحرية، وجميع آلات الدفاع والرأي والسياسة التي بها يتقدَّم المسلمون ويندفع عنهم به شرُّ أعدائهم؛ ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي»؛ أخرجه مسلم وأحمد وابن ماجه وأبو داود.

وقال الشاعر:

الرَّأْيُ قَبْلَ  شَجَاعَةِ  الشُّجْعَانِ        هُوَ  أَوَّلٌ  وَهْيَ  الْمَحِلُّ  الثَّانِي
فَإِذَا هُمَا اجْتَمَعَا لِنَفْسٍ مِرَّةً[1]        بَلَغَتْ  مِنَ  الْعَلْيَاءِ  كُلَّ  مَكَانِ

ومن ذلك الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال؛ كالسيارات، والدبابات، والمدرَّعات، وكل وسيلة يحصل بها إرهاب الأعداء، ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلُ النفقات المالية، وفي ذلك ما لا يُحصَى من الثواب وعظيم الأجور؛ ولهذا جاء في الحديث: «إن الدرهم الذي يُنْفَق في سبيل الله يضاعَف ثوابه بسبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة»[2]، كما قال – تعالى -: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: «مَن أنفق نفقةً في سبيل الله كُتِب له سبعمائة ضعف»[3].

وقال – صلى الله عليه وسلم – حاثًّا لأمَّته على القوة والشجاعة والتداريب العسكرية ووسائلها: «ارْمُوا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا»[4]، فإذا أهمل المسلمون هذا الأصل العظيم من أصول دينهم، وضيَّعوا هذا الفرض الذي لا تستقيم الأمور إلا به، بهذا يقع التخاذُل والضعف والهوان؛ قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد – سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا يرفعه حتى تراجعوا دينكم»[5]، فأخبر – صلى الله عليه وسلم – أن الناس إذا اشتغلوا بالدنيا وانكبُّوا على أسبابها وشهواتها، وأهملوا الاستعداد للجهاد وأَخْذ الحذر من عدوهم – وقع في قلوبهم الجبن والوهن والضعف، وسلُِّطت عليهم الأعداء، ولقد وقع ما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم.
 
فعلى المسلمين أن يتوبوا إلى ربهم، ويستدركوا أمرهم، ويرجعوا إلى دينهم، ويستعيدوا مجدهم وعزَّتهم، ويستعدُّوا لعدوِّهم بكلِّ ما استطاعوا من قوَّة مادِّية ومعنوية، ومن أهم الأمور في هذه الأوقات تعلُّم النظم الحربية والفنون العسكرية، التي تهيِّئ للمسلمين جيشًا منظَّمًا مدرَّبًا مخلصًا تتمُّ به حماية الدين والبلاد، ويوقف المعتدين عند حدهم ويرهب الكافرين، ولا يكونوا عالة على غيرهم عزلاً من السلاح، والتعاليم النافعة والاجتهاد المستمر المثمر، وقد أخبر الله – سبحانه وتعالى – أن دين الإسلام إنما يقوم بالعلم الشرعي والعمل الصالح، والجهاد والقوة والسلاح والحديد، فكلُّ واحد منها يمدُّ الآخَر بمعونة الله وتوفيقه وحوله وقوَّته؛ قال – تعالى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، وقد وعد الله مَن قام بالإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله بالأموال والأنفس، وعده بمغفرة ذنوبه ودخول الجنات والخلود، بما فيها من النعيم والكرامات ممَّا تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين، وتلك تجارةٌ رابحة وفوز عظيم، وعلاوة على ذلك خصلة أخرى محبوبة للنفوس وهي حصول النصر على الأعداء والفتح القريب، وفي ذلك بشارة للمؤمنين المجاهدين؛ قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:10- 13].

كما وعد مَن قام بالإيمان والعمل الصالح بالاستخلاف في الأرض والتمكين فيها لدين الإسلام الذي رضيه الله وأكمله لعباده، وإبدالهم الأمن والاستقرار بعد الخوف ما داموا مستقيمين على عبادة الله وحده لا شريك له، وقد تحقَّق هذا الوعد الكريم لسلفنا الصالح من زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وخلفائه الراشدين إلى وقتنا هذا؛ قال – تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، وأخبر – صلى الله عليه وسلم – أن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين[6]، وأن مَن مات ولم يغزُ ولم يحدِّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق[7]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون»[8].

وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد

 •        •        •


 

الجهاد في سبيل الله وعوامل النصر على الأعداء


الفصل الثاني:
لا شكَّ أن للنصر على الأعداء عوامل وأسبابًا، كما أن للهزيمة أسبابًا تعين عليها، فمن أعظم أسباب النصر: الإيمان بالله الواحد القهَّار، والاعتماد عليه وحده في حصول النصر وفي كل شيء، وتفويض الأمور إليه، والثقة بوعده بنصر المؤمنين؛ قال – تعالى -: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، ومن ذلك نصرة دين الله والقيام به قولاً واعتقادًا، وعملاً ودعوة؛ قال – تعالى -: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40- 41]، وقال – تعالى -: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، ومن أعظم أسباب النصر الاتحاد والاجتماع والتضامُن بين الشعوب المسلمة؛ قال – تعالى -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقد شبَّه الرسول – صلى الله عليه وسلم – المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم بالجسد الواحد، والبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه[9].

وقال الشاعر:

تَأْبَى الرِّمَاحُ إِذَا اجْتَمَعْنَ تَكَسُّرًا        وَإِذَا  انْفَرَدْنَ  تَكَسَّرَتْ   آحَادَا

ومن أسباب النصر بعد الإيمان بالله إعدادُ ما يمكن من القوة المادية والمعنوية؛ قال – تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، ومن ذلك إخلاص النية لله، وأن يكون الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله؛ قال – تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

ومن أسباب النصر: الثبات عند لقاء العدو وعدم الفرار والانهزام، وكثرة ذكر الله – تعالى – وطاعة الله ورسوله، وعدم التنازُع والاختلاف المؤدِّي إلى الفشل؛ قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين} [الأنفال: 45- 46]، ومن ذلك استعمال الصبر؛ قال – تعالى -: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا»[10]، ومن ذلك إظهار الشجاعة والإقدام والتضحية بالنفس والنفيس، والعلم بأن الموت واحد لا بُدَّ منه وإن تعددت أسبابه.

قال الشاعر:

وَمَنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ        تَعَدَّدَتِ الْأَسْبَابُ وَالْمَوْتُ  وَاحِدُ

ومن أسباب النصر: المشاورةُ بين المسؤولين في تعبئة الجيوش وإعدادها، وطريقة الدفاع والهجوم، ونحو ذلك؛ قال – تعالى – في وصف عباده المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقال لنبيِّه محمد – صلى الله عليه وسلم -: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وكان – صلى الله عليه وسلم – يشاور أصحابه في الحروب وغيرها مع كمال عقله وسداد رأيه؛ امتثالاً لأمر الله، وتطييبًا لنفوس أصحابه.

