أمة واحدة

الأحد،10 ربيع الاول 1435ه الموافق 12 كانون الثاني /يناير2014م وكالة معراج للأنباء “مينا”.

أ. حسام الحفناوي

أمة واحدة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:

روى البخاري ومسلم – واللفظ له – من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى“.

 

روى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنه -، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ“.

 

ومنذ أن انساح الصحابة – رضي الله عنهم -، يفتحون أقطار الأرض، وينشرون دين الله تعالى في الآفاق، ويدخلون الناس في دين الله أفواجًا، وشعور الأمة الواحدة مُتَجَذِّرٌ في أعماق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

 

ذلك الشعور الذي لا يُوَهِّنه اختلاف الألسن واللهجات، وتَبايُن العادات والطباع؛ فإن آثار ما مضى من الاختلاف والتباين لا تَعْدو إيجاد بعض صعوبات في المُخالَطة.

 

ولا يُضْعِفُه صراعُ مَلِكين مسلمين متجاورين على توسيع رُقْعة ممالكهما؛ إذ لا تتجاوز عواقِبُه السلطات الحاكمة إلى الشعوب المحكومة، بل لا يَحْول ذلك الصراع بين تَعاضد المَلِكين المسلمين المُتَصارعين – وإن كان صراعا مَحْضًا على الدنيا – على صَدِّ العدو الكافر الصَّائل على ديار المسلمين.

 

ولا يَجْتَثُّه حَمِيَّةٌ قَبَلِيَّةٌ جاهلية، قد يَسْتَعِرُ أُوارُها بين حين وآخر؛ حيث كانت الحَمِيَّةُ للإسلام تَسْتَعْلِي في صدورهم على غيرها، إن رأوا ما يَمَسَّه، ويُهَدِّد كيانَ أُمَّته.

 

ولا ننكر وجود نماذج في التاريخ الإسلامي، مَزَّقَت مفهوم الكيان الواحد للأمة المسلمة، فحَمَلَتْها المَطامِعُ والشهوات على موالاة الكافرين على المسلمين، أو دَفَعَتْها العَصَبِيَّةُ الجاهلية إلى تقديم رابطة النَّسَب والجِوار على رابطة الدين، ولكنها نماذج قليلة في عموم التاريخ الإسلامي، مَنْبوذة من مُسْلِمي عصرها، مُشَنَّعٌ عليها ممن أتى بعدهم، يَقْتَرِن ذِكْرُها على الدوام بمعاني الخيانة، ولا يَنْفَكُّ علماء المسلمين عن نَعْت أصحابها بشَتَّى نُعُوت الخِسَّة، والنَّذَالة، وهم لها أهل وزيادة.

 

بعض الأمثلة التاريخية لشعور الكيان الواحد:

إن الأمثلة التاريخية الموضحة لشعور الجسد الواحد للأمة المسلمة كثيرة بحمد الله على مدار الحِقَب التاريخية المتتالية، وسوف نكتفي بإيراد بعض نماذجها من منطلق إيضاح التطبيق العملي لتَرَسُّخ مفهوم الأمة الواحدة.

 

فعندما تشتت الكيان الإسلامي في الأندلس في القرن الخامس الهجري إلى ممالك عديدة، يتصارع أكثرها، ويستعين بعضها على بعض، ولا يستحيي بعض ملوكها من طلب العون من نصارى الأندلس القشتاليين على إخوانه في الدين.

 

فاغتنم العدو النصراني هذه الفرصة الذهبية، ووَسَّع أراضيَه على حساب ممتلكات المسلمين، وكاد أن يلتهم شِبْه الجزيرة الأندلسية بأَسْرها، وصار المسلمون في الأندلس في موقف عصيب جدًا، فاقترح بعض ملوك الطوائف الاستغاثة بدولة المرابطين التي كانت تحكم آنذاك المغرب الأقصى، ومساحة شاسعة من غرب القارة الإفريقية، وتقيم العدل، وتُعْلِي راية الجهاد في سبيل الله.

