القواعد الفقهية
الجمعة 24 صفر 1435 الموافق 27 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).رشي
عبد العزيز الحويطان
معنى القاعدة لغة واصطلاحاً :
القاعدة لغة: الأساس(1) وتجمع على قواعد وهي : أسس الشيء وأصوله حسياً كان ذلك الشيء أو معنوياً.
قال تعالى : ((وإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْمَاعِيلُ…))
وقال تعالى : ((فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ…))
واصطلاحاً : عرفها الجرجاني بأنها “قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها”(2) .
وقال تاج الدين السبكي : “هي الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منها”(3) .
إذاً فقد عرفها السبكي بأنها أمر كلي ، لكن الحموي له تعريف آخر فهو يعتبرها أمر أكثري أو قضية أغلبية فهو يقول : “إن القاعدة هي عند الفقهاء غيرها عند النحاة والأصوليين ، إذ هي عند الفقهاء حكم أكثري لا كلي ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها”(4) .
لكن ما السبب في جعلها حكماً أغلبياً لا كلياً ؟
سيأتي معنا بعد قليل أن القاعدة تنخرم في بعض الأمور أي تشذ بعض الفروع فلا تنطبق على القاعدة ، ولذا سميت قضية أو حكماً أغلبياً .
إذاً نستطيع أن نعرفها بأنها “حكم شرعي في قضية أغلبية يتعرف منها أحكام ما داخل تحتها”(5) .
الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي :
حتى نعرف الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي ، يجدر بنا أن نعرف الضابط الفقهي أولاً ، ومنه يتضح الفرق إن شاء الله .
قال العلامة تاج الدين السبكي : “والغالب فيما اختص بباب وقصد به نظم صور متشابهة أن يسمى ضابطاً”(6) .
هذا هو المقصود بالضابط الفقهي ، وهو أنه قاعدة تختص بباب واحد فقط .
أما الفرق بينهما ، فقد قال ابن نجيم :
“الفرق بين الضابط والقاعدة : أن القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتى ، والضابط يجمعها من باب واحد ، هذا هو الأصل”(7). وأكد ذلك السيوطي – رحمه الله – في كتابه الأشباه والنظائر حيث قال: “القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتى والضابط يجمع فروع باب واحد”(8) .
وحتى يتضح الأمر تماماً دعنا نضرب مثالاً للضابط الفقهي ، وهو حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “أيما إهاب دبغ فقد طهر”(9) . فهذا الحديث يعتبر ضابطاً لطهارة الجلود في باب الآنية ، لذلك يقول الإمام إبراهيم النخعي -رحمه الله- : ” كل شيء منع الجلد من الفساد فهو دباغ”(10) .
أما مثال القاعدة فهي قاعدة “الأمور بمقاصدها” نجد أنها تدخل في أغلب أبواب الفقه إن لم يكن جميعها..
بهذا نكون قد وقفنا على الفرق بين الضابط والقاعدة في الفقه ، وهذا لا يمنع أن يكون بعض العلماء قد ساروا في كتبهم على عدم التفريق بينهما .
الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية :
أول من وجد له كلام عن التفريق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية الإمام القرافي -رحمه الله- ، حيث يقول :
“فإن الشريعة العظيمة المحمدية اشتملت على أصول وفروع ، وأصولها قسمان :
1- المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة ، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح ونحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم ، والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك…
2- قواعد فقهية كلية ، كثيرة العدد عظيمة المدد ، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه ، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى ، ولم يذكر شيء منها في أصول الفقه ، وإن اتفقت الإشارة إليه هناك على سبيل الإجمال فبقي تفصيل لم يتحصل”(11) . إذا فالشريعة من أصولها أصول الفقه والقواعد الفقهية كما قال القرافي .
ولو أنعمنا النظر في القواعد الأصولية والقواعد الفقهية ، لوجدنا بينها فروق نذكرها على سبيل الإيجاز :
1- أن أصول الفقه بالنسبة للفقه ميزان وضابط للاستنباط الصحيح ، شأنه في ذلك شأن علم النحو لضبط النطق والكتابة ، فهي التي يستنبط بها الحكم من الدليل التفصيلي وموضوعاتها دائماً الدليل والحكم ، كقولك : الأمر للوجوب والنهي للتحريم والواجب المخير يخرج المكلف من العهدة فيه بفعل واحد مما خير فيه . أما القاعدة الفقهية فهي كلية تنطبق على جميع جزئياتها ، وجزئياتها بعض مسائل الفقه ، وموضوعاتها دائماً هو فعل المكلف .
2- القواعد الأصولية كلية تنطبق على جميع جزئياتها ، أما القواعد الفقهية فإنها أغلبية وتكون لها المستثنيات .
3- القواعد الأصولية ذريعة لاستنباط الأحكام الشرعية ، أما القواعد الفقهية فهي عبارة عن مجموعة الأحكام المتشابهة التي ترجع إلى علة واحدة تجمعها .
4- القواعد الفقهية متأخرة في وجودها الذهني والواقعي عن الفروع ، لأنها جمع لأشتاتها وربط بينها ، أما الأصول فالغرض الذهني يقتضي وجودها قبل الفروع لأنها القيود التي أخذ الفقيه نفسه بها عند الاستنباط”(12) .
هذه هي أهم الفروق بينهما ، ولعلها اتضحت إن شاء الله . ويبقى أن نذكر أن من أهم مميزات القواعد الفقهية أنها تخدم المقاصد الشرعية العامة والخاصة ، وتمهد الطريق للوصول إلى أسرار الأحكام وحكمها(13) .
