القواعد التشريعية
الثلاثاء،5 ربيع الاول 1435ه الموافق 7 كانون الثاني /يناير2014م وكالة معراج للأنباء “مينا”.
القواعد التشريعية
تمهيد:
القواعد التشريعية هي القواعد التي وضعها علماء الأصول للاستهداء بها في تفسير النصوص التشريعية، وقد استمدوا هذه القواعد من استقراء الأحكام التي جاءت بها النصوص، وعِلل هذه الأحكام، وكذلك من المبادئ العامة – أو القواعد الكلية – للشريعة.
فقد وجد علماء الأصول أن المشرع قصد بالشريعة تحقيق مصالح عامة، كما وجدوا أن بعض النصوص قصد بها حماية حقوق الجماعة، وبعضها قصد بها حماية حقوق الأفراد، وبعضها قصد بها حماية حقوق الأفراد والجماعة على السواء، ولا بد من مراعاة هذه الاعتبارات عند التعرض لتفسير النصوص، أو استنباط الأحكام[1].
القاعدة الأولى : مقاصد التشريع
لكل تشريع من التشريعات مقاصد وأغراض، قصد المشرع تحقيقها في واقع الحياة.
والتشريع الإسلامي – ككل تشريع – له غرض أساسي هو تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وذلك بجلب النفع لهم، ودفع الضر عنهم؛ لكي يقوموا بمسؤوليتهم خير قيام في هذه الحياة.
وترجع أهمية التعرف على مقاصد التشريع إلى أنه “لا يمكن أن تُفهَم النصوص على حقيقتها إلا إذا عُرف مقصد المشرع من وضعها؛ لأن دلالة الألفاظ والعبارات على المعاني قد تحتمل أكثر من وجه، والذي يرجح واحدًا من هذه الوجوه على غيره هو الوقوف على قصد الشارع، وقد تتعارض النصوص بعضها مع بعض، فلا يرفع هذا التعارضَ ولا يوفق بينها إلا معرفةُ ما قصده الشارع منها، ولأن كثيرًا من الوقائع التي تحدث ربما لا تتناولها عبارات النصوص، وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامها بأي دليل من الأدلة الشرعية، والهادي في هذا الاستدلال هو معرفة مقصد الشارع”[2].
وقد حصر علماء الأصول مقاصد التشريع في ثلاثة مقاصد: الضروريَّات، والحاجيَّات، والتحسينيات.
أما الأمور الضرورية فهي ما تقوم عليه حياة الناس، ولا بد منه لاستقامة مصالحهم، وإذا فُقِدَ اختل نظام حياتهم، ولم تستقم مصالحهم، وعمَّت فيهم الفوضى والمفاسد.
والأمور الضرورية ترجع إلى حفظ خمسة أشياء، هي: الدين، والنفس، والعقل، والعِرْض، والمال.
وقد شرع الإسلام لكل واحد من هذه الخمسة أحكامًا تكفل إيجاده وتكوينه، وأحكامًا تكفل حفظه وصيانته، وبهذين النوعين من الأحكام حقق للناس ضرورياتهم.
فالدين شرع لإيجاده وإقامته وجوب الإيمان، وأحكام القواعد الخمس التي بني عليها الإسلام، وأوجب الدعوة إليه وتأمين هذه الدعوة من الاعتداء عليها وعلى القائمين بها، كما شرع لحفظه وصيانته أحكام الجهاد لمحاربة من يقف في سبيل الدعوة إليه، وعقوبة من يرتدُّ عن دينه، ومن يبتدع ويحدث في الدين ما ليس منه، أو يحرف أحكامه.
والنفس شرع لإيجادها الزواج للتوالد والتناسل، وبقاء النوع على أكمل وجه، وشرع لحفظها وكفالة حياتها إيجاب الضروري من الطعام والشراب وغير ذلك، وإيجاب القصاص والدية والكفارة على من يعتدي عليها.
والعقل شرع لحفظه تحريم الخمر وكل مسكر، وعقاب من يشربها أو يتناول أي مخدر.
والعرض شرع لحفظه حد الزاني والزانية والقاذف.
والمال شرع لإيجاده وجوب السعي والضرب في الأرض، وأباح المعاملات والمبادلات بين الناس، وشرع لحفظه وحمايته حد السرقة، وحرم الغش والخيانة وأكل مال الناس بالباطل، وحرم الربا.
ولحفظ هذه الضروريات فقد أباح المشرع المحظورات عند الضرورة.
وأما الأمور الحاجية، فهي الأمور التي تسهل للناس حياتهم، وترفع عنهم الحرج والمشقة، وتخفف عنهم أعباء التكليف؛ لكن فقْد هذه الأمور لا يؤدي إلى اختلال نظام الحياة، أو انتشار الفوضى والفساد؛ وإنما يؤدي إلى وقوع البشر في الحرج والمشقة.
والأحكام التي قصد بها رفع الحرج والتيسير على الناس – موجودة في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والعقوبات.
ففي العبادات مثلاً نجد الرخص الشرعية للتخفيف عن المكلفين؛ كإباحة الفطر في رمضان للمريض والمسافر، وقصر الصلاة الرباعية للمسافر، والصلاة قاعدًا لمن عجز عن القيام، والتيمم عند عدم الماء، وغير ذلك.
وفي المعاملات أباح المشرع كثيرًا من العقود التي تخالف القواعد الشرعية؛ لرفع الحرج عن الناس؛ كالسلم، والمزارعة، والمساقاة، كما شرع الطلاق عند الحاجة إليه.
وفي العقوبات جعل الدية على العاقلة تخفيفًا عن القاتل خطأ، ودَرَأَ الحدودَ بالشبهات، وجعل لولي المقتول حق العفو عن القصاص من القاتل.
وأما الأمور التحسينية، فهي الأمور التي تجمل بها الحياة، وإذا فقدت لا يختل نظام الحياة؛ كما في فقد الأمر الضروري، ولا يصيب الناس حرج؛ كما في فقد الأمر الحاجي؛ ولكن تصير حياتهم غير طيبة، تنكرها الفطر السليمة.
وهذه الأمور ترجع في جملتها إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وكل ما يقصد به سير الناس في حياتهم على أفضل الطرق وخير المناهج.
ومن الأحكام الشرعية التي تحقق هذا المقصد ما يلي:
في العبادات شرعت الطهارة للبدن والثوب والمكان، وندب إلى أخذ الزينة عند كل مسجد، كما شرع التطوع بالصدقة والصلاة والصيام.
وفي المعاملات حرم الغش والتدليس والتغرير، والإسراف والتقتير، وحرم التعامل في كل نجس وضار، ونهي عن كل تصرف يمثل إضرارًا بالغير.
وفي العقوبات نهي عن التمثيل بالأعداء، ونهي عن قتل الأعزل، وإحراق الميت أو الحي، كما نهي عن قتل الصبيان والنساء أثناء الحرب.
ترتيب هذه المقاصد:
يتبين مما قدمنا أن الضروريات هي أهم المقاصد؛ لأنه بفقدها يختل نظام الحياة، وتشيع الفوضى، وتضيع مصالح الناس، تليها الحاجيات؛ لأنه يترتب على فقدها وقوع الناس في الحرج والعسر، تليها التحسينات؛ لأنه لا يترتب على فقدها اختلال نظام الحياة، ولا وقوع الناس في الحرج والمشقة، وإنما يترتب على فقدها البعد عن الكمال الإنساني.
وعلى هذا فإن الأحكام التي شرعت لحفظ الضروريات أحق الأحكام بالمراعاة، ثم تليها التي شرعت لتوفير الحاجيات، وهكذا.
وفائدة هذا الترتيب: أنه لا يُراعَى حكمٌ تحسينيٌّ إذا كان في مراعاته إخلالٌ بحكم ضروريٍّ أو حاجيٍّ، ولِذَا لا يراعى ستر العورة في حالة العلاج أو إجراء عملية جراحية؛ لأن ستر العورة من باب التحسينات، والعلاج من باب الضروريات؛ ومن ثم جاز كشف العورة في مثل هذه الحالة، كذلك لا يراعى حكم حاجي (من باب الحاجيات) إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري؛ ولهذا تجب الفرائض والواجبات الشرعية على المكلفين ولو شق ذلك عليهم، إذ كل تكليف فيه إلزام بما فيه كلفة ومشقة، فلو روعي أن لا تنال المكلفَ أيةُ مشقة؛ لأهملت عدة من الأحكام الضرورية من عبادات وعقوبات وغيرها.