ومن أسباب النصر: تولية قيادة الجيوش لِمَن عُرِفوا بالإخلاص لله ولدينه، ثم لحكوماتهم وشعوبهم وأوطانهم، ثم إرشادهم وتوجيههم لما يجب أن يعملوه، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه بتقوى الله ومَن معه من المسلمين خيرًا؛ فقال: «اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا مَن كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا»[11].

ومن آخر آيات القتال نزولاً قوله – تعالى -: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، وقد قال العلماء في كل آية ذُكِر فيها الصفح والإعراض عن المشركين: إنها منسوخة بهذه الآية، فبسبب الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله والإخلاص له في القول والاعتقاد والعمل – نال سلفنا الصالح العزَّ والنصر والتمكين في الأرض، ودانت لهم الدنيا، وذلت لهم الأمم، وذلك حين كان الإيمان متمكِّنًا في قلوبهم، ومتوغِّلاً في نفوسهم، وعرفوا أن في الجهاد إحدى الحُسْنَيين: إمَّا النصر والغنيمة، وإما الشهادة في سبيل الله ثم الجنة، حتى قال قائلهم:

فَلَسْتُ  أُبَالِي   حِينَ   أُقْتَلُ   مُسْلِمًا        عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللهِ مَصْرَعِي

فنصرهم الله لمَّا نصروه، وأعزَّهم وخذل عدوهم حين أطاعوه؛ {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 172- 173].

أمَّا أسباب الهزيمة فهي بعكس ذلك كلِّه، فمن أعظمها: عدم الإيمان بالله، والشرك به، والتوكُّل والاعتماد على غيره في حصول النصر، والله – تعالى – هو الكافي لعباده؛ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]؛ أي: كافيه.

ومن أسباب الهزيمة: معصية الله ورسوله بترك الواجبات وعمل الفواحش والمحرَّمات؛ كترك الصلاة، ومنع الزكاة، وشرب الخمور، وارتكاب جريمة الزنا؛ قال – تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20- 21]، وقال – تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5]، والآيات في هذا المعنى كثيرة وهي تدل على هزيمة مَن عصى الله ورسوله في مخالفة الأوامر وارتكاب المنهيَّات والزواجر، علاوة على عذاب الله الأُخْرَوِي الذي هو أشدُّ وأبقى، فإن الجزاء من جنس العمل، والله – تعالى – يبتلي بالسراء والضراء، والشدَّة والرخاء، والعسر واليسر؛ لينظر مَن يشكر فيزيده من فضله، أو يكفر فينتقم منه بعدله، وجاء في الأثر أن الله – تعالى – يقول: إذا عصاني مَنْ يعرفني، سلَّطت عليه مَن لا يعرفني، فلو استقام المسلمون على دينهم وتحكيم شريعة الله التي أنزل بها كتابه وأرسل بها رسوله وفكَّروا في أسباب النصر فاستعملوها، وأسبابِ الهزيمة فاجتنبوها، وجاهدوا في الله حق جهاده – لانتصروا وانهزم عدوهم أمام الحق والدفاع عنه؛ {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21]، ولحرَّروا أوطانهم من أيدي البُغَاة والمستعمرين؛ {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].

•        •        • 

الجهاد في سبيل الله وعوامل النصر على الأعداء


الفصل الثالث:
تكلَّمنا في الفصلين السابقين عن أهم أسباب النصر والهزيمة، وأن النصر يعتمد – أوَّلاً وقبل كل شيء – على الإيمان بالله والتوكُّل والاعتماد عليه وحده في حصول النصر، مع القيام بما فرض الله من الواجبات واجتناب المحرمات، وإعداد المستطاع من القوة المادية والمعنوية، وإخلاص النية والعمل لله، ثم الشجاعة والإقدام والصبر والثابت أمام العدو، والتضحية بالنفس والنفيس، مع كثرة ذكر الله وطاعته وطاعة رسوله، وعدم التنازع والاختلاف المؤدِّي إلى الفشل، وتولية القيادة لِمَن عُرِفوا بالإخلاص والأمانة، واستعمال المشاورة في ذلك بين المسؤولين، كما قيل:

شَاوِرْ   سِوَاكَ   إِذَا    تَأْتِيكَ    نَائِبَةٌ        يَوْمًا، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْمَشُورَاتِ

وحصول التعاون والتناصر بين المسلمين الذين هم كالجسد الواحد، وكالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا.

هذا، ومن أعظم أسباب النصر مع ما ذُكِر التوجُّهُ إلى الله بالدعاء والتضرُّع؛ حيث أمر بالدعاء وتكفَّل بالإجابة في قوله – تعالى -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، فإذا آمنَّا بالله حقَّ الإيمان واستجبنا له فأطعناه بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، ثم دعوناه – استجاب لنا؛ لأنه – سبحانه – لا يخلف الميعاد، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا خاف قومًا قال: «اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم»[12]، وكان يقول: «اللهم أنت عَضُدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل»[13]، وكان يقول: «مُنْزِل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم»[14]، هكذا كان سيد الخلق – صلى الله عليه وسلم – يقول ويفعل، وهكذا ينبغي أن نفعل كما أمرنا الله، وكما شرع لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وهكذا كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين هم خير أمة وأكرمها على الله؛ {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، وقد وصفهم الله في كتابه ومدحهم وأثنى عليهم؛ ترغيبًا لنا في الاقتداء بهم وسلوك طريقهم؛ فقال – تعالى -: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ} [المائدة: 54]، وهكذا وصف الله محمدًا – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه في التوراة والإنجيل والقرآن فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح: 29]، وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدًا عنيفًا على الكفار، رحيمًا بالمؤمنين، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر، بشوشًا في وجه أخيه المؤمن؛ كما قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123].

اقرأ أيضا  فلسطينيو سوريا.. لاجئون يبحثون عن لجوء

هذه بعض أوصاف المؤمنين وأسباب نصرهم.

كما أن من أسباب الهزيمة سلوكَ الطرق الملتوية المنعطفة عن طريقهم، وذلك بالإعراض عن طريق الحق الذي هو طريق الإيمان والرسول والقرآن؛ علمًا، وعملاً، واعتقادًا، ودعوة، كما أن من أسباب الهزيمة اللجوءَ إلى غير الله؛ محبةً وخوفًا، ورجاء وتوكلاً، ورغبة ورهبة؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ومَن تعلَّق بشيءٍ وُكِل إليه، والله – تعالى – هو الذي بيده النصر والتأييد والعز والذل، يعزُّ مَن يشاء ويذل مَن يشاء، وهو الفعَّال لما يريد، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع؛ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]:

فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَ        هُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ
وَفِي  كُلِّ   شَيْءٍ   لَهُ   آيَةٌ        تَدُلُّ   عَلَى    أَنَّهُ    الْوَاحِدُ

وقال – تعالى -: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]؛ أي: مَنْ يعتمد عليه فهو كافيه.

