هجرة المسلمين من «الغثائية» إلى «الفاعلية» كيف تكون؟

السبت 25 صفر 1435 الموافق 28 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

بسام ناصر
ذكرى الهجرة النبوية تمر بالمسلمين كل عام، فتقام لها الاحتفالات والمهرجانات، وتلقى فيها الخطب والكلمات، وفي بعض البلاد الإسلامية يكون يومها عيدا تعطل فيه الدوائر الحكومية والمؤسسات الرسمية، وقد درج المسلمون على ذلك منذ عقود خلت، وحالهم على ما هو عليه من الضعف والتخلف وفشو كثير من الظواهر السلبية المرضية في مجتمعات المسلمين، ورسوخ حالة «الغثائية» التي غدت أبرز سمة تميز حالة المسلمين في هذا العالم.

واقعة الهجرة حدث تاريخي مفصلي في مسيرة الدعوة الإسلامية، ومحطة هامة في سيرة نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، فهي نقلة نوعية تهيأت فيها للدعوة الإسلامية الأولى بيئة راعية وحامية، نقلتها من أجواء الضيق والملاحقة والاضطهاد الذي مارسه طغاة مكة وجبابرتها بحق رجالات الدعوة الأوائل الذين آمنوا بها، وضحوا من أجلها، وثبتوا عليها، فجاءت الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة، لتخرجهم من تلك الأجواء الخانقة، إلى فضاءات الحرية، حرية الكلمة والحركة، إلى حيث يكون للمسلمين منعة وقوة ودولة، ينطلقون منها لنشر أنوار رسالتهم الهادية، التي بُعث بها رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم.
من معاني الهجرة التي تستحق التوقف عندها مليا، كيفية تهيئة الأسباب والظروف الدافعة لنقل المسلمين من حالة «الغثائية» إلى عالم «الفاعلية»، إنها لون من الهجرة المنتجة، التي تحمل المسلمين على اقتحام ميادين الإصلاح الجدي، ومواقعة مسالك التغيير الحقيقي، وعماد ذلك كله، الاشتغال الواعي بصناعة إنسان التغيير، إذ إن الإقلاع صوب النهوض الحضاري لا يكون إلا بإنسان قادر على الاضطلاع بتلك المهام الجسام.
«
الغثائية» حالة ورد ذكرها في حديث نبوي جامع، تقول كلماته –كما في رواية أبي داود ومسند أحمد وغيرهما– عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت».
هذا الحديث يحمل توصيفا دقيقا لواقع الأمة الإسلامية، فهي أمة المليار وزيادة، ولكنها كثرة لم تغنِ عنها شيئا، ولم تصنع لها مجدا، بل لم تنقذها من براثن الضعف والتخلف والتبعية، فكانت ميدان تنافس وسباق لأمم الأرض، التي بسطت نفوذها على بلاد المسلمين، واستعمرتها استعمارا مباشرا عقودا طويلة من الزمن، حتى بعد أن انتهى عصر الاستعمار المباشر، لم تتحرر من هيمنة الدول الاستعمارية، ولم تتمتع بسيادتها على بلادها، فأصبحت كلمة المستعمرين القدامى هي النافذة عليها، وغدا المسلمون في بلادهم يرزحون تحت نير التبعية للدول الكبرى، وهذه هي الغثائية، كثرة كاثرة في العدد، لكنها منزوعة الدسم والفاعلية.
أمة المليار لا يحسب لها الآخرون أي حساب، لأنهم يرونها أمة مهانة لا تصلح إلا لاستهلاك ما ينتجونه، ولأنها تعيش حالة الوهن، التي جعلت أبناءها عبيدا للدنيا، صرفهم حبها والتعلق بها، عن أن يكونوا عاملين منتجين، يملكون سيادتهم وقرارهم المستقل، ولا يحسن فهم ما جاء في الحديث على أنه حالة قدرية لا مفر للمسلمين من مواقعتها والتلبس بها، حينما يتعلقون بظاهر اللفظ «وليقذفن الله في قلوبكم الوهن»، فلا يكون ذلك إلا حينما يواقع المسلمون مقدمات لا يكون ما ذكر في الحديث إلا نتائج حتمية تترتب عليها.
فقد أخبرنا القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}، بوعده المانع من علو حكم الكافرين على المؤمنين في بلادهم، لكن من يرى تسلط الكافرين على المؤمنين في واقع المسلمين اليوم، يثور بين يديه سؤال عن مدى تحقق الوعد الإلهي الوارد في الآية، فلماذا كان الأمر كذلك، يجيبنا على ذلك الاستشكال العلامة الطاهر ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير.