أما الأحكام الضرورية فتجب مراعاتها، ولا يجوز الإخلال بحكم منها، إلا إذا كانت مراعاة ضروري تؤدي إلى الإخلال بضروري أهم منه؛ ولهذا وجب الجهاد حفظًا للدين وإن كان فيه تضحية بالنفس؛ لأن حفظ الدين أهم من حفظ النفس، كما أبيح شرب الخمر للمضطر؛ لأن حفظ النفس أهم من حفظ العقل، الذي حرمت الخمر للمحافظة عليه.
صلة هذه القاعدة بالتفسير:
إذا كان المشرع قد سار في تشريعه على هذه القاعدة في الترتيب بين المقاصد الثلاثة، فإنه يجب على المجتهد الذي يستنبط الأحكام من أدلتها مراعاةُ هذا الترتيب، عندما تتعارض أمامه الأدلة، فيقدم ما يوصل إلى المقصد الأهم؛ فيقدم ما يوصل إلى المحافظة على أمر ضروري على ما يوصل إلى أمر حاجي، وما يوصل إلى أمر حاجي على ما يوصل إلى أمر تحسيني أو مكمل له.
وكذلك إذا لم يجد دليلاً من الأدلة السابقة في واقعة من الوقائع، لجأ إلى مقاصد الشريعة، وعلى ضوئها يستطيع معرفة حكم الله منها[3].
القاعدة الثانية: حق الله وحق العبد
ما شرعه الله تعالى من التكاليف لا يخلو من مصالح تعود إلى الفرد أو الجماعة، ومصلحة الفرد – في الكثير – مصلحة للجماعة، ومصلحة الجماعة لا تخلو من مصلحة الفرد؛ لأن الفرد جزء من الجماعة.
ولقد قسم الفقهاء الأحكام الشرعية باعتبار ما فيها من مصلحة تعود على الفرد أو الجماعة، أو هما معًا إلى أربعة أقسام:
– ما كان حقًّا خالصا لله.
– وما كان حقًّا خالصًا للعبد.
– ما اجتمع فيه الحقان: حق الله، وحق العبد، ولكن حق الله أرجح.
– ما اجتمع فيه الحقان: حق الله، وحق العبد، ولكن حق العبد أرجح.
وحين يعبِّر الفقهاء عما هو حق الله، فإنهم يقصدون بذلك ما هو حق للجماعة، وما قصد به تحقيق مصلحتها، وحفظ النظام العام فيها، وقد جعلوه حقًّا لله؛ لأنه لم يقصد به نفع فرد معين، وليس للأفراد – حكامًا أو محكومين – حق إسقاطه، أو العفو عنه، أو إهمال إقامته[4].
أما الحقوق الخالصة لله؛ أي: حق الجماعة، فمنها العبادات؛ كالصلاة والصيام والزكاة وغيرها، ومنها الضرائب والعقوبات على الجرائم التي تمس أمن الجماعة واستقرارها؛ كالزنا والسرقة والحرابة، وكذلك العقوبات التعبدية؛ كالكفارات.
أما ما اجتمع فيه الحقان؛ حق الله وحق العبد، ولكن حق الله أرجح، فهو حد القذف؛ لأن الجريمة تمس الأعراض، ففي العقوبة عليها مصلحة خاصة للمقذوف، كما أن في عدم التبليغ عنها مصلحة خاصة له أيضًا؛ لأن للقاذف أن يثبت صحة القذف، وإثبات ذلك قد يؤدي إلى إقامة حد الزنا على المقذوف.
ولما كانت الجريمة تمس الأعراض، وتؤدي إلى التنابز والتعادي، وتشويه السمعة، وتلويث الأمهات والأولاد، والتشكيك في نظام الأسرة – جعل الحد حقًّا لله، وغلب حق الله على حق المقذوف؛ بحيث إذا أثبتت الجريمة فليس للمقذوف أن يتنازل أو يعفو، وإن كان له أن يبلغ عن الجريمة[5].
أما ما اجتمع فيه الحقان، وكان حق الفرد فيه غالبًا، فهو القصاص من القاتل المتعمد، فإنه باعتبار ما فيه من المحافظة على حياة الناس وتأمينهم على أنفسهم – يحقق مصلحة للجماعة؛ فيكون حقًّا لله تعالى، وباعتبار ما فيه من إطفاء نار الغضب، وشفاء ما في الصدور من الرغبة في الانتقام والعدوان – يحقق مصلحة فردية؛ فيكون حقًّا لمن تعود منفعته إليه، والجهة الثانية أظهر فيكون حق العبد أرجح، ولهذا لا يقتص من القاتل إلا بطلب ولي المقتول، وله أن يتنازل عن حقه ويعفو عن القاتل[6].