اقرأ أيضا  تقرير يكشف دور الكيان الصهوني في تمكين روسيا لدعم الأسد

 

وقد سارع المرابطون إلى تلبية النداء، وجاء أميرهم يوسف بن تاشفين بنفسه على رأس الجيوش المرابطية المجاهدة، وأنزل بنصارى قشتالة هزيمة ساحقة في المعركة التاريخية الخالدة المعروفة بالزَّلَّاقة، وتَعَفَّف عن أخذ شيء من المَغانِم بعد المعركة.

 

وقد صنع مثل صنيعه بعد ما يقارب القرنين من الزمان سلطان الدولة المرينية الحاكمة لبلاد المغرب الأقصى، فبعد أن تسارع سقوط مدن الإسلام فيها في أواسط القرن السابع الهجري، والتهمت مملكة أراجون النصرانية أغلب أراضي المسلمين في شرق الأندلس، وانتزعت مملكة البرتغال النصرانية ما بقي من غربها، وكان لمملكة قشتالة النصيب الأوفر في انتزاع الكثير من حواضر الأندلس، ومدنها الكبرى، وانحسر المسلمون في جزء صغير من جنوب شرق الأندلس، أقام فيه بنو الأحمر مملكتهم، واتخذوا من غرناطة عاصمة لهم، وقد سارعوا بطلب المدد والعون من إخوانهم في مغرب الإسلام عندما كاد القشتاليون أن ينتزعوا مملكة غرناطة، وينهوا الوجود الإسلامي في الأندلس بالكلية، فعَجَّل السلطان المغربي يعقوب بن عبد الحق المريني بإرسال المجاهدين المرينيين لنجدة أهل الأندلس، ثم عبر بنفسه على رأس الجيوش المرينية، وغزا أراضي قشتالة، وخَرَّب حُصونها، ودَكَّ مَعاقِلها، وغنم ما لا يحصى من الأموال، والمواشي، والأسرى، وأنزل بالجيش القشتالي الكبير الذي قاده دون نونه – وكلمة دون تعني السيد باللغة الإسبانية – هزيمة ساحقة، وقتل قائده، وترك المغانم لأهل غرناطة كما فعل ابن تاشفين مع ملوك الطوائف من قبل.

 

ورغم كل ما لقيه من ملك بني الأحمر من خيانة وغدر، إلا أنه كان يسارع إلى نجدته المرة بعد المرة من جيوش نصارى قشتالة، معرضا عما بدر منه تجاهه من قبل، رغبة في تخليص مسلمي الأندلس من شبح الخطر النصراني، وقد أكثر من غزو بلادهم، حتى صارت بلادهم خرابًا مُقْفِرة، فسعوا إليه أَذِلَّاء، يَسْتَجْدون في طلب الصلح، فقبل بعد تكرار الطلب والتذلل فيه، وشرط لمسلمي الأندلس شروطا كثيرة على نصارى قشتالة، مَرَّغت أنوفَهم، وكسرت كبرياءهم، فقبلوها مضطرين لعجزهم عن دفعه، وصانوا المعاهدة إلى حين.

 

ولما نَقضوا العهد مع غرناطة بعد وفاة السلطان يعقوب بن عبد الحق، سارع ملك غرناطة بالاستغاثة بولده يوسف بن يعقوب بن عبد الحق، فسار على نهج أبيه في المسارعة إلى نجدة المسلمين هناك، وتَأَسَّى بوالده في العفو والصفح عن غَدَرات ملك بني الأحمر الذي كان يريد الدخول في حِلْف مع قشتالة ضد إخوانه من المرينيين الذين مَدُّوا يد العون له مرات ومرات، ولكن حرص يوسف بن يعقوب على دَفْع صَوْلة العدو عن المسلمين في الأندلس كانت أهم عنده من الانتقام من ملك بني الأحمر، أو التشفي بتركه لُقْمة سائغة لعدوه الكافر؛ لأن تَخَلِّيَه عنه سيعني تَمَكُّن العدو الكافر من بلاد المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم.