وقال الشاعر:

لُذْ  بِالْإِلَهِ  وَلاَ   تَلُذْ   بِسِوَاهُ        مَنْ لاَذَ بِالْمَلِكِ الْجَلِيلِ كَفَاهُ

هذا، وأسأل العلي القدير أن يوفِّق المسلمين – حُكَّامًا ومحكومين – إلى العمل بكتابه وسنة رسوله، وأن يؤلِّف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، وينصرهم على عدوهم، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

•        •        •


مراتب الجهاد:

الجهاد أربع مراتب هي: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.

فجهاد النفس أربع مراتب:
أحدهاأن يجاهدها على تعلُّم الهدى ودين الحق، الذي لا فلاح لها ولا سعادة لها في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
الثانيةأن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّد العلم بلا عمل إن لم يضرَّها لم ينفعها.
الثالثةأن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه مَن لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من البيِّنات والهدى، فلا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعةأن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كلَّه لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مُجْمِعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى (ربانيًّا) حتى: يعرف الحق، ويعمل به، ويعلِّمه، ويدعو إليه، فمَنْ عَلِمَ وعَمِلَ وعَلَّمَ، فذاك يُدْعَى عظيمًا في ملكوت السماء[15].

وأما جهاد الشيطان فمرتبتان:
أحدهماجهاده على دفع ما يُلْقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.
الثانيةجهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.

فالجهاد الأوَّل: يكون بعدَه اليقين، والجهاد الثاني يكون بعده الصبر؛ قال – تعالى -: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
فأخبر أن إمامة الدين إنَّما تُنَال بالصبر واليقين؛ فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.

جهاد الكفار والمنافقين:
وأمَّا جهاد الكفار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخصُّ باليد، وجهاد المنافقين أخصُّ باللسان.

وأمَّا جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات، فثلاث مراتب:
الأولىباليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه، فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، و«مَن مات ولم يَغْزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبه من النفاق»[16].

(فصل) ولا يتمُّ الجهاد إلاَّ بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان، والراجون رحمةَ الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة؛ قال – تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].

وكما أن الإيمان فرضٌ على كل أحدٍ، ففرضٌ عليه هجرتان في كل وقت: هجرة إلى الله – عز وجل – بالتوحيد والإخلاص، والإنابة والتوكل، والخوف والرجاء، والمحبة والتوبة، وهجرة إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم – بالمتابعة والانقياد لأمره، والتصديق بخبره، وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره؛ «فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوَّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه»[17].

وفرضٌ عليه جهاد نفسه في ذات الله وجهاد شيطانه، فهذا كله فرضٌ عليه لا ينوب فيه أحدٌ عن أحدٍ، وأمَّا جهاد الكفار والمنافقين فقد يُكْتَفى فيه ببعض الأمَّة إذا حصل منهم مقصود الجهاد[18].

والله أعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

•        •        •

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


المعروف والمنكر:
المعروفما أمر الله به ورسولُه، والمنكر: ما نهى الله عنه ورسوله، فيجب على أُولي الأمر أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
فالمعروف مثل شرائع الإسلام؛ كالصلوات الخمس، وما يتبعها من واجبات وسنن، لأسباب وغير أسباب، والصدقات، والصوم، والحج، فرض ذلك ونفله، ومثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ومثل الإحسان: وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وكل معروف صدقة، ومثل سائر ما أمر الله به من الأمور الباطنة والظاهرة؛ كإخلاص الدين لله، والتوكُّل على الله، وأن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، والرجاء لرحمة الله، والخشية من عذابه، والصبر لحكم الله، والتسليم لأمر الله، ومثل: صدق الحديث، والوفاء بالعهود، وأداء الأمانات إلى أهلها، وبرِّ الوالدين وصلة الأرحام، والتعاون على البر والتقوى، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والصاحب والزوجة والمملوك، والعدل في المقال والفِعال، ثم الندب إلى مكارم الأخلاق كلها.

والمنكر؛ مثلالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، والميسر، وأكل الأموال بالباطل، والمعاملات التي نهى عنها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وتطفيف المكيال والميزان، والإثم والبغي بغير الحق، والقول على الله بلا علم؛ كالبدع الاعتقادية، والبدع العملية، والإفتاء بغير علم، والتعاون على الإثم والعدوان؛ وهو جميع المعاصي وجميع الظلم للعباد في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ومن النهي عن المنكر إقامة الحدود على مَن خرج عن شريعة الله، ومن الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع والنهي عن الاختلاف والفرقة[19].

•        •        •


فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
1- 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو وظيفة الرسل وأتباعهم.
2- 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهمان من سهام الإسلام.
3- 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوعان من أنواع الجهاد.
4- 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علامة على الإيمان، وترك ذلك علامة على النفاق.
5- 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببان من أسباب الرحمة والرضوان والفوز بالسعادة الأبدية.
6- 
الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم خير الناس.
7- 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببان من أسباب النصر والتأييد، وتركهما سبب للذل والخذلان.
8- 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببان من أسباب قبول الأعمال ورفعها إلى الله – تعالى – وتركُهما سببٌ لرد الأعمال وعدم قبولها.
9- 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببان من أسباب استجابة الدعاء، وتركهما سبب للردِّ والحرمان.
10- 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفضل الأعمال.
11- 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مكفِّرات الخطايا.
12- 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوعان من أنواع الصدقة.
13- 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب النجاة من عذاب الدنيا والآخرة، وتركهما من أعظم أسباب الهلاك وعموم العقوبات.
14- 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستنقذان صاحبهما من ملائكة العذاب.
15- 
القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه حسمٌ لمواد الشر والفساد.
16- 
القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه أمان من لعنة الله وسخطه ومقته، وفي ترك القيام بهما تعرُّضٌ لذلك كله، وفيه أمان عن تعلُّق العصاة بالعبد يوم القيامة.
17- 
القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه أمان من الذم والتوبيخ في الدنيا والآخرة.
18- 
القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه أمانٌ من مشاركة العاصين في وزر المعصية وعارِها، وفيه إعزازٌ لدين الإسلام وحراسة له ولأهله، وفي تركه سلبٌ الملك، وإبدال العز بالذل والأمن بالخوف، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(انظر: “القول المحرَّر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”؛ للشيخ حمود بن عبدالله التويجري). 

•        •        •


أساليب الدعوة إلى الله:

قال الله – تعالى -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
1- 
فالدعوة بالحكمة بحسب حال المدعو وفهمه وقبوله، ومن الحكمة: العلم والحلم، والرفق واللين، والصبر على ذلك.
2- 
بالموعظة الحسنة: وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد.
3- 
المجادلة بالتي هي أحسن: وهي الطرق التي تكون أَدْعَى لاستجابته؛ عقلاً ونقلاً، ولغة وعرفًا.

•        •        •


مراتب تغيير المنكر:
1- 
يجب إزالة المنكر باليد إذا قدر.
2- 
ثم باللسان.                  
3- 
ثم بالقلب، وهو أضعف الإيمان.
قال- صلى الله عليه وسلم -: «مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان»[20].
فمَن لم يُبغض المعاصي والعصاة بقلبه، فليس عنده من الإيمان شيء

•        •        •

من فضائل الدعوة:

قال – تعالى -: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، وقال – صلى الله عليه وسلم -:

1- «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»[21].
2- «
والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»[22].
3- «
المؤمن للمؤمن كالبنيان يشُدُّ بعضه بعضًا – وشبَّك بين أصابعه»[23].
4- «
مَن دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه»[24].
5- «
لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حمر النعم»[25].

•        •        •


من فوائد الدعوة:
1- 
القيام بالواجب.
2- 
إقامة الحجة
3- 
الخروج من العهدة.
4- 
براءة الذمة.
5- 
حصول الأجر العظيم والثواب الجسيم.
6- 
حصول المعذرة إلى الله، ولعلَّهم يتَّقون.
7- 
النجاة من العذاب؛ قال – تعالى -: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف: 165].

وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد.

•        •        •

 

نصيحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

للشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ – رحمه الله -:
من محمد بن إبراهيم إلى إخواننا المسلمين، جعلنا الله وإيَّاهم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعدُ:
فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له الأنبياء والمرسلين، فلو طُوِي بساطه وأهمل علمه وعمله – لَفَشَت الضلالة وشاعت الجهالة، وخربت البلاد وهلك العباد؛ قال الله – تعالى -: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، فنعوذ بالله من اندراس هذا المهم العظيم، واستيلاء المداهنة على القلوب، وذهاب الغيرة الدينية.

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عنوان الإيمان، ودليل السعادة والفلاح؛ قال الله – تعالى -: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]، وقال – تعالى -: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وقال  – تعالى -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، وقال – تعالى -: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78- 79].

وهذا غايةٌ في التغليظ؛ إذ علَّل استحقاقهم اللعنة باستهانتهم بأمر الله وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وروى أبو داود والترمذي من حديث عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنَّه على الحق أطرًا، أو ليضربنَّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم»، وعن حذيفة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «والذي نفسي بيده لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر أو ليوشكَنَّ الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»[26]، وعن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيِّروه، يوشِك أن يعمَّهم الله بعقاب من عنده»[27]، وعن جابر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أوحى الله إلى جبريل – عليه السلام – أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها، قال: ياربِّ أن فيهم عبدك فلانًا لم يَعْصِكَ طرفةَ عين، قال: فقال: اقلبها عليه وعليهم؛ فإن وجهه لم يتمعَّر فيَّ ساعةً قط»[28]، وعن جرير مرفوعًا: «ما من قوم يكون بين أظهرهم مَن يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع لم يغيروا عليه، إلا أصابهم الله بعذابه»[29]، وفي مراسيل الحسن عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال هذه الأمَّة تحت يد الله وفي كنفه ما لم يمالِ قرَّاؤها أمراءَها، وما لم يزكِّ صلحاؤها فُجَّارَها، وما لم يُهِن خيارَها أشرارُها، فإذا فعلوا ذلك رفع الله يده عنهم، ثم سلَّط عليهم جبابرتهم فيسومونهم سوء العذاب، ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر»، وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمر الصنعاني قال: «أوحى الله إلى يوشَع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم وستين ألفًا من شرارهم، قال: ياربِّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم»، وذكر الإمام أحمد من حديث ابن عمر مرفوعًا: «لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليسلِّطَنَّ الله عليكم شراركم؛ فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خيارُكم فلا يستجاب لهم»، «لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليبعثنَّ الله عليكم مَن لا يرحم صغيركم ولا يوقِّر كبيركم».

اقرأ أيضا  وكالة مينا في مقابلة مع لجنة الإنقاذ الطبية في حالات الطوارئ في الذكرى الثانية والعشرين من العمل من أجل الإنسانية

وفي الطبراني من حدث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ما طفَّف قومٌ كيلاً ولا بخسوا ميزانًا إلا منعهم الله القَطر، وما ظهر في قومٍ الزنا إلا ظهر فيهم الموت، وما ظهر في قومٍ الربا إلا سلَّط الله عليهم الجنون، ولا ظهر في قوم القتل يقتل بعضهم بعضًا إلا سلَّط الله عليهم عدوَّهم، ولا ظهر في قومٍ عملُ قوم لوط إلا ظهر فيهم الخسف، وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم»، وفي “الصحيح” من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «مَن رأى منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان»، وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّة خردل»، وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «مثل المُدَاهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي أسفلها يمرُّ بالماء على الذين في أعلاها فتأذَّوا به فأخذ فأسًا فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذَّيتُم بي، ولا بُدَّ لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه وأنجو أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم»[30]، والأحاديث في الحثِّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدًّا، فاتقوا الله عباد الله، وهُبُّوا من رقدتكم، واستيقظوا من غفلتكم، وقوموا بأمر ربكم، ومُرُوا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وتناصحوا فيما بينكم، وتواصَوا بالحق وتواصوا بالصبر.

وكل إنسان مسؤول بحسبه وعلى قدر طاقته واستطاعته؛ ففي الحديث: «ما منكم من أحد إلا وهو على ثغر من ثغور الإسلام، فاللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبله»[31]، وعلى الآمر بالمعروف أن يستعمل أنجح الوسائل لإزالة المنكر وتغييره؛ قال الله – تعالى -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، كما أنَّ عليه أن يصبر ويحتسب إذا أوذي في الله أو أسمع ما يكره؛ قال – تعالى – حاكيًا عن لقمان في وصيته لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، والقائم في هذا الأمر ستكون له العاقبة الطيبة والذكر الجميل؛ قال – تعالى -: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يقوم بذلك على الغني والفقير، والقريب والبعيد، والشريف والوضيع، ولا يخاف في الله لومة لائم؛ ففي حديث عائشة – رضي الله عنها -: «إنما هلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها».

وتحرُم الشفاعة لأهل الجرائم؛ فعن ابن عمر مرفوعًا: «مَن حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود الله فقد ضادَّ الله في أمره»[32]، وفي “الموطأ”: «إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع»، وفي “الصحيح” من حديث علي – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لعن الله مَن آوى محدِثًا»، أعاذنا الله وإيَّاكم من أسباب غضبه وأليم عقابه، وهدانا وإياكم صراطه المستقيم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

•        •        •


النهي والتحذير عن كثيرٍ من المحرَّمات التي وقع فيها أكثر الناس:

