القيم والحضارة الإسلامية
الثلاثاء،12 ربيع الاول 1435ه الموافق 14 كانون الثاني /يناير2014م وكالة معراج للأنباء “مينا”.
د. أحمد فؤاد
قيام الحضارات وازدهارها، وتأخُّرها وسقوطها، إنما يرجع إلى المعنى الذي يستقرُّ في أذهان أفراد الأُمَّة عن القِيَم المختلفة في الحياة.
وحضارات الأمم تَعتمد على أمور أربعة، هي:
الدين، والعلم، والفن، والاقتصاد، لا تَخلو أُمة من الأمم من أيِّ واحدة منها، فالاقتصاديات أساس المعيشة اليوميَّة، التي لا بدَّ منها في توفير الغذاء والكساء والمسكن، وغير ذلك من الضروريَّات الأوَّليَّة، وما يَتبع ذلك من كماليات، والفنون كالأدب من شعر وأقاصيص، وروايات، من الأمور التي تُشبع خيال الشعوب، وتُعَدُّ طبيعيَّة في البشر منذ ظهور الإنسانيَّة على مسرح التاريخ، والعلوم من رياضيات وطبيعيات لازمة في كلِّ أُمَّة، مهما تَكُن هذه العلوم بدائية تقوم على التجارب، أو راقية ترتفع إلى مستوى استخلاص القوانين والنظريات، وكيف تخلو أُمَّة من معرفة بالطب والدواء المصلِح للأبدان، أو الهندسة التي تنفع في بناء الدور، وإقامة الجسور، أو الحساب المفيد في العَدِّ والإحصاء، والبيع والشراء، وغير ذلك، أو الدين الذي هو الغذاء الرُّوحي لأفراد الأُمة، والدواء المصلِح للنفوس، والرابطة التي تؤلِّف بين القلوب؟
وعندما جاء الإسلام وجَدَت العرب نفسها بإزاء حضارتين كبيرتين، هما: حضارة الفرس، وحضارة الروم، وكان لكلٍّ منهما نظرة إلى الأمور الأربعة التي تقوم الحضارة عليها، ومَسلك خاص تُجاه الدين والعلم، والفن والاقتصاد، أو بعبارة أخرى كان للفرس وللروم قِيَمٌ تسود كلَّ شعب منهما، وبها يَتمسَّك الأفراد في كلٍّ منهما، وكانت تلك القِيَم هي التي توجِّه سلوك الناس في ذلك الحين، وفي الوقت نفسه كانت للعرب في الجاهلية قِيَم أخرى تُشَكِّل حضارة مختلفة من تلكما الحضارتين.
فماذا كنت القِيَم الحضارية في كلِّ أُمَّة من هذه الثلاث؟ وما هي مَحاسنها وعيوبها؟
أما الفرس، فكانوا يَدينون بإلَهين، فهم من الثنويَّة، لا من أهل التوحيد، وأحدهما إله الخير، والآخر إله الشر، وكلاهما يحكم العالَم، ويتنازعان فيما بينهما، ولكنَّ الغَلَبة في نهاية الأمر للخير على الشر، وهم بعد ذلك أمة ماديَّة غارقة في عبادة الشهوات والإقبال عليها، وانتهاب الملذَّات، ومن أجْل ذلك كانت القيمة العُليا عندهم هي الإسراف في الترف والنعيم، يصوِّر ذلك تاريخهم الذي يحكي حال إيوان كسرى وعَظَمته، كما يصوِّر حال شعبهم الذي مزَّقته المنازعات، ووثوب الأمراء بعضهم على الآخر؛ طمعًا في الحكم والسلطان، هذا بالإضافة إلى استعلاء الطبقة الحاكمة على الشعب واستعباده؛ مما ترَك الأمة في حالة من التمزُّق والتفكُّك؛ نتيجة انسياقهم وراء نزعات الشر والعدوان، واتِّباع نزغات الشيطان، ولكنَّهم مع ذلك قد اشتهروا بتدوين الدواوين، ووَضْع نظام مُحكم للحكومة، تترتَّب في سُلَّم منازل من لَدُن كسرى، ثم وُزرائه وكُتَّابه، وعُمَّاله الذين يُشرفون على أعمال السلطان، وبذلك كانت الأبَّهة والنُّضج القِيَمة الكبرى التي يتطلَّع إليها كلُّ فردٍ من أفرادهم، وما تزال هذه الخصلة موجودة في نفوسهم إلى اليوم؛ لأنها أصبحَت فيهم بمنزلة الطبع.
جُملة القول:
حضارة الفرس قامت على أساس البطش والسلطان، واتِّباع طريق الشرِّ والعدوان.
أمَّا الروم، فقد كانت حضارتهم من طراز آخرَ؛ لأنها قامت على قِيَم أخرى تُبايِن القِيَم التي كانت سائدة عند الفرس، وفي زمان ظهور الإسلام كانت الروم قد اعتَنَقت المسيحية، وأصبَح الدين عندهم هو القيمة العُليا التي طَرَدت بعد انتصارها جميع القِيَم الأخرى، وأصبَح الدين شُغلهم الشاغل، ولكنهم مع الأسف تفرَّقوا شِيعًا، تُكَفِّر كلُّ فرقة صاحبتها، وتغلو في حربها.
واشتَهر من أمر هذه الفرق ثلاثٌ، هي:
الملكانية في القسطنطينيَّة وبعض مدن آسيا الصغرى والشام، واليعقوبية في مصر وفي جنوب الشام، والنساطرة في العراق، ونحن نعلم من التاريخ أن القسطنطينية التي كانت تأخذ بالمذهب الملكاني اشتدَّت في تعذيب رجال الدين في مصر؛ لتمسُّكهم بالمذهب اليعقوبي، وغَلَت في هذه الخصومة غُلوًّا شديدًا.
ومعنى ذلك أنَّ حرية العقيدة لَم تكن مكفولة لأهل مصر، وليس أعز على النفس من صيانة الحرية، وبوجه خاص حرية العقيدة، وكان ذلك الاضطهاد من الأسباب الرئيسية التي جعَلَت الشعب المصري يرحِّب بالعرب الفاتحين، ويَستقبلهم استقبال المحرِّر لهم من رِبقة الاستعباد.
وقد انعكسَت هذه الخصومات الدينيَّة على عرب الجزيرة، وصوَّر القرآن الكريم اختلافَ أهل الكتاب فيما بينهم ممن كانوا يَدينون بالنصرانيَّة، أما معظم العرب فكانوا عَبَدَةَ أصنامٍ، كما كان الفرس يعبدون النيران، وكان منهم الدهريَّة، وهم الذين يَدينون بالمادية في الاصطلاح الحديث؛ أي: لا يؤمنون بخالق، ولا ببعثٍ ولا بيوم آخر، أمَّا الذين كانوا يؤمنون بوجود الله، فكانوا يُنكرون البعث في الآخرة.
هذه هي القِيَم الدينيَّة الرُّوحيَّة التي كانت سائدة قبل الإسلام، وعلى أساسها تقوم الحضارات المختلفة، لَم تكن قِيَمًا واضحة يقينيَّة، وكانت تبعث على العدوان؛ سواء منها ما أنْكَرت الألوهيَّة، أو تلك التي أقرَّت بوجود الله.
وقد انهارَت القيم العلمية، ففي الفرس علا شأنُها بعض الوقت حين أُنْشِئت مدينة “جند يسابور”، واستقدَم كسرى فلاسفة اليونان وعلماءهم، وأنزلَهم في تلك المدينة، ولكنَّ العلوم – من طب وهندسة وفلك – بَقِيت في أيدي نصارى “جند يسابور”، ولَم تَجتذب تلك القيمة إليها قلوب الفرس؛ لعدم عنايتهم بالفلسفة والعلم، اللهم إلاَّ التنجيم الذي كان سائدًا فيهم قبل أن يأخذوا عِلْمَ الفلك عن اليونان.
وأما الروم أنفسهم، فإنَّ استغراقهم في المنازعات الدينية – مما رَوينا طرفًا منه – صرَفَهم عن العناية بالفلسفة والعلوم، ونحن نعلم أنَّ العلم اليوناني انتقَل من أثينا في القرن الثالث قبل الميلاد، وازدَهَر في الإسكندرية التي ظلَّت تحمل مِشْعل الحضارة العلميَّة حتى القرن الثالث بعد الميلاد، ثم انعدَم فيها الابتكار والتجديد، وأصبحَت العلوم في خلال القرنين الرابع والخامس مجرَّد ملخَّصات عن القدماء، فضلاً عن هجرة الفلسفة والعلم من الإسكندرية إلى مدن الشام، ولكنها مع هذه الهجرة لَم يرتفع للعلوم شأن، ولا أقبَل عليها الناس بالدرس، بل تَلَقَّفها السُّريان، فنقَلوها إلى لغتهم، فحُفِظت في ذلك اللسان حتى ظهر الإسلام.
وأما الفنون، فقد اصطبَغَت في فارس بتراث أهلها؛ من بناء فخمٍ، ونَقْش على السجاجيد يحكي صور الطبيعة، وبخاصة زهور الربيع، وموسيقا تَشغل وقت الفراغ عند السادة الحُكَّام، وحكايات وأقاصيص تغزو خيال الصِّبية، وتحكي فلسفتهم في الصراع بين الخير والشر.
واصطَبغت الفنون عند أهل الروم بالدين، وانعكَس ذلك في كنائسهم وطريقة بنائها وتزيينها، وفي صُوَر المسيح والقدِّيسين.
وأما العرب فلم تَزَل القيمة الكبرى لفنِّهم هي الشعر، الذي ما كان يُجاريهم فيه أحد في ذلك الزمان، والبلاغة التي تبينُ عن الفكر بأجلى بيان.
ظهَر الإسلام في هذه الزحمة من القِيَم المختلفة، التي لا تَبغي خير الإنسانية في عمومها، ولا كرامة الإنسان وحريته وتحريره، والأخذ بيده في طريق الرُّقي.
ونزَل الإسلام المعركة، فقذَف فيها بقِيَمٍ جديدة، قذَف أولاً بالقيمة الدينية الكبرى، وهي توحيد إله واحدٍ خالقٍ لهذا العالم، مدبِّر له، يريد بالإنسان الهدى والخير، ويرسم له طريق الصلاح، ويُحذِّره من السَّيْر في طريق الفساد، ويُذَكِّره بما وعَد الله المتَّقين من جنات تجري من تحتها الأنهار، وما توعَّد به الكفار والمشركين والمفسدين من عذاب شديد في نار جهنَّمَ، وبئس المصير.
وقذَف ثانيًا بالقيمة الإنسانيَّة الكبرى، وهي كرامة الإنسان، ومساواته وحريَّته، فلا فضلَ لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ولا فضلَ لحاكم على محكوم إلاَّ بالعمل الصالح، فلا طبقيَّة في الإسلام تمجِّد طبقةً على أخرى، أو ترفع شعبًا على آخر، بل جميع الناس سواء في الإنسانيَّة، لا يوجد أسيادٌ وعبيدٌ، ولا أحرارٌ ورقيق.
وكانت تلك القيمة الإنسانيَّة جديدة على العالم كله شرقًا وغربًا، على الفرس والروم والعرب على حدٍّ سواء؛ ذلك أنَّ الإنسانيَّة ظلَّتْ أجيالاً طويلة تؤمن بانفصال الناس على الأقل طبقتين، هما: الأسياد الذين يحقُّ لهم تولِّي مناصب الحكم والسلطان، والعبيد الذين قُضِي عليهم أن يَشْقَوْا في القيام بالأعمال اليدويَّة المختلفة؛ لينعمَ بثمرات عملهم طبقةُ الأسياد.
ومن الغريب أن أرسطو الفيلسوف اليوناني لَم يستطع أن يتخلَّص من هذا الوهم، أو أن يتصوَّر حال الإنسان خلاف الواقع الذي كان يعيش عليه، فقسَّم الناس طبقتين، وجعَل العبيد عبيدًا بالطبع، فوضَع بذلك الأساس النظري لأعظم خدعة في التاريخ.
لهذا السبب رحَّبت الشعوب أعظمَ ترحيب بالإسلام، وأقْبَلَت عليه من كلِّ مكان؛ لأنها رأتْ فيه المخلِّص لها من الذلِّ والاستعباد.
وهذا يفسِّر لنا السرَّ في انتشار الإسلام بتلك السرعة المُذْهلة، ولَم يكن انتشاره بقوَّة السلاح بمقدار ما كان من قوَّة القيمة الحضاريَّة الجديدة.
وبذلك تغلَّبت القِيَم الإسلامية على القِيَم الفارسيَّة واليونانيَّة، وكان لا بدَّ لها من النصر في معركة إنقاذ الإنسانيَّة، والأخْذ بيدها في طريق التقدُّم والرُّقي.
ولَم يكد الإسلام يستقرُّ في النفوس بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين، حتى مضَت الحضارة قُدمًا إلى الأمام بخطًى سريعة؛ لأنَّ مركز انطلاقها لَم يكن صادرًا عن بضعة نفرٍ من الحُكَّام والأسياد، بل كان مركز الانطلاق القاعدة الشعبيَّة كلها، بعد أن أصبَح الكل في ظل الإسلام سواءً؛ ذلك أنَّ الحضارة الحقَّة المُزدهرة، لا يمكن أن ترتفع في أُمَّة وتنحصر في بضعة نفرٍ من أصحاب السلطان، على حين أنَّ الكثرة الكثيرة، والغالبية العظمى من أبناء الشعب، يظلون محرومين من الرفاهية والعلم والحرية.
ولقد كان العلم – أيسره تعلُّم القراءة والكتابة – مقصورًا قبل ظهور الإسلام عند الفرس في طبقة الكُتَّاب، كما حكى لنا الجهشياري في كتابه “الوزراء والكُتَّاب”، وهو كتاب يصوِّر نظام الفرس في الحكم، كيف كان قبل الإسلام؟ وكيف اصطنَع المسلمون فيما بعد هذا النظام عنهم؟ ولكنَّ الإسلام دعا إلى العلم، وطبَّق النبي – عليه الصلاة والسلام – هذا المبدأ بصورة عملية – مع أنه كان أُمِّيًّا – حين افتدى أسرى “بدر” بتعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءةَ والكتابة، واقتدى المسلمون بعد ذلك بعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- فانتشَر التعليم بينهم؛ لحِفْظ القرآن وكتابته، وكان الناس من أبناء الشعب يتلقَّون هذا النوع من التعليم في المساجد، أو الكتاتيب المُلْحَقة بها، ثم أُنْشِئت فيما بعد مدارس خاصة لتعليم الكبار، وكتاتيب انتشَرَت في كل مكان، وبذلك تيسَّر أن ينهض من أبناء الشعب نفسه – أو بالتعبير الحديث: من القاعدة الشعبيَّة – علماء برزَوا في كل علمٍ وفنٍّ، خُذْ مثالاً لذلك “الغزالي” الذي كان أبوه فقيرًا، لا يكاد يَملِك قوتَ يومه، ولكنَّه وهَب ابنه للعلم، فنبَغ فيه، ومعظم أهل العلم تُنبئ أسماؤهم عن الحِرَف التي كانوا يشتغلون بها، مثل الإسكافي، والجلاَّد، والغزَّال، وهكذا.
فإن قلت: إن تعلُّم القراءة والكتابة، وبعض النحو والعربية والأدب، وحِفظ القرآن، كلُّ ذلك كان متصلاً بالدين المفروض على كلِّ مسلم، ولَم يكن الإسلام يدعو إلى العلوم التي اصْطَلحنا اليوم على تسميتها كذلك، مثل: العلوم الرياضية والطبيعية، والطب وغيرها، قلنا: بل الإسلام لَم يُحَرِّم شيئًا من ذلك، بل حثَّ عليه، ودعا إليه، وأمَر بالنظر في الكائنات والمخلوقات؛ للاستدلال منها على وجود الخالق تعالى، فكان هذا من جملة الأدلة، بل على رأس الأدلة القرآنيَّة لمعرفة الله.
فالإسلام رفَع من قيمة المعرفة إطلاقًا، والأخْذ بالعلوم بوجه خاص؛ لأن العلوم أساس كلِّ حضارة، ومدار كلِّ تقدُّم وعمران، وقد رأينا أنَّ الفرس والروم تحوَّلوا قبل الإسلام عن هذه القيمة، فتدَهْوَرت العلوم وكادت تَندثر، لولا أنْ جاء الإسلام فرفَع من شأنها؛ ولذلك أمَر الخلفاء بترجمة العلوم وإنشاء بيت الحكمة في بغداد، فحَفِظ الإسلام تراث الإنسانية العلمي.
وظلَّ يحمل هذا اللواء زُهاءَ عشرة قرون من الزمان؛ أي: إلى الوقت الذي انصرَف فيه المسلمون عن الرُّوح الإسلامية الصحيحة التي ترفَع من قيمة العلم، وأصبَح المسلمون في عصور التأخُّر يهبطون بهذه القيمة.
ولقد حمَل الإسلام معه قيمة جديدة، قذَف بها في وجه القِيَم التي كانت سائدة في القرن السادس، ونعني بها “السلام” في مقابل العدوان، وكان العدوان نزعة – كما رأينا – أصيلة عند الفرس، كما كان عند الروم؛ لأنهما من الأُمم التي تضع نُصْب أعينها الاستعمار والاستغلال.
حقًّا قام المسلمون بغزوات هي التي تَمَّ بها الفتح العربي، ولكنَّها كانت غزوات في بَدء أمرها كُلِّفوا بها؛ للقضاء على الكفار، وإقرار الإيمان بالواحد القهَّار؛ وذلك لمصلحة الإنسانيَّة ذاتها، ووَضَع الإسلام شروطًا للحرب والسِّلم، تُعَدُّ أرْوَعَ ما عُرِف في تاريