من الأسباب المعينة على قيام الليل .. اجتناب الذنوب والمعاصي
الثلاثاء،12 ربيع الاول 1435ه الموافق 14 كانون الثاني /يناير2014م وكالة معراج للأنباء “مينا”.
د. محمد سليمان حمودة
فإذا أرد المسلم أن يكون ممن ينال شرف مناجاة الله تعالى، والأنس بذكره في ظلم الليل، فليحذر الذنوب، فإنه لا يوفق لقيام الليل من تلطخ بأدران المعاصي، قال رجل لإبراهيم بن أدهم: إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟ فقال: لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف والعاصي لا يستحق ذلك الشرف.وقال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد: إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال الحسن: ذنوبك قيدتك. وقال رحمه الله: إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل، وصيام النهار.
وقال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النهار، فاعلم أنك محروم مكبل، كبلتك خطيئتك.
ثالث عشر – الإخلاص لله تعالى: وهذا هو جماع الأمر كله لأن بالإخلاص لله تبارك وتعالى يتحقق الخير كله لأنه الأساس في صلاح العمل وقبوله لذا أمر الله تعالى بإخلاص العمل له دون سواه فقال تعالى في كتابه الكريم: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ [الأعراف: 29]، وقال – سبحانه -: ﴿ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [غافر: 14]. وقال عز من قائل: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5] فكلما قوي إخلاص العبد كان أكثر توفيقًا إلى طاعات والقربات، قال تعالى: ﴿ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 65].
وفي حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض،فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب»؛ رواه أحمد؛ صحيح الجامع 2825.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإن لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه». رواه البخاري في الصحيح.
وروي أن لقمان قال لابنه: الرياء أن تطلب ثواب عملك في دار الدنيا، وإنما عمل القوم للآخرة، قيل له: فما دواء الرياء؟ قال: كتمان العمل، قيل له:فكيف يكتم العمل؟ قال: ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بالإخلاص، وما لم تكلف إظهاره أحب ألا تطلع عليه إلا الله. انظر: تفسير القرطبي 5/182.
وقال مطرف بن عبدالله بن الشخير: صلاح العمل بصلاح القلب، وصلاح القلب بصلاح النية.
وقال ابن القيم رحمه الله: وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته يكون توفيقه – سبحانه – وإعانته فالمعونة من الله تنـزل على العباد على قدر هممهم ونياتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينـزل عليهم على حسب ذلك. ولذا حرص السلف الكرام أشد الحرص على إخفاء الطاعات كقيام الليل، سأل رجل تميمًا بن أوس الداري رضي الله عنه فقال له: كيف صلاتك بالليل؟ فغضب غضبًا شديدًا ثم قال: والله لركعة أصليها في جوف الليل في السر أحب إلي من أن أصلي الليل كله، ثم أقصه على الناس.
وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله، فإذا قرب الفجر رجع فاضطجع في فراشه، فإذا طلع الصبح رفع صوته كأنه قد قام تلك الساعة (وذلك خشية الرياء).
رابع عشر – محاسبة النفس وتأنيبها على ترك القيام: فمحاسبة النفس من سمات الصادقين، وهدي المتقين، وشعار الصالحين قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ». قال الإمام ابن القيم: فإذا كان العبد مسئولًا ومحاسبًا على كل شيء حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا» فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب.
وقيام الليل عبادة تصل القلب بالله تعالى، وتجعله قادرًا على التغلب على مغريات الحياة الفانية، وعلى مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات،ونامت العيون وتقلب النوّام على الفرش. ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة، وسمات النفوس الكبيرة، وقد مدحهم الله وميزهم عن غيرهم بقوله تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9].
وقيام الليل سنة مؤكدة حث النبي – صلى الله عليه وسلم – على أدائها بقوله: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة إلى ربكم،ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم مطردة للداء عن الجسد» رواه الترمذي وأحمد.
وفي الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل».
وقد حافظ النبي – صلى الله عليه وسلم – على قيام الليل، ولم يتركه سفرًا ولا حضرًا، وقام – صلى الله عليه وسلم – وهو سيد ولد آدم المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر حتى تفطرت قدماه، فقيل له في ذلك فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا». متفق عليه.
وهكذا كان حال السلف الكرام عليهم من الله تعالى الرحمة والرضوان رجالًا ونساء: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور.
وقال أحمد بن حرب: عجبت لمن يعلم أن الجنة تزين فوقه، والنار تضرم تحته، كيف نام بينهما.
وكان عمر بن ذر إذا نظر إلى الليل قد أقبل قال: جاء الليل ولليل مهابة،والله أحق أن يهاب، ولذا قال الفضيل بن عياض: أدركت أقوامًا يستحيون من الله في سواد الليل من طول الهجعة إنما هو على الجنب فإذا تحرك قال:ليس هذا لكِ، قومي خذي حظك من الآخرة.