اعلم – أيُّها المسلم – أن الله – تعالى – كما افترض عليك الفرائض، حرَّم عليك المحرَّمات، وتوعَّد مرتكبيها بالوعيد الشديد والعذاب الأليم، فحرَّم الشرك وأخبر – سبحانه – بأنَّه لا يغفره، وأنَّه يحبط كل عمل صالح؛ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، وحرَّم الاستهزاء بالدين أو بشيء منه أو بأهله، وأخبر أنه كفرٌ؛ قال – تعالى -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65- 66]، وحرَّم الحكم بغير ما أنزل الله، وأخبر بأنه كفر به؛ قال – تعالى -: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وحرَّم موالاة الكفار وتصحيح مذهبهم والتشبه بهم، وأخبر بأنه كفر؛ قال – تعالى -: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: «مَن تشبَّه بقوم فهو منهم»[33]، وحرَّم قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وحرَّم اليمين الفاجرة، والظلم، وشرب الخمر، وشهادة الزور، والكذب والخيانة، والكبر، والحسد، والشحناء، والغيبة والنميمة، وأكل الربا وأموال اليتامى ظلمًا، وتناول الحرام على أيِّ وجهٍ كان؛ سواء أكان من سرقة، أو اغتصاب، أو خيانة، أو غش، أو قمار، أو غير ذلك، وحرَّم الزنا واللواط، وأخبر – سبحانه وتعالى – بأنهما فُحْشٌ عظيم، وجُرْمٌ شنيع، تَوَعَّدَ فاعلَهما بالعذاب الأليم، وحرَّم – سبحانه وتعالى – التصوير واقتناء الصور، وجاءَت الأحاديث الصحيحة بأن كل مصوِّر في النار، وأن أشدَّ الناس عذابًا يوم القيامة المصورون، ومن صُوِّر عن رضًا منه واختيار فهو كالفاعل، وحرَّم الله الغناء والعزف والاستماع إلى ذلك؛ سواء أكان المغنِّي رجلاً أم امرأة؛ لأن الغناء وآلات اللهو – كالعود، والمزمار، والكمنجة، والربابة، ونحو ذلك – لَهْوٌ باطل يصدُّ عن ذكر الله، ويضل عن سبيله؛ قال – تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6]، فسَّر ابن عباس وابن مسعود وغيرُهما لهوَ الحديث بالغناء والمزامير، وروى البخاري عن أبي مالك الأشعري أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «ليكوننَّ من أمتي أقوامٌ يستحلُّون الحرَ، والحرير، والخمر، والمعازف»؛ الحر: الزنا، والمعازف: آلات اللهو.

وروى الترمذي عن عبدالرحمن بن عوف – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنما نَهَيْتُ عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمةٍ لهوٌ ولعبٌ ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجوه، وشق جيوب، ورنَّة»، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.

وحرَّم الله حلق اللِّحى، وجاءت الأحاديث الصحيحة بالنهي الأكيد عن حلقها، والأمر بإعفائها وقص الشوارب؛ ففي الصحيحين عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «حُفُّوا الشوارب، وأرخوا اللحى»، وكره – صلى الله عليه وسلم – النظر لرسولي كسرى لمَّا رآهما قد حلقا لحيتيهما وأطالا شاربيهما، وقال لهما: «ويلكما، مَن أمركما بهذا؟»، قالا: أمرنا ربُّنا – يعنيان: كسرى – فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ولكنَّ ربي أمرني بإعفاء لحيتي، وقص شاربي»[34]، واللحية: اسم لكل ما ينبت على اللحيين والعارضين والذقن من الشعر، وهي ميزة ميز الله بها الرجل عن المرأة تدلُّ على رجولته، فكيف تستسيغ – يا حالق لحيته – أن تتشبَّه بالنساء وبالمجوس وتغير خلق الله، وقد حرَّم الله عليك ذلك؟! وحرَّم الله على الرجال لبس الذهب والحرير؛ فقد رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – خاتمًا من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه وقال: «يَعْمَد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده»[35]، وأخبر – عليه الصلاة والسلام – في حديث آخر بأن الله حرَّم على ذكور أمته لبس الذهب والحرير وأحله لإناثهم[36].

وشرب الدخان الذي تفشَّى بين الناس فلم يسلم منه إلا القليل ذكر المحقِّقون من أهل العلم أنه محرَّم من أربعة أوجه
الوجه الأولثبت بالطب والتجربة أنه يضرُّ بالبدن ضررًا بالغًا، وأنه ينشأ عن شربه أمراض فتَّاكة؛ كالسل الرئوي، وسرطان المريء، والكحة المزمنة، واضطراب دقات القلب، بالإضافة إلى أنه يسبب موت الفجأة، وقد قال الله – تعالى -: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وجاء الحديث بأن قاتل نفسه في النار[37]، وفي الحديث المتَّفق عليه: «مَن قتل نفسه بشيء عُذِّب به يوم القيامة».
الوجه الثانيثبت أن الدخان مُفَتِّر، وقد يسكر أحيانًا إذا شربه مَن لم يَعْتَدْه أو شربه فاقده بكثرة، وقد حرَّم الله كلَّ مسكر وكل مخدر ومُفَتِّر.
الوجه الثالثأنَّه مستخبَث من جميع الوجوه؛ فهو خبيث الرائحة، ضارٌّ بالبدن، يقرب شاربه من جلساء السوء ويبعده عن الصالحين، وقد أحلَّ الله الطيبات وحرَّم الخبائث.

الوجه الرابعأنَّ النفقة فيه إسرافٌ وتبذير، وقد قال الله – تعالى -: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]، والعجب مِمَّن يدَّعي الرجولة والعقل وقوة الإرادة، وفي الوقت نفسه لا يستطيع مَنْعَ نفسه من شرب الدخان الضارِّ بدينه وبدنه وماله، مع أن الرضيع يُفْطَم عن لبن أمه الحلال الطيب الذي به مطعمه ومشربه ولذته، فينفطم ويسلو بعد أيام قلائل، لقد آن لكم – يا أيها المقصِّرون – أن ترجعوا إلى ربكم، وتتوبوا إليه إن كنتم تعقلون؛ قال – تعالى -: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54][38].

وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

•        •        •

نصيحة في التحذير من المعاصي:
للشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ – رحمه الله -:

من محمد بن إبراهيم إلى مَن يراه من المسلمين، وفَّقني الله وإياهم لقبول النصائح، وجنَّبنا جميعًا موجبات المخازي والفضائح، آمين.
السلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد:
فإن الله – تبارك وتعالى – قد أوجب النصيحة والبيان، وحرَّم الغش والكتمان؛ قال الله – تعالى -: {وإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة…»[39]، وقد أمر الله بالتذكير، وأخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين؛ قال – تعالى -: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، وقال – تعالى -: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ} [إبراهيم: 5]، وهذا يشمل التذكيرَ بالنصوص القرآنية وصِحَاح الأحاديث النبوية المشتملة على الأمر بطاعته – سبحانه وتعالى – وطاعة رسله، والتحذير من معصيته ومعصية رسله، وبيان ما في امتثال أوامره وترك زواجره من حصول الخيرات، وحلول البركات، واندفاع النقمات، وما في معصيته – تعالى – ومخالفة أمره من مَحْقِ البركات، في العلوم والأعمال والأعمار والمكاسب وجميع التصرُّفات، ويشمل أيضًا التذكير بأيام الله – تعالى – في خلقه، وما أحلَّ بِمَن عَصَوْا رسله من المَثُلات، وسائر ألوان الأخذ والعقوبات، مما يكون من أعظم واعظ لِمَن في قلبه أدنى حياة.