اقرأ أيضا  النص الكامل لخطاب رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية في غزة

 

وقد ضربت الدولة العثمانية المفترى عليها أمثلة كثيرة للحرص على نصرة قضايا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ فقد كان للقوة العثمانية المشاركة في معركة وادي المخازن التاريخية الفاصلة في تاريخ المغرب الأقصى الدور البارز في إنزال الهزيمة الساحقة التي مُنِيَت بها جيوش مملكة البرتغال، تلك المعركة التي كان لها الأثر البالغ على إضعاف الاستعمار البرتغالي في سواحل بلاد المغرب الأقصى، ومَهَّدت لتحرير العديد من مدن المغرب الساحلية من قبضته، وصانَت الداخل المغربي الذي كان البرتغاليون يتَمَدَّدون من المدن الساحلية التي احتلوها إليه بين الفَيْنة والأخرى.

 

وكم غزت الأساطيل العثمانية سواحل إسبانيا، وأنزلت بها الخسائر الفادحة، وأعانت الكثير من أهلها على الفرار من بَطْش الإسبان النصارى، وشَرَطَت على ملوك فرنسا وغيرهم ممن مَرَّ المسلمون الفارون بدينهم من إسبانيا ببلادهم أن يحسنوا معاملتهم، وييسروا لهم وسائل السفر التي تنقلهم إلى ممتلكات الدولة العثمانية في شرق أوروبا.

 

ولم تقتصر جهود العثمانيين في مناصرة قضايا المسلمين في العالم على مسلمي الأندلس، بل تَعَدَّت ذلك إلى مُسلمي الحَبشة، وممالك المسلمين في سواحل شرق إفريقية، وكذلك في سواحل الخليج العربي، والبحر الأحمر، ومسلمي الهند، وشرق آسيا.

 

وقد كانت سواحل المسلمين في كل تلك البلاد مُهَدَّدة من قِبَل الأساطيل البرتغالية النصرانية؛ حيث كانت البرتغال – رغم صغر مساحتها – تمتلك أقوى أسطول بحري في ذلك الزمان، وتسعى لتوسيع دائرة ممتلكاتها عبر الفتوح البحرية الواسعة، وتفرض النصرانية على البلاد التي تحكمها.

 

وكثير ممن يَعُدُّهم المؤرخون في العصر الحاضر في صفوف المكتشفين الجغرافيين لم يكونوا في الحقيقة سوى غُزاة صليبيين، يَسْعون لفرض النصرانية على شعوب العالم أجمع، سواء كانوا من بَحَّارة الأساطيل الإسبانية، أو البرتغالية، وبعضهم كانوا من شعوب أوروبية أخرى، انضوت تحت حكم الإمبراطورية الإسبانية حين اتسع ملكها، وصارت أكبر ممالك أوروبا النصرانية في القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، كالبَحَّارة من الجمهوريات البحرية الإيطالية، مثل جنوة، والبندقية المعروفة بفينيسيا، وبيزا، ونابولي، وغيرها؛ فإضفاء الصفة العلمية المَحْضة على كشوف هؤلاء الجغرافية دون النظر في دوافعهم الصليبية، وأعمالهم الوحشية التي أنزلوها في سبيل فرض النصرانية على شعوب المسلمين وغير المسلمين ضَرْبٌ من ضُروب تزييف التاريخ، وخداع الشعوب.

 

وقد كان للدولة المملوكية التي كانت تبسط سيطرتها على مصر والشام والحجاز نصيب من المساعدات العثمانية ضد الغزوات البحرية البرتغالية، رغم ما كان من خلافات بين المملكتين على السيطرة على بعض مواضع من جنوب تركيا وشمال الشام، تلك الخلافات التي وصلت إلى المواجهة العسكرية عدة مرات، ثم تدخلت الوساطات بين كل من السلطانين العادلين الصالحين بايزيد الثاني العثماني وقايتباي المملوكي الجركسي، فأوقفوا الصراع، وعادت العلاقات الحسنة بين الدولتين كما كانت عليه لما يزيد على قرن من الزمان.