يقول: «فإن قلت: إذا كان وعدا لم يجز تخلفه، ونحن نرى الكافرين ينتصرون على المؤمنين انتصارا بينا، وربما تملكوا بلادهم وطال ذلك، فكيف تأويل هذا الوعد. قلت: إن أريد بالكافرين والمؤمنين الطائفتان المعهودتان بقرينة القصة فالإشكال زائل، لأن الله جعل عاقبة النصر أيامئذ للمؤمنين وقطع دابر القوم الذين ظلموا فلم يلبثوا أن ثقفوا وأخذوا وقتلوا تقتيلا ودخلت بقيتهم في الإسلام فأصبحوا أنصارا للدين؛ وإن أريد العموم فالمقصود من المؤمنين، المؤمنون الخلص الذين تلبسوا بالإيمان بسائر أحواله وأصوله وفروعه، ولو استقام المؤمنون على ذلك لما نال الكافرون منهم منالا، ولدفعوا عن أنفسهم خيبة وخبالا».
فحالة الذل والضعف والتخلف والتبعية التي تسود ديار المسلمين، نتائج حتمية ترتبت على مقدمات واقعها المسلمون وتلبسوا بها، فقد أحدثوا في إيمانهم ثغرات عظيمة، وتخلوا عن كثير من أصول عقائدهم، وأركان دينهم، وفارقوا في كثير من الأحوال سمت الصالحين والربانيين، وهم قد تخلوا كذلك عن القيام بواجب عمارة الأرض، واستخراج كنوزها، ومعرفة أسرار التسخير الإلهي وقوانينه حتى يتمكنوا من استثمارها والاستفادة منها، وغابت عن حياتهم السنن الإلهية في الكون والعمران البشري، وأقاموا حساباتهم، وبنوا تطلعاتهم وفق السنة الخارقة (الاستثنائية)، التي تتطلع إلى إحداث التغيير في حياتهم على أيدي المخلص القادم من رحم الغيب، بما يجريه الله على يديه من معجزات وكرامات يعجز عن فعلها البشر في عالمهم المشهود.
في كتابه «فاعلية المسلم المعاصر.. رؤية في الواقع والطموح» يشخص الدكتور ابن عيسى باطاهر الخلل الأكبر الذي أصاب الأمة الإسلامية بقوله: «وتُجمع أغلب الآراء على أن الخلل الذي أصاب الأمة الإسلامية في سعيها نحو النهضة والحضارة هو انعدام الفاعلية وقلة النشاط والعمل، وعدم الاستفادة من الوسائل المتاحة، فلم يكن ينقص الفرد المسلم منطق الإخلاص بقدر ما كان ينقصه منطق العمل والحركة، فهو يفكر ولكن لا ليجسد فكرته في عمل مثمر، وإذا عمل لا يقدّم الجهد المطلوب لتحقيق النتائج المرغوبة».
ينقل عن مالك بن نبي قوله: «العالم الإسلامي لم يبلغ بعد درجة النشاط، أو العمل الفني الذي يُعَدُّ وحده كفيلا بتحديد مكانه في العالم الحديث الذي يحتل مبدأ «الفاعلية» أول درجة في سلم القيم، وهذا المبدأ من أحوج الأمور بالنسبة لنا».
ويقول: «ألسنا نشعر مثلا بأن ديننا وهو أوضح –من حيث الصحة– من شمس النهار، إنه إلى حد ما وبسببنا نحن، وبسبب تقاعسنا وتكاسلنا ونومنا في النهار فَقَد بعض صلاحيته».
وينقل عن محمد قطب قوله: «لقد وعت أوروبا أنّ الإنسان هو القوة العاملة في الأرض، وأن الطاقة البشرية هي أداة الإصلاح، من أجل ذلك اتجهت همتهم لتجنيد هذه الطاقة، وتوجيهها إلى العمل المنتج في واقع الحياة، وواصلوا ذلك إلى درجة مُعجِبَة من النشاط والتنظيم والدأب المنتج العجيب، ذلك ما نسيه المسلمون اليوم وهم يتواكلون ويتقاعسون وينتظرون وهم قاعدون».
هجرة الأمة الإسلامية لحالة «الغثائية» المستوطنة في عقول أبنائها، وربوع بلدانها، إلى عالم «الفاعلية» تقوم على رؤية واضحة المعالم، تحتل فيها قضية صناعة إنسان التغيير –بكل متطلباتها ومقوماتها وشروطها وآلياتها، الدرجة الأولى، والمكانة الأسمى، لأنه «مما يؤسف له– كما يقول الدكتور باطاهر – أن كثيرا من المسلمين يعزون قلة الفاعلية في الأمة إلى قلة الوسائل المتاحة، والإمكانيات الموجودة بين أيديهم، ويرون أن الانطلاق الحضاري لا بد له من وسائل كبيرة للتغلب على مشكلات الحياة كالفقر، والأمية، والبطالة والكساد، وغيرها من المشكلات..».
مؤكدا ما يكون به العلاج الناجع بقوله: «ويجهلون أن تلك المجتمعات المتحضرة لم تكن تملك ساعة انطلاقها سوى الأشياء الأولية الضرورية لأي إقلاع حضاري، وينسون بذلك سنن الله في التغيير التي تبدأ من الإنسان نفسه، حين يعرف كيف يستثمر المعطيات الموجودة عنده ليحقق بها أحسن النتائج في ميدان الحضارة والبناء». 

اقرأ أيضا  أعياد تستبيح الأقصى لتقسيمه

المصدر:السبيل

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.