إذا عُرِف ذلك فإن المعاصي هي أسباب كل نقص وشر وفساد، في الأديان والبلاد والمعاد؛ كما قال – تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، فما أهبط الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور، إلى دار الآلام والأحزان والمصائب إلا معصيتهما بأكلهما لقمة من الشجرة التي نُهِيَا عن الأكل منها، وما أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه، وجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع – غيرُ معصيته بامتناعه من سجدة واحدة أُمِر أن يسجدها، وما الذي أغرق أهل الأرض كلَّهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟! وما الذي سلَّط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية؟! وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم ثم قلبها عليهم وأُتْبِعوا بحجارة من سجيل؟! وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظُّلَل، فلمَّا صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارًا تلظَّى؟! وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نقلت أرواحهم إلى نار جهنم، فأبدانهم للغرق وأرواحهم للنار والحرق[40] – إلا المعاصي؛ فإنها هي التي دمرت عليهم، وصَيَّرتهم إلى أسوء عاقبة في الدنيا والآخرة، ومن ثمرات المعاصي حرمان العلم وحرمان الرزق كما في “المسند”: أن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ومنها وحشةٌ يجدها العبد بينه وبين الله، وبينه وبين الناس – لا سيَّما أهل الخير منهم – وتعسير أموره فلا يتوجَّه لأمر إلا وجده مغلقًا أو متعسِّرًا عليه.

ومنها حرمان الطاعة، ومنها ظلمة القلب وجبنه ووهنه، ووهن البدن وتقصير العمر ومحق بركته؛ فإن البر كما يزيد في العمر، فإن الفجور ينقصه، ومنها انسلاخ القلب من استقباحها فتصير له عادة، والمعصية سببٌ لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه، وتورث الذل – ولا بُدَّ – وتفسد العقل، وإذا تكاثرت طُبِع على قلب صاحبها وتدخل العبد تحت لعنة الله، وتُحْدِث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه والهواء والزرع والثمار والمساكن والأشجار؛ قال الله – تعالى -: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، قال مجاهد: إذا ولي الظالم سعى بالظلم والفساد فيُحْبَس بذلك القطر، فيهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وقال ابن زيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قال: الذنوب، ولا منافاة بين القولين؛ فإن الآية تشمل هذا وهذا، وعن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأقبل علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بوجه فقال: «يا معشر المهاجرين، خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتُلُوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مَضَوْا، ولا نقص قوم المكيال إلا ابتُلُوا بالسنين وشِدَّة المؤونة وجور السلطان، وما منع قومٌ زكاة أمولهم إلا مُنِعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمَّتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم»[41]، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ما طفَّف قومٌ كيلاً ولا بخسوا ميزانًا إلا منعهم الله – عز وجل – القطر، وما ظهر في قومٍ الزنا إلا ظهر فيهم الموت، وما ظهر في قوم الربا إلا سلَّط الله عليهم الجنون، ولا ظهر في قومٍ القتل يقتل بعضهم بعضًا إلا سلَّط الله عليهم عدوَّهم، ولا ظهر في قومٍ عمل قوم لوط إلا ظهر فيهم الخسف، وما ترك قومٌ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر إلا لم تُرْفَع أعمالهم، ولم يُسْمَع دعاؤهم»[42]، ولا شيء يُسْتَجلب به الرزق بل كل خير ويُسْتَدفع به كلُّ سوء وضير غيرُ التوبة إليه – سبحانه – بالرجوع عمَّا يكرهه من المعاصي إلى ما يحبُّه من الطاعة؛ بأن يحقِّق العباد توحيدهم، ويباعدوا جميع ما ينافيه أو ينقصه أو يقدح فيه، ويحافظوا على فرائض دينهم؛ من إقامة الصلوات الخمس في جماعة، وأداء الزكاة، وغير ذلك من أركان الإسلام وفرائضه العظام كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، ويجتنبوا محارمه؛ من أنواع الفواحش وأجناس المسكرات والمخدرات والمفتِّرات، والربا في المعاملات، والخيانة في الأمانات، واستعمال أنواع الملهيات، الصادَّة عن ذكر الله وعن الصلاة وكافَّة المحرمات، فعلى المسلمين عمومًا وخصوصًا التوبة إلى ربهم والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر فيما بينهم، وتعاون بعضهم مع بعض فيما يصلح دينهم الذي به صلاح معاشهم والفوز في معادهم.

اقرأ أيضا  البروفيسورسودرنوتو عبد الحكيم : تعزيز التحالف والدعم الكامل من أجل فلسطين

هذا، وأسأل الله – تعالى – أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحفظ إمام المسلمين من كل نواحيه، ويزيده من التوفيق لمحابِّ الله ومراضيه، ويقمع به كل فساد، ويصلح بمساعيه البلاد والعباد، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم[43].
حرر 10/3/1376 هـ.

•        •        •

حكم إسبال الثياب للرجال:

قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار»؛ رواه البخاري، وقال – عليه الصلاة والسلام -: «لا ينظر الله إلى مَن جَرَّ إزاره بَطَرًا»، وفي رواية: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى مَن جرَّ ثوبه خيلاء»[44]، وقال – عليه الصلاة والسلام -: «ثلاثةٌ لا يكلِّمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكِّيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنَّان، والمُنَفِّق سلعته بالحلف الكاذب»[45]، والمُسْبِل هو: الذي يُسْبِل ثوبَه أو إزاره أو سراويله، فيطيلها حتى تكون أسفل من الكعبين، والمنَّان هو: الذي يمنُّ بما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب: البائع الذي يروِّج بضاعتَه بالحلف الكاذب، فيحلف أنه اشترى السلعة بكذا، أو أنها سِيمَت بكذا، أو أنه باع بكذا، وهو كاذب من أجل ترويج سلعته.

وقال – صلى الله عليه وسلم -: «أُزْرَة المؤمن إلى نصف ساقيه، ولا حرج فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار»[46]، وفي الحديث أيضًا: «بينما رجلٌ يمشي في حُلَّة تُعْجِبُه نفسُه مرجِّلاً رأسه يختال في مِشيته، إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة»[47]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: «الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، مَن جرَّ شيئًا منها خُيَلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»[48].

وهذه الأحاديث عامَّة في الثياب والسراويل وغيرها من اللباس، وأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل[49]، ولما تقدَّم من الأحاديث النبوية الشريفة، فإن إسبال الثياب أسفل من الكعبين يُعْتَبَر حرامًا، وكبيرة من كبائر الذنوب متوعَّدًا عليه بالنار، وتقصير الثياب فوق الكعبين أنظف لها، وأنقى لها من الأوساخ، وأتقى لله – تعالى – لذا يجب عليك – يا أخي المسلم – أن تقصر ملابسك فوق الكعبين طاعةً لله – تعالى – ورسوله، وخوفًا من عقاب الله، ورجاءً لثوابه، ولتكون قدوة حسنة للآخرين، فتُبْ إلى الله – تعالى – توبةً نصوحًا بلزوم طاعة الله – تعالى – والندم على ما حصل منك من تقصير في طاعة الله، والعزم على عدم العودة إلى معصية الله في المستقبل، فإن الله يتوب على مَن تاب، ويغفر لمن استغفر، وهو التوَّاب الرحيم.