 

فقد أرسل السلطان بايزيد الثاني الأسلحة والمعدات إلى دولة المماليك إبان السلطان حكم قانصوه الغوري، لمَّا شَكَّل الوجود البحري البرتغالي في مدخل البحر الأحمر وبحر العرب خطرًا كبيرًا على سواحل غرب الجزيرة العربية، واليمن، ومدخل الخليج العربي، وهدد ذلك القوافل التجارية المسلمة الداخلة إلى البحر الأحمر والخارجة منه، بل مَثَّل تهديدًا لأرض الحرمين حين استطاع البرتغاليون النزولَ إلى شواطئ الساحل الغربي من الجزيرة العربية.

اقرأ أيضا  تركيا والأزمة السورية.. ملامح مرحلة جديدة

 

ولما سقطت السفن المُرْسَلَة من بايزيد الثاني إلى قانصوه الغوري المُحَمَّلة بالذَّخائر في يد فرسان يوحنا الصليبيين المسيطرين على جزيرة مالطة آنذاك، والذين كانوا ينشطون في مهاجمة سفن المسلمين وسواحلهم، أرسل بايزيد بعد ذلك أسطولًا عثمانيًا كاملًا؛ ليعاون الأسطول المملوكي في قتال الأساطيل البرتغالية.

 

وعندما سَرَى الضعف والوهن والتخاذل عن الجهاد في نفوس عموم المسلمين، بقيت بقية من المسلمين تستشعر وحدة كيان الأمة في آلامها وآمالها؛ فهذا شيخ مغربي يدعى الكيلاني كان يجاور الحرمين الشريفين يسارع إلى حَثِّ المسلمين في الحجاز على الجهاد بمجرد وصول الأخبار من الديار المصرية عن وقوعها في أيدي الفرنسيين بقيادة نابليون بونابرت، ولا يكتفي بالحض على الجهاد، بل يخرج بمن أجابه إلى نصرة المسلمين إلى ساحل البحر الأحمر، ويعبرونه إلى مصر على قلة عددهم؛ ليقاتلوا الفرنسيين، فيلتف حولهم بعض المصريين، ويؤازرونهم، غير أنهم لم يكونوا يثبتون في المعارك ثباتَ أولئك الحجازيين الذين خَلَّفوا الديارَ والأموال والأهل، رغبةً في نصرة إخوانهم، ووَدَّعوا حياة الأمن والهدوء، وأَقْحموا أنفسهم في المَعامع، يلتمسون الموت مَظَانَّه؛ دفاعًا عن أعراض المسلمين، وأموالهم، وأراضيهم.

 

ولم يكن الفتى الحلبي سليمان بغريب عن تلك الثُّلَّة التي باعت نفسها لله تعالى في زمن عَمَّ فيه الخُذْلان والخَوَر، فرحل من أقصى الشام إلى أرض مصر؛ ليقتل كليبر قائد الجيوش الفرنسية في مصر بعد بونابرت، وقد ظل رحمه الله تعالى يردد الشهادتين وآيات القرآن بعد أن أحرق الفرنسيون يدَه التي قتل بها كليبر، وأجلسوه على خازوق، وتركوه لساعات طوال، تأكل الطيور من جسمه وهو حي، حتى أشفق عليه جندي فرنسي من طول الآلام، فعَجَّل قتله بعد رحيل الضباط من حوله، وكانت هذه القِتْلة البشعة لسليمان الحلبي هي حكم المحكمة الفرنسية التي تَشَكَّلت عقب مقتل كليبر؛ لتحكم في قاتله بقوانين فرنسا داعية الحرية والتمدن المزعوم، ولا زال الفرنسيون يحتفظون بهيكله العظمي إلى الآن في أحد متاحفهم، ويأبون تسليمه للمسلمين.

 

هكذا كانت أمة الإسلام كالجسد الواحد، وهكذا ينبغي أن نسعى إلى أن تعود مرة أخرى.

 

تُرى هل يرجع الماضي فإني 

أذوب لذلك الماضي حَنينا

 

والحمد لله أولًا وآخرًا.

 

المصدر: مجلة حراس الشريعة، العدد الأول

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.