وقال الحسن: ما نعلم عملًا أشد من مكابدة الليل، ونفقة المال، فقيل له:ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهًا؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره.
صور من أحوال النساء:
وكما هو معلوم أن الأوامر الشرعية ليست خاصة بالرجال دون النساء فالكل فيها سواء إلا ما فصل في كتاب الله وسنة رسوله صلوات الله عليه وأما عن قيام الليل فلقد كان نساء السلف رضوان الله عليهن يجتهدن في قيام الليل مشمرات للطاعة، فليت نساءنا في هذه الأيام يقمن بتلك الأعمال العظام ويتشبه بهن.
فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: أتيت عائشة رضي الله عنها يومًا لأسلم عليها فوجدتها تصلي وتقرأ قوله تعالى: ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [الطور: 27].ترددها وتبكي، فانتظرها فلما مللت من الانتظار ذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت إلى عائشة فإذا هي على حالتها الأولى تردد هذه الآية في صلاتها وتبكي.
وهذه أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها يشهد لها جبريل بكثرة القيام فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: قال لي جبريل: راجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة. رواه الحاكم، صحيح الجامع 4227.
وعن أنس بن مالك قال: دخل نبي الله – صلى الله عليه وسلم – المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا الحبل لزينب تصلي فإذا فترت تعلقت به. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد». رواه البخاري ومسلم.
وهذه معاذة العدوية تابعية جليلة من الصالحات القانتات قامت ليلة زفافها هي وزوجها صلة بن أشيم يصليان إلى الفجر، ولما قتل زوجها وابنها في أرض الجهاد، كانت تحيي الليل كله صلاة وعبادة وتضرعًا: وتنام بالنهار،وكانت إذا نعست في صلاتها بالليل قالت لنفسها: يا نفس النوم أمامك» تقصد طول الرقاد في القبر».
وهذه حبيبة العدوية كانت إذا صلت العشاء، قامت على سطح دارها وقد شدت عليها درعها وخمارها، ثم تقول: إلهي، غارت النجوم، ونامت العيون،وغلقت الملوك أبوابها، وبابك مفتوح، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك، ثم تقبل على صلاتها ومناجاتها لربها إلى السحر، فإذا جاء السحر قالت: اللهم هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري:هل قبلت مني ليلتي فأهني، أم رددتها علي فأعزي وعزتك لهذا دأبي ودأبك ما أبقيتني وعزتك لو انتهرتني عن بابك ما برحت لما وقع في نفسي من جودك وكرمك.
وقال عبدالعزيز بن عمير: مريم البصرية المتعبدة (كانت تخدم رابعة العدوية) قامت من أول الليل فقالت: ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 19]. [الشورى: 19]. ثم لم تجره حتى أصبحت. (صفة الصفوة).
ويروى عن عجزة أنها كانت تحيي الليل وكانت مكفوفة البصر فإذا كان في السحر نادت بصوت لها محزون إليك قطع العابدون دجى الليالي يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك فبك يا إلهي أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أول زمرة السابقين وأن ترفعني لديك في عليين في درجة المقربين وأن تلحقني بعبادك الصالحين فأنت أرحم الرحماء وأعظم العظماء وأكرم الكرماء يا كريم ثم تخر ساجدة فيسمع لها وجبة ثم لا تزال تدعو وتبكي إلى الفجر.(إحياء علوم الدين/ بيان حقيقة المحاسبة).
وقال عبدالله بن الحسن: كانت لي جارية رومية وكنت بها معجبًا فكانت في بعض الليالي نائمة إلى جنبي فانتبهت فالتمستها فلم أجدها فقمت أطلبها فإذا هي ساجدة وهي تقول بحبك لي إلا ما غفرت لي ذنوبي. فقلت: لها لا تقولي بحبك لي ولكن قولي (بحبي لك) فقالت: يا مولاي بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام وبحبه لي أيقظ عيني وكثير من خلقه نيام. (الإحياء).
وعمرة امرأة حبيب العجمي قامت ذات ليلة تصلي من الليل وزوجها نائم،فلما دنا السحر، ولم يزل زوجها نائمًا، أيقظته وقالت له: قم يا سيدي، فقد ذهب الليل، وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا، ونحن قد بقينا. (صفة الصفوة).
يا نفس فاز الصالحون بالتقى وأبصروا الحق وقلبي قد عمي يا حسنهم والليل قد جنهم ونورهم يفوق نور الأنجم ترنموا بالذكر في ليلهم فعيشهم قد طاب بالترنم قلوبهم للذكر قد تفرغت دموعهم كلؤلؤ منتظم أسحارهم بهم لهم قد أشرقت وخلع الغفران خير القسم |
المصدر:الألوكة