اللهم تُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم وفِّقنا وسائرَ أخواننا المسلمين لما تحب وترضى، إنك على كل شيء قدير.

وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

•        •        •


وصايا:

أخي المسلم:
1- 
أخلص النية لله – تعالى – واحذر الرياء في القول والعمل.
2- 
اتبع السنة المحمدية في جميع الأقوال والأفعال والأخلاق.

3- اتق الله – تعالى – واعزم على فعل جميع الأوامر، وترك جميع النواهي.
4- 
تُبْ إلى الله – تعالى – توبةً نصوحًا، وأكثِر من الاستغفار.
5- 
راقب الله – تعالى – في جميع حركاتك وسكناتك، واعلم أن الله يراك ويسمعك، ويعلم ما يُكِنُّه ضميرك.
6- 
آمِن بالله – تعالى – وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
7- 
لا تقلِّد غيرك تقليدًا أعمى، ولا تكن إمَّعة.
8- 
كُنْ سابقًا في عمل الخير تؤجر عليه وتَنَلْ ثواب مَن اقتدى بك فيه.
9- 
اقتنِ كتابرياض الصالحين، واقرأ به على نفسك وعلى أسرتك.
10- 
حافظ على الوضوء وجدِّده، وكُنْ دائمًا على طهارة من الحدث والنجاسة.
11- 
حافظ على الصلاة في أوَّل وقتها مع الجماعة في المسجد، ولا سيَّما العشاء والفجر.
12- 
لا تأكل ما له رائحة كريهة كالثوم والبصل، ولا تشرب الدخان المعروف؛ لئلا تؤذي نفسك والمسلمين.
13- 
حافظ على صلاة الجماعة؛ لتفوز بالأجر المرتب عليها.
14- 
أدِّ الزكاة المفروضة، ولا تبخل بها على المستحقين.
15- 
بادر إلى صلاة الجمعة مبكرًا، واحذر أن تتأخر بعد النداء الثاني فتأثم.
16- 
صُمْ رمضان إيمانًا واحتسابًا لله – تعالى – ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخَّر.
17- 
احذر أن تفطر يومًا من رمضان من غير عذر شرعي فتأثم بذلك.
18- 
قُمْ ليالي رمضان ولا سيَّما ليلة القدر منه إيمانًا واحتسابًا؛ لتنال المغفرة لما مضى من ذنوبك.
19- 
بادر بالحج والعمرة إلى بيت الله الحرام إذا كنت مستطيعًا، واحذر التأخير.
20- 
اقرأ القرآن بتدبُّر معناه، وامتثل أمره واجتنب نهيه؛ ليكون حجة لك عند ربك وشفيعًا لك يوم القيامة.
21- 
داوِم على الإكثار من ذكر الله – تعالى – سرًّا وجهرًا، قائمًا وقاعدًا وعلى جنبك، وإياك والغفلة.
22- 
احضر مجالس الذكر؛ فإنها من رياض الجنة.
23- 
احذر الربا، والغصب، والسرقة، والغلول، والخيانة.
24- 
غُضَّ بصرك عن العورات والمحارم، وإياك وإطلاقه؛ فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس.
25- 
لا تطوِّل ثيابك إلى ما تحت الكعبين، ولا تتبختر في مشيتك.
26- 
لا تلبس الحرير ولا الذهب؛ فإنهما حرام على الذكور.
27- 
لا تتشبه بالنساء، ولا تدع نساءك يتشبهن بالرجال.
28- 
أطلق لحيتك؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم – «احفوا الشوارب وأعفوا اللحى»[50].
29- 
لا تأكل إلا حلالاً، ولا تشرب إلا حلالاً، تَكُنْ مستجاب الدعوة.
30- 
سمِّ الله – تعالى – على الطعام والشراب، واحمَد الله إذا انتهيت.
31- 
كُلْ بيمينك واشرب بيمينك، وخُذ بيمينك وأعطِ بيمينك.
32- 
إيَّاك والظلمَ؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
33- 
لا تصحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقيٌّ.
34- 
إياك والرشوة أخذًا وإعطاءً وتوسُّطًا؛ فإن فاعلها ملعون.
35- 
لا تطلب رضا الناس بسخط الله – عز وجل – فيسخط عليك.
36- 
أَطِع ولاةَ الأمر في كل أمر مشروع، وادعُ لهم بالصلاح.
37- 
احذر شهادة الزور، ولا تكتُم الشهادة؛ {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].
38- {
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ[51] وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان/17]. 
39- 
اترك جميع المحرَّمات صغيرها وكبيرها، ولا تعصِ الله – تعالى – ولا تُعِنْ أحدًا على معصيته.
40- 
لا تَقْرَب الزنا؛ إنه كان فاحشة وساء سبيلاً.
41- 
عليك ببرِّ الوالدين، وإيَّاك والعقوق.
42- 
عليك بصلة الرحم، وإيَّاك والقطيعة.
43- 
أحسِن إلى جارك ولا تؤذِه، وتحمَّل أذاه.
44- 
أَكْثِر من زيارة الصالحين وإخوانك في الله – تعالى.
45- 
أحبب في الله – تعالى – وأبغض في الله؛ فإن ذلك من أوثق عُرَى الإيمان.
46- 
عليك بالجليس الصالح، واحذر جليس السوء.
47- 
بادِر إلى قضاء حوائج المسلمين، وأدخل السرور عليهم.
48- 
عليك بالرفق والأناة والحلم، واحذر الغلظة والعجلة.
49- 
لا تقطع كلام غيرك، وعليك بحسن الاستماع.
50- 
أفشِ السلامَ على مَن عرفت ومَن لم تعرف.
51- 
تلفَّظ بالسلام المسنون، وهو قولك: (السلام عليكم)، ولا تكتفِ بالإشارة باليد أو الرأس فقط.
52- 
لا تسبَّ أحدًا، ولا تَصِفْه بسوء.
53- 
لا تلعن أحدًا، حتى البهائم والجمادات.
54- 
احذر قذفَ الناس واتهامهم في أعراضهم؛ فإنه من أكبر الكبائر.
55- 
إيَّاك والنميمةَ؛ وهي: نقل الكلام بين الناس على وجه الإفساد بينهم.
56- 
إياك والغيبةَ؛ وهي: ذكرك أخاك بما يكره.
57- 
لا تروِّع مسلمًا، ولا تُؤْذِه.
58- 
عليك بالإصلاح بين الناس؛ فإنه من أفضل الأعمال.
59- 
قُلْ خيرًا، وإلاَّ فاصمت.
60- 
كن صادقًا ولا تكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار.
61- 
لا تَكُنْ ذا وجهين؛ تأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
62- 
لا تحلف بغير الله – تعالى – ولا تُكْثِر الحلف ولو على الصدق.
63- 
لا تحتقر غيرَك؛ فإنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.
64- 
لا تأتِ الكهنة ولا العرَّافين ولا السحرة، ولا تصدقهم.
65- 
لا تصوِّر صورة إنسانٍ أو حيوانٍ؛ فإن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورين.
66- 
لا تقتنِ في بيتك صورةَ ذي روحٍ فتحرم دخول الملائكة بيتك.
67- 
شمِّت العاطسَ بقولك: يرحمك الله، إذا حَمِد الله – تعالى.
68- 
احترِز من الصفير والتصفيق (المكاء والتصدية).
69- 
بادِر إلى التوبة من كل ذنب، وأتْبِع السيئة الحسنة تمحها، واحذر التسويف.
70- 
كُنْ راجيًا عفوَ الله – تعالى – ورحمته وحَسِّن ظنك بالله – عزَّ وجلَّ.
71- 
كُنْ خائفًا من عقاب الله، ولا تأمن عقوبته.
72- 
كن صابرًا عند البلاء، وشاكرًا عند الرخاء.
73- 
أكْثِر من الأعمال الصالحة التي يبقى لك أجرها بعد الموت؛ كبناء المساجد، ونشر العلم.
74- 
سَلِ الله – تعالى – الجنة، واستعذ به من النار.
75- 
أكثِر من الصلاة والسلام على رسول الله – صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين، وعلى آله وصحبه أجمعين[52].

ملاحظة:
الإسلام أمر ونهي، والأمر نوعان: فرض، وسنة، والنهي قسمان: حرام، ومكروه، فالمسلم الكامل يحرِص على السنة حرصَه على الفرض؛ لأن التهاون بالسنة يؤدِّي إلى التهاون بالفريضة، ويفرُّ من المكروه فرارَه من الحرام؛ لأن التهاون في الحرام وارتكاب الصغيرة يسوق إلى اقتراف الكبيرة، والإسلام كلٌّ لا يتجزَّأ، وليس من شأن المسلم الكامل أن يمتثلَ أمرًا ويخالف آخر، وإلا كان كالذين قال الله – تعالى – فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85].

المسلم الكامل لا يقول مثلاً: اللحية سنةٌ يجوز تركها، والنظرة الحرام صغيرةٌ لا يضرُّ إطلاقها، وخاتم الذهب في يد الرجل يسيرٌ يُتَغَاضَى عنه، والأمر الفلاني مستحبٌّ فلا بأس بتركه.

لا، مَن قال هذا فقد حلَّ من ثوب إسلامه عروةً وعرَّض عراه إلى الانحلال، مَن قال هذا رَضِي بهدم حجرٍ من صَرْحِ إسلامه، وعرَّضه للخراب والدمار، مَن قال هذا نزل من أَوْج إسلامه درجةً ومنها إلى أخواتها وانحدر إلى الحضيض، مَن قال هذا انحرف عن صراط الإسلام السويِّ ومحجَّته البيضاء درجة ثم ابتعد عنه، ومن هنا أصيب المسلمون في دينهم، ووصلوا إلى ما نرى من تضييع وضياع، هدانا الله وإخوانَنا المسلمين سواء السبيل.
 
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

(مختصر من كتاب “سبيل الهدى والعمل، وصايا إسلامية”؛ تأليف أحمد عز الدين البيانوني – رحمه الله تعالى – ببعض تصرُّف).

ــــــــــــــــــــــــــ
[1] 
قال في “المصباح”: المِرَّة – بالكسر -: الشدة.
[2] 
رواه أبو داود.
[3] 
رواه الترمذي وقال حديث حسن.

[4] رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
[5] 
رواه أبو داود من رواية نافع عن ابن عمر وفي إسناده مقالٌ، ولأحمد نحوه من رواية عطاء، ورجاله ثقات، وصحَّحه ابن القطان.
[6] 
رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
[7] 
رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
[8] 
متفق عليه.
[9] 
متفق عليه.
[10] 
رواه الإمام أحمد.
[11] 
رواه مسلم، والغلول: الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، والغدر: نقض العهد، والتمثيل: تشويه القتيل بقطع أطرافه.
[12] 
رواه أبو داود بإسناد صحيح.
[13] 
رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
[14] 
متفق عليه.
[15] 
دليل المراتب الأربع سورة العصر.
[16] 
أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
[17] 
رواه البخاري في “صحيحه” ومسلم.
[18] “
زاد المعاد في هدي خير العباد”؛ لابن القيم، جـ 2 ص 106- 108.
[19] 
انظر رسالة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 15- 16، و”مجموع فتاوى شيخ الإسلام”: جـ 3 ص 423- 426.
[20] 
رواه مسلم.
[21] 
رواه مسلم.
[22] 
رواه مسلم.
[23] 
متفق عليه.
[24] 
رواه مسلم.
[25] 
متفق عليه.
[26] 
رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
[27] 
رواه ابن ماجه والترمذي وصححه.
[28] 
رواه البيهقي في “شعب الإيمان“.
[29] 
رواه أحمد وغيره.
[30] 
رواه البخاري.
[31] 
رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب “السنة”: ص 8.
[32] 
رواه أحمد وأبو داود.
[33] 
رواه أبو داود عن ابن عمر والطبراني في “الأوسط” عن حذيفة وحسنه السيوطي.
[34] 
رواه ابن جرير عن زيد بن حبيب.
[35] 
رواه مسلم من حديث ابن عباس.
[36] 
رواه أبو داود والنسائي من حديث علي – رضي الله عنه – بنحوه.
[37] 
رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
[38] 
من “مجموع سبع رسائل”؛ للشيخ: عبدالرحمن الحمَّاد العمر، ص 19- 22.
[39] 
رواه مسلم.
[40] 
الصحيح أن عذاب البرزخ على الروح والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة، وانظر “شرح العقيدة الطحاوية”: ص 348.
[41] 
رواه بن ماجه.
[42] 
رواه الطبراني وغيره.
[43] 
ملاحظة: انظر: آثار وعقوبات المعاصي المضِرَّة في القلب والبدن في الدنيا والآخرة، في “الجواب الكافي”؛ لابن القيم، ص44- 137.

[44] رواه مالك البخاري.
[45] 
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
[46] 
رواه أبو داود.
[47] 
متفق عليه.
[48] 
رواه أبو داود والنسائي.
[49] 
رواه أبو داود بإسناد صحيح، قاله النووي في “رياض الصالحين”، ص 402 في باب (صفة طول القميص) حديث رقم 8.
[50] 
متفق عليه.
[51] 
المعروف: ما أمر الله به ورسوله، والمنكر: ما نهى الله عنه ورسوله.
[52] 
ملاحظة: كلُّ واحدة من هذه الوصايا عليها دليلٌ من كتاب الله أو سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم.

المصدر:الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.