معنى الأشباه والنظائر :
هذا المبحث لأول وهلة يظن المرء أن لا دخل له في القواعد الفقهية ، لكن كتب الأشباه والنظائر مليئة بالقواعد الفقهية وفنون أخرى ، ولذلك ألحق بهذا البحث . فما تعريف الأشباه ؟؟
– كلمة شِبْه أو شَبَه هي المثل في اللغة(14) ، والنظير : المثل المساوي (15) .
أما اصطلاحاً فقد عرف تاج الدين السبكي -رحمه الله- الأشباه فقال : “إن الأشباه : هو أن يجتذب الفرع أصلان ويتنازعه مأخذان فينظر إلى أولاهما وأكثرهما شبهاً فيلحق به(16) . مثال ذلك : “إلحاق العبد المقتول بالحر ، فإن له شبهاً بالفرس من حيث المالية وشبهاً بالحر لكن مشابهته بالحر في الأوصاف والأحكام أكثر فألحق بالحر(17).
وقد عرف الحموي الأشباه فقال : “المراد بها المسائل التي يشبه بعضها بعضاً مع اختلاف في الحكم لأمور خفية أدركها الفقهاء بدقة أنظارهم ، وقد صنفوا لبيانها كتباً كفروق المحبوبي والكرابيسي” (18) .
إذاً فالأشباه هي الفروع المتشابهة ظاهراً والمختلفة باطناً لعله معينة ، وأصل هذه الكلمة يرجع إلى كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري حيث جاء فيه : “الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة ، اعرف الأمثال والأشباه ، ثم قس الأمور عند ذلك ، فاعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى”(19) .
هذا فيما جاء في أصل هذه الكلمة ، أما كلمة النظائر فلم يرد فيها أثر ، لكن الفقهاء أضافوها إلى كلمة الأشباه مقابلة لها ، وذلك أنهم ألفوا فنوناً فقهية عبارة عن أحكام متشابهة مع وجود بعض الفروق بينها(20).
فالفروق أقاموا كلمة النظائر بدلها ، وبعض المؤلفين ألف كتباً وسماها الفروق ، بينما بعضهم ألف في نفس الفن وجاء بالأشباه والنظائر ، ولذلك يقول السيوطي : “والمناظرة تكفي في بعض الوجوه ولو وجهاً واحداً”(21).
أما أول من ألف في الفروق فهو الإمام أحمد بن عمر بن سريج الشافعي (306 ه) ثم توالت التأليفات بعده(22) .
وقد عرف صاحب الفوائد الجنية الفروق فقال : “معرفة الجمع والفرق : أي معرفة ما يجتمع مع آخر في الحكم ، ويفترق معه في حكم آخر كالذمي والمسلم يجتمعان في أحكام ويفترقان كذلك ، ومن هذا الفن نوع يسمى الفروق : وهو معرفة الأمور الفارقة بين مسألتين متشابهتين بحيث لا يسوى بينهما في الحكم”(23) .
وقال أبو محمد الجويني : “فإن مسائل الشرع ربما تتشابه صورها ، وتختلف أحكامها لعلل أوجبت اختلاف الأحكام ، ولا يستغني أهل التحقيق عن الإطلاع على تلك العلل التي أوجبت افتراق ما افترق منها واجتماع ما اجتمع منها”(24) .
ومن الأمثلة على ذلك:”إذا طرح في الماء تراب فتغير به طعمه أو لونه أو ريحه ، لم يسلبه التطهير ، ولو مزج فيه طاهر غير التراب كالزعفران والعصفر والصابون والملح الحجري فتغير بمخالطه بعض صفاته سلبه التطهير ، والفرق بينهما أن التراب يوافق الماء في صفتيه الطهارة والتطهير ، فلا يسلبه بمخالطته شيئاً منها…”(25) .
ومما سبق يتبين أن علم الأشباه والنظائر هو نفسه الفروق ، وهما يشملان القواعد الفقهية ، لأن علم الأشباه والنظائر يحوي الألغاز والحيل وفنوناً عديدة منها القواعد الفقهية..
“يتبع”
الهوامش :
1- المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 406
2- التعريفات للجرجاني ص 171
3- القواعد الفقهية لعلي أحمد الندوي
4- غمز عيون البصائر شرح الاشباه والنظائر 1/22
5- القواعد الفقهية لعلي أحمد الندوي ص 43
6- القواعد الفقهية
7- الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 192
8- أخرجه الترمذي ، كتاب اللباس ، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت ، وقال : حديث حسن صحيح .
9- الآثار لأبي يوسف ص 232
10- الفروق للقرافي 1/2-3
11- انظر القواعد الفقهية ص 58- 61 ، للإطلاع على مزيد من هذه الفروق .
12- مصدر سابق ص 61
13- تاج العروس 9/393
14- مصدر سابق
15- الأشباه والنظائر ص 17
16- كشف اصطلاحات الفنون 4/173
17- غمز عيون البصائر
18- سنن الدارقطني 4/206 وسنن البيهقي 10/115
19- القواعد الفقهية ص 68
20- الحاوي للفتاوى 2/273
21- القواعد الفقهية
22- الفوائد الجنية 1/87
23- القواعد الفقهية للندوي ص 73 ، وعزاه إلى كتاب الفروق للجويني – شريط مصور .
24- القواعد الفقهية ص 74 ، وعزاه إلى كتاب الفروق للسامري – شرط مصور .
25- أخرجه البخاري ، كتاب الديات ، باب : المعدن جبار والبئر جبار 6/2533 ترقيم البنا .
المصدر: رواد التميز