أما ما كان حقًّا خالصًا للعبد، فيشمل كل حقوق الأفراد المالية أو المتعلقة بالمال؛ كأثمان المبيعات، وأجور المنافع، وضمان المتلفات، وحق الشفعة، وحق حبس المبيع لاستيفاء ثمنه، وحق حبس العين المرهونة لاستيفاء الدين[7].
ومع أن الفقهاء قسموا الحقوق إلى هذه الأقسام الأربعة إلا أنها – في النهاية – تعتبر من حقوق الله؛ أي من حقوق الجماعة ونظامها؛ لأن الأحكام الشرعية شرعت في الأصل للامتثال والاتباع، ومن حق الله على الناس أن يمتثلوا لأمره، ويقيموا شريعته؛ ولذا تعد جميع الأحكام – من هذه الناحية – من حقوق الله.
وفائدة التقسيم السابق – فيما يبدو لي – هي تحديد دور الفرد والجماعة في تطبيق الأحكام الشرعية، فإن ما كان حقًّا خالصًا لله، أو ما كان حقه فيه راجحًا – يُترك أمر تنفيذه للحاكم، ولا يجوز لأحد أن يتنازل عنه، أو يتهاون في إقامته؛ كتطبيق حد الزنا على الزاني والزانية، أو حد القذف على القاذف.
أما ما كان حقًّا خالصًا للعبد، أو كان حقه فيه راجحاً – فإن أمره متروك إلى صاحبه، وله أن يتنازل عنه؛ كالقصاص، فقد جعلت الشرعية هذه العقوبة حقًّا للمجني عليه، وهو ولي المقتول، وفيها في الوقت نفسه حق لله؛ أي للمجتمع، ولكن حق المجني عليه أرجح، ومن هنا جعلت له الحق في رفع الدعوى بطلب الحكم بالقصاص، وجعلت له الحق إذا حكم له بالقصاص أن يعفو، أو أن يتولى التنفيذ، وفي حالة عفو المجني عليه، كان للحكومة أن تعاقب الجاني بما تراه من العقوبات الرادعة، أخذًا بحق الله؛ أي: حق المجتمع؛ لأن نزول أحد طرفي الحق عن حقه لا يسقط حق الآخر.
القاعدة الثالثة: في نسخ الحكم
النسخ عند الأصوليين هو إبطال العمل بالحكم الشرعي بدليل متراخٍ عنه إبطالاً كليًّا، أو إبطالاً جزئيًّا؛ لمصلحة اقتضته، أو هو إظهار دليل لاحق نسخ ضمنًا العمل بدليل سابق، كما ورد في قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها))، فإن الأمر بالزيارة رفع النهي السابق، وأصبحت الزيارة به مباحة بعد أن كانت محرَّمة، وكما في قوله – عليه الصلاة والسلام -: ((إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة، ألا فادخروا))؛ فقد أصبح ادخار لحوم الأضاحي مباحًا بعد أن كان محرمًا، والسبب في تحريمه أن وفودًا من المسلمين وفدت على المدنية في أيام عيد الأضحى، فأراد الرسول أن يقيموا بين إخوانهم في سعة، فنهى المسلمين عن ادخار لحوم الأضاحي؛ حتى تجد الوفود فيها توسعة عليهم، فلما رحلوا أباح للمسلمين الادخار.
– وقد تحدث القرآن الكريم عن النسخ في ثلاث من الآيات:
أما الآية الأولى فهي قوله تعالى في سورة البقرة: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} آية: 106.
وأما الآية الثانية فهي قوله تعالى في سورة الرعد: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ} آية: 39.
وأما الآية الثالثة فهي قول تعالى في سورة النحل: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} آية: 101.
– ونلاحظ هنا أن القرآن الكريم ذكر النسخ بلفظه في الآية الأولى على حين ذكره بمعناه – وهو الإزالة – في الآيتين التاليتين، كما نلاحظ أن الآية الأولى أشارت إلى الغاية من النسخ، وهي رعاية مصلحة العباد في جميع الأحوال، ولما كانت هذه المصالح متغيرة ومختلفة بحسب الزمان والمكان والأحوال؛ فإن تغيير الأحكام أو تعديلها أمر لازم؛ لارتباط الأحكام بالمصالح.
