مقالة: العلم والعمل في الإسلام
السبت،2 ربيع الاول 1435ه الموافق 4 كانون الثاني /يناير2014م وكالة معراج للأنباء “مينا”.
السيد عبدالرؤوف الأسطواني
إن رسالة سيدنا محمد عليه وآله الصلاة والسلام، كانت فاتحة لعهد تحرير الفكر الإنساني، وإطلاقه في ميدان العلم والثقافة. فمن المعلوم أن أول ما نـزل من القرآن، هو قوله تعالى ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 – 5] فانظر في هذه الآيات كيف بدأت بالقراءة، وبذكر خلق الإنسان من علق، وإكرام الخالق له بتعليمه الكتابة، وسائر ما لم يعلم من ضروب العلوم والفنون.
فالنعمة الأولى التي أكرم الخالق بها الإنسان، هي نعمة الوجود في هذا الكون الذي ما خلق إلا لمنفعة بني آدم، بدليل قوله تعالى ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ أي لأجلكم ومنفعتكم، ولذلك افتتح النعم التي أنعمها على خلقه، في سورة العلق التي نحن بصددها، بذكر خلق الإنسان وإيجاده، فبين أن الإنسان مخلوق من العلق. فما هو العلق يا ترى؟
لقد فسر معناه العالم الانكليزي المسلم “عبدالله كويلم” بأنه الحوين المنوي الموجود في ماء الرجل والذي يخلق منه الجنين لدى امتزاجه ببويضة المرأة. ولئن فسره الأقدمون بغير هذا التفسير الفني فذلك لأنهم ما كانوا يعرفون تلك الحوينات المجهرية. ويرى العالم المذكور أن القرآن أطلق عليها لفظ ﴿ العلق ﴾ إطلاقًا حقيقيًا لا تشبيهًا لها بالعلق المعروف. وذلك لأنها تعلق ببويضة المرأة فسميت علقًا من قبيل الحقيقة لا من قبيل المجاز. واستدل ذلك العالم الانكليزي المسلم بذكر العلق مبدأ لخلق الإنسان، على أن القرآن منـزل من عند الله تعالى، لأنه لم يكن إذ ذاك أحد يعلم حقيقة مبدأ تشكل الجنين، إلا الخالق القدير.
وبعد أن بين الله تعالى إيجاد الإنسان، وصف نفسه بأن لا يوازيه أحد في الكرم، بقوله جل من قائل ﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ وهل يستطيع أحد غيره أن يجود بمثل هذا الكرم الإلهي، اللهم لا، ولذا كان وصفه نفسه بهذه الصفة مناسبًا جدًا بعد أن بين شيئًا من كرمه وهو خلق الإنسان وإبرازه إلى عالم الوجود.
وكأنه أراد تبيان شيء آخر من كرمه، تأكيدًا وتأييدًا لكلامه السابق فبين أنه هو الذي علم الإنسان الكتابة، أول ما يجب عليه تلقيه وتعلمه، وذلك في قوله ﴿ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾ وبيَّن أيضًا أنه هو الذي ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ و﴿ مَا ﴾ هذه تشتمل جميع العلوم والفنون وسائر المعارف التي ظهرت قديمًا وحاضرًا وستظهر أجلًا، لأن المقصود بالإنسان جنس الإنسانية.
إن لنا، معاشر المسلمين، في هذه الآيات المعجزات، حجة دامغة على كل من يرمي ديننا الحنيف بالجمود ومخالفة العلم والفن. إن لنا في هذه البينات النيرات لبرهانًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولم لا؟ أفلم يتضح أن أقدم ما أتى به الكتاب العظيم هو أحدث ما أتى به العلم الجديد من النظريات الفسيولوجية؟
فلست أدري كيف يجرؤ أولئك الجاهلون على الطعن في الإسلام، ووصمه بأنه عقبة في سبيل التقدم العلمي والرقي الفكري. وها أنا أسرد لك أيها القارئ براهين أخرى اتضحت لعلماء هذا الزمان، فجعلت حجة أولئك المتعصبين على الإسلام داحضة أكثر مما كانت داحضة قال تعالى ﴿ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ﴾ [الحجر: 19] فانظر كيف أشارت هذه الآية إلى ما يسمونه بالثقل النوعي، فبينت أن كل شيء خرج وسيخرج من الأرض مائعًا كان أو جامدًا أو غازيًا، له ثقل مختص به يستحيل اشتراك غيره فيه.
وقال تعالى ﴿ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ﴾ [الأعلى:4، 5] والغثاء الأحوى هو النبت الذي يسود بمرور الأيام ويتحجر، أفليس في ذلك إشارة إلى أن أصل الفحم الحجري نبات؟
ثم انظر إلى الإعجاز العلمي في قوله تعالى ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 22] فقد بين هنا أن الرياح تهب حبالى من بخار الماء وتلد السحاب في جو السماء وتسقينا من نتاجها الذي كانت تخزنه في الفضاء الواسع.
وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ﴾ [النور: 43] فأشار إلى حادثة الألفة الكهربائية أو ما يسمونه بالتجاذب الكهربائي. ذلك أن السحاب لا يأتلف بطريق الصدفة، بل بموجب قانون طبيعي عرفه علماء عصرنا فقالوا بأن قطع السحاب لا تأتلف إلا بتغاير نوع الكهربائية التي تحملها كل قطعة منه، فالسلبية تأتلف مع الإيجابية، لأن تماثل قواها يقضي بتدافعها وتشتتها، كما يشاهد عند تشتت السحاب واضمحلاله. وقالوا أيضًا بأن قسمًا من مولد الحموضة يتحد مع مولد الماء بواسطة الشرارة الكهربائية – وهي البرق – فيتولد الماء فترى الودق يخرج من خلال السحاب. وهذا ما يسميه علماء الكيمياء بالألفة الكيميائية.
وقال تعالى ﴿ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ [الرعد: 3] وهذا ما برهنه علم النبات من ازدواج النباتات ووجود ذكر وأنثى في كل زهرة من أزهاره.
وقال تعالى ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ والضياء مصدر النور ومبعثه، وعليه تكون الآية دليلًا على أن ﴿ نور ﴾ القمر مستمد من ﴿ ضياء ﴾ الشمس، وفاقًا لما هو معروف في علم الفلك.
وقال سبحانه ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الأنعام: 125] فأشار إلى أن مولد الحموضة ينقص في طبقات الجو وأن الإنسان يشعر كلما علا بعوارض الاختناق[1].
تلك هي نبذة يسيرة من الدلائل التي تنطق بأن القرآن يساير الترقي العلمي والفني، وتكم أفواه بعض الملحدين الذين يدعون أنه من كلام محمد عليه الصلاة والسلام؛ إذ هل كان أحد من الناس في تلك العصور الخالية، يعلم شيئًا من القوانين والحوادث الطبيعية التي ورد ذكرها في القرآن؟
قد يقال بأن هناك آيات تشير إلى أن الأرض مسطحة، كقوله تعالى ﴿ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ ولكن أليس من الخطأ البين أن يفهم من هاتين الآيتين عدم كروية الأرض؟ أليس المراد منهما ذكر ما يتراءى للعباد من انبساط الأرض بسبب اتساع سطحها الكروي المؤلف من سطوح مستوية؟
ثم إن تلك الآيات الصريحة قد أثبتتها العلوم الوضعية الراهنة (Positives Sciences) أي العلوم التي اكتسبت الصفة العلمية البحتة وأصبحت راسخة لا يعتورها شيء من الوهن والارتباك.
أما الآيات الأخرى التي تشير إلى دوران الأرض حول الشمس وما شاكله من الحوادث الفلكية فإنها لا تصرح بشيء من ذلك، بل هي قابلة للتأويل على وجوه مختلفة، فلا يصح الاستدلال بها على شيء من الفرضيات التي لم تدخل بعد في حيز العلوم الوضعية الراهنة. وليس من المنطق أن يستدل بآيات كهذه، ليقال بأنها تشير إلى ما تقوله الفرضيات الكبرى كفرضية لابلاس ونظرية دورة الأرض الانتقالية، لأن هذه الفرضيات غير ثابتة بالأدلة المحسوسة اليقينية بدرجة ثبوت القوانين الطبيعية الدائمة، وقد قدر لها بالفعل أن تهاجم بنظريات أخرى تخالفها. فعلى البشر إذن أن يحاولوا اكتشاف الحقائق والقرآن لا يعارضهم في ذلك لأنه لم يصرح في آياته إلا بالحوادث الطبيعية الداخلة في زمرة العلوم الوضعية التي كتب لها الثبوت. أما النظريات الكبرى التي لم تثبت صحتها بعد، فإن الآيات التي تشير إليها كما قلنا تحتمل التأويل، وليس من الصواب تطبيقها على تلك الفرضيات غير الثابتة ثبوت النواميس الطبيعية.
عجبًا، ما هي الغاية من إشارة القرآن الكريم إلى تلك الحوادث الطبيعية؟ إن الغاية من ذلك هي التذكير بآيات الخالق في كونه، وإثبات وجوده ووحدانيته، وإرشاد الناس إلى هذه الحقيقة الأزلية. وفي الواقع أنا نرى في القرآن آيات كثيرة تأمر البشر بالتفكر في عجائب الكون، للاستدلال بها على وجود الإله ووحدانيته، وآيات أخرى تنعت المتأملين على هذا النحو بأولي الألباب، كما في قوله تعالى ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190] فأشار بذلك إلى البحث في خلق السموات والأرض واستخراج أسرارها، وفي ذلك إشارة إلى العلوم الفلكية والطبيعية. ومن ذلك قوله سبحانه ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ[2] ﴾ فأشار إلى علم النبات وطبقات الأرض. ثم قال ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ ﴾ فأشار إلى علم الحيوان. ثم صرح بأن الذين يتفكرون في تلك الأمور هم العلماء وهم الذين يخشون ربهم حق خشيته لما اطلعوا عليه بأبحاثهم ودراساتهم من الأسرار التي أودعها الخالق في الطبيعة فقال ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾.
فالذي يتضح مما تقدم أن الإسلام يوجب على الناس التفكر في الخلق، للوصول إلى معرفة الخالق. وأمثل طريقة توصل إلى هذه الغاية البحث العلمي والتتبع الاستقرائي، لأنهما يكشفان من الأسرار ما لا توصل المعرفة العامية إلى عشر معشاره.
وتلك هي ميزة العلماء المسلمين، فقد انقطعوا في القرون الإسلامية الذهبية إلى التحري العلمي والتحقيق التجريبي، فما زادهم ذلك إلا إيمانًا بالصانع وتسليمًا بقدرته. أما العلماء الماديون الذين يباهي بهم القرن العشرون فإنهم وإن بحثوا أكثر مما بحث الأولون، واكتشفوا من الحقائق ما لم يكتشفه أولئك، إلا أن أبحاثهم واكتشافاتهم هذه زادتهم إلحادًا وإنكارًا لوجود الخالق، فهم إذن لم يدركوا إلا الأمور الحسية المادية فكانت هي مبلغهم من العلم.
وإذا كان من مبادئ الإسلام التتبع العلمي للوصول إلى معرفة الخالق، فمن مبادئه أيضًا عدم الاقتصار على العلم وحده، بل وجوب العمل بما ينفع الناس يدلك على ذلك قوله تعالى ﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25] إذن فليست الغاية الوحيدة من وجود الحديد معرفة خواصه وأوصافه، بل هي الانتفاع ببأسه وقوته، وذلك بإدخاله المعامل قِطعًا لا نفع لها، وإخراجه للمسلمين آلات وعددًا لنصر الله والرسول!
فأين المسلمون من هذه الآيات البينات ومتى يهدمون بيوت الذل والوهن، ويشيدون معاهد العز والمجد؟ ويفيقون من غفلة هم فيها ساهون؟ وهل يتم لهم ذلك بدون الرجوع إلى دينهم الذي يأمرهم بالعلم والفن والعمل ويفتح لهم سبل الحياة، ويكفل لهم سعادة الدنيا والأخرى؟
المصدر: مجلة التمدن الإسلامي، السنة الأولى، العدد العاشر، 1354هـ
[1] هذه الأمثلة – ما عدا أمثال العلق – مصطفاة من كتاب إعجاز القرآن للمرحوم السيد أحمد فوزي الساعاتي صاحب كتاب “المشكاة“.
[2] جدد طرق في الجبال وغيرها. وغرابيب سود أي صخور شديدة السواد.