– وعلى هذا، فإن النسخ هو تبديل الحكم وتغييره، وذلك – كما يقول الطبري – بأن يحول الحلال حرامًا، والحرام حلالاً، والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا، ولا يمكن ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة[8].
– ولا شك أن تبديل الحكم وتغييره، إنما يرجع إلى الظروف المستجدة، والتي لم تكن قائمة وقت تشريع الحكم، أو يرجع إلى ما يصيب المكلفين من مشقة وعسر، ومن ثم يؤدي تغيير الحكم إلى رفع الحرج والمشقة عنهم.
ومن هنا لاحظ العلماء أن النسخ شُرع لحِكَم عديدة؛ منها التيسير على الأمة، ومراعاة مصالحها، وتذكيرها بالنعمة، نعمة رفع المشقة بما هو الغالب في النسخ من التخفيف، وتهذيب النفوس إذا كان الحكم الثاني أشد[9].
– وعلى الرغم من الجدل الطويل الذي دار بين العلماء حول وقوع النسخ في القرآن الكريم أو عدم وقوعه، فلا شك أن النسخ حقيقة ثابتة عقلاً وشرعًا.
– أما من ناحية العقل، فإن القوانين أو التشريعات التي توضع في ظروف معينة، من ناحية الزمان والمكان، قد لا تفي بالغرض منها إذا ما تغيرت الظروف، ومن ثم تتغير هذه التشريعات من آن لآخر، إما تغييرًا كليًّا أو جزئيًّا.
– وأما من ناحية الشرع، فلا شك أن تعدد الشرائع السماوية، وإبطال بعضها بعضًا – في الأمور الجزئية المتعلقة بمصالح الناس – إنما يعني في نهاية الأمر إقرار مبدأ أن الشريعة اللاحقة تنسخ السابقة.
– وقد ذكر الدكتور مصطفى زيد – رحمه الله – عددًا من الوقائع التي تثبت وقوع النسخ في التوراة ثم الإنجيل، وانتهى من ذلك إلى أن المنطق السليم يقرر جواز النسخ عقلاً، والواقع التاريخي يؤكد وقوع النسخ سمعًا، فقد شهد أمثلة على نوعيه؛ نسخ حكم لحكم في الشريعة الواحدة، ونسخ شريعة للشريعة السابقة لها، ومن هذا وذاك قلنا – نحن المسلمين – بجواز النسخ ووقوعه، فقد قرر القرآن أنه كتاب الله، ودعوته إلى الناس جميعًا، وأن على كل إنسان أن يؤمن به، ويتبع ما جاء فيه، وهذا هو النسخ بمعناه العام: نسخ شريعة لشريعة سابقة، وسجل تاريخ الشريعة الإسلامية أحكامًا نسخت أحكامًا سابقة عليها، وكان كل من الحكمين المنسوخ ثم الناسخ هو الحق في زمانه، وبشرعه نيطت مصلحة أو مصالح تحققت بالعمل به، طالما كان مؤقتًا”[10].
– ومن وقائع النسخ في القرآن الكريم ما يتعلق بقيام الليل، فقد كان قيام الليل فرضًا؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 1 – 4]، وقد ظل الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصحابته ممتثلين لهذا الأمر، حتى نزل – بعد سنة من نزول هذه الآية – قوله تعالى في آخر السورة: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20][11].
ومن ثم كانت هذه الآيات نسخًا لفرض قيام الليل، الذي أصبح حكمه بموجب هذه الآيات مندوبًا إليه لا فرضًا.
وقد بينت الآيات الناسخة علة هذا التخفيف بأن الخلق منهم المريض، ومنهم المسافر في طلب الرزق، ومنهم الغازي، وهؤلاء يشق عليهم القيام؛ فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء[12].
– كما ثبت في السنة أيضًا عدد من الوقائع أو الأحكام التي نسخت أحكامًا سابقة، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
– ولأن النسخ – كما سبق القول – إبطال حكم بحكم آخر، فقد اتفق الأصوليون على أن يكون النص الناسخ في قوة النص المنسوخ، وعلى هذا فإن القرآن لا ينسخه إلا قرآن مثله، والسنة المتواترة لا تنسخ إلا بمثلها، وخبر الآحاد لا ينسخ إلا بمثله، أو بما هو أقوى منه من متواتر أو مشهور.
وبعبارة أخرى، فإنه لا يجوز نسخ النص إلا بنص في قوته أو أعلى منه، ومن ثم لا يجوز نسخ النص بالقياس؛ لأن القياس ليس في مرتبة النص.
– لكن الأصوليين اختلفوا في جواز نسخ الكتاب بالسنة، ونسخ السنة بالكتاب، فأجازه الجمهور ومنَعه الشافعي، بيد أن النظر في الوقائع التي استدل بها الجمهور على جواز نسخ الكتاب بالسنة – لا يشهد لهم بذلك؛ إذ يمكن تفسيرها على أنها نوع من التخصيص، وهو صورة من صور البيان الذي كُلفت به السنة في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
فقد قالوا – مثلاً – إن وجوب الوصية في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180]، قد نسخ بقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا وصية لوارث))، وهذا غير مسلَّم؛ إذ إن الناسخ للآية هو آيات الفرائض لا الحديث المذكور.
وقالوا – أيضًا – إن النص القرآني الذي دلَّ على تحريم كل ميتة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] قد خصص بالسنة العملية المتواترة التي دلت على إباحة ميتة البحر (السمك)، والتي أكدها الرسول – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((هو الطَّهور ماؤه، الحلُّ ميتتُه))، وهذا – كما سبق القول – من باب التخصيص لا النسخ، وبذلك نستطيع أن نفسر كثرة الوقائع التي قيل: إن فيها نسخًا، وهي في الحقيقة من باب تخصيص العام، أو تقييد المطلق، أو تفصيل المجمل[13].
ويؤخذ من هذه القاعدة أن النسخ من مظاهر رعاية الشرع لظروف المكلفين، وحرصه على أن يأتي التكليف مناسبًا لأحوالهم، ومحققًا لمصالحهم، وهذا يقتضي أن يكون الحكم الذي شرع مساويًا للحكم الذي نسخ، أو أخف منه، أو أشق؛ فالنسخ في كافة حالاته يدور مع المصلحة، تخفيفًا أو تشديدًا، أو حكمًا مساويًا للحكم السابق.
وهذا ما ينبغي أن يلحظه الفقيه أو المفسر عند استنباط الأحكام من النصوص، فيراعي التشديد أو التخفيف في الأحكام في ضوء ما يترتب على كل منهما من المصالح.
القاعدة الرابعة: في التعارض والترجيح
– قد يبدو لعقل المجتهد أن ثمة تعارضًا بين دليل شرعي ودليل شرعي آخر، فهل يكون هذا التعارض حقيقيًّا؟ وكيف يمكن دفع هذا التعارض إن وجد؟ هذا ما سنبحثه في هذه القاعدة.
يقول الأصوليون: إنه لا يوجد تعارض حقيقي بين آيتين، أو بين حديثين صحيحين، أو بين آية وحديث صحيح، وإذا بدا تعارض بين نصين من هذه النصوص، فإنما هو تعارض ظاهري فقط بحسب ما يبدو لعقولنا، وليس بتعارض حقيقي؛ لأن الشارع الواحد الحكيم لا يمكن أن يصدر عنه دليل يقتضي حكمًا في واقعة، ويصدر عنه نفسه دليل آخر يقتضي في الواقعة نفسها حكمًا خلافه في الوقت الواحد[14].
فالتعارض الجائز إذًا هو التعارض الظاهري، وهو عندئذ لا يتحقق بين الأدلة الشرعية إلا إذا كانت في مرتبة واحدة، أما إذا كان أحدهما أقوى من الآخر، فإن العمل – حينئذ – يكون بالدليل الأقوى، ومن ثم لا يتحقق التعارض بين نص قطعي وبين نص ظني، كما لا يتحقق بين نص وبين إجماع أو قياس، وإنما يتحقق – مثلاً – بين آيتين، أو حديثين متواترين، أو بين آية وحديث متواتر، أو حديثين غير متواترين، أو بين قياسين.
– وبناء على ما سبق، فإذا وجد نصان ظاهرهما التعارض، فإن المجتهد يسعى إلى إزالة هذا التعارض بالجمع والتوفيق بينهما.
– فإذا أمكنه الجمع والتوفيق بين النصين المتعارضين ظاهرًا، جمع بينهما؛ كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، وقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
فإنه يمكن التوفيق بينهما بأن الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بأبعد الأجلين؛ فإن وضعت حملها قبل أربعة أشهر وعشرة أيام من تاريخ الوفاة، تربصت حتى تتم أربعة أشهر وعشرة أيام، وإن مضت أربعة أشهر وعشرة أيام قبل أن تضع حملها، تربصت حتى تضع حملها.
– وللجمع بين النصوص المتعارضة ظاهرًا طرقٌ:
منها تأويل أحد النصين؛ أي: صرفه عن ظاهره، ومنها اعتبار أحدهما مخصصًا لعموم الآخر، أو مقيدًا لإطلاقه؛ فيعمل بالخاص في موضعه، وبالعام فيما عداه، ويعمل بالمقيد في موضعه، وبالمطلق فيما عداه[15].
– أما إذا لم يمكن الجمع والتوفيق بين النصين المتعارضين، فإن على المجتهد أن يبحث في ترجيح أحدهما على الآخر، والمرجحات كثيرة، منها نوع الدلالة لكل منهما، فالذي يدل بعبارته أرجح من الذي يدل بالإشارة، والذي يدل بالإشارة أرجح من الذي يدل بالدلالة، كما سبق القول في (طرق دلالة الألفاظ على المعاني)، ومنها قوة الظهور؛ كترجيح المفسَّر على الظاهر أو النص، وهناك مرجحات أخرى[16].
– فإذا لم يمكن الجمع بين النصين المتعارضين، ولم يمكن ترجيح أحدهما على الآخر بطريق من طرق الترجيح، بحث المجتهد في تاريخ صدور هذين النصين.
فإن علم المتقدم منهما من المتأخر، عمل بالمتأخر إذا كانا متساويين في القوة، بحيث يصح نسخ أحدهما بالآخر، ويعلم هذا من الرجوع إلى أسباب نزول الآيات وورود الأحاديث.
– أما إذا لم يمكن الجمع والتوفيق بين النصين المتعارضين بأي طريق من الطرق السابقة، فإن المجتهد يتوقف عن الاستدلال بهما معًا، واستدل بما بعدهما من الأدلة[17].
– وهناك تفصيلات كثيرة ذكرها الأصوليون في باب التعارض والترجيح، لكننا نكتفي بما ذكرناه.
[1] من أهم الكتب التي استعنت بها في كتابة هذا الفصل:
“علم أصول الفقه” للشيخ عبدالوهاب خلاف.
“أصول الفقه الإسلامي” للشيخ الدكتور محمد مصطفى شلبي.
[2] “علم أصول الفقه”، الشيخ خلاف ص 197 – 198 و”التشريع الجنائي” 1/ 202.
[3] “أصول الفقه الإسلامي” للدكتور محمد مصطفى شلبي 533.
[4] “التشريع الجنائي” عبدالقادر عودة 1/ 204.
[5] “التشريع الجنائي” 1/ 205.
[6] “أصول التشريع” للشيخ علي حسب الله 370.
[7] السابق 370.
[8] “تفسير الطبري” 2/ 471 – 472، تحقيق الشيخ شاكر.
[9] “الإتقان” للسيوطي 3/ 70 – 85، و”منهج الفرقان في علوم القرآن” للشيخ محمد علي سلامة 131.
[10] “النسخ في القرآن الكريم” للدكتور مصطفى زيد 1/ 49 – 50.
وقد ذكر – رحمه الله – عددًا من وقائع النسخ في الشرائع السابقة؛ منها الطلاق، فقد كان مباحًا في شريعة اليهود، ثم جاءت شريعة عيسى فحرمته، إلا إذا أثبت الزنى على الزوجة، ولحم الخنزير كان محرمًا في شريعة اليهود حتى جاءت شريعة عيسى فأباحته، ثم حرم في الإسلام.
[11] سورة المزمل أولها وآخرها.
[12] “أحكام القرآن” لابن العربي 1882.
[13] يراجع “أصول التشريع الإسلامي” الشيخ علي حسب الله 233، و”علم أصول الفقه” الشيخ عبدالوهاب خلاف 227.
[14] “علم أصول الفقه” خلاف، 230.
[15] السابق ص 231.
[16] “أصول الفقه الإسلامي” للدكتور محمد مصطفى شلبي 540.
[17] “أصول الفقه الإسلامي” للدكتور محمد مصطفى شلبي 544.
المصدر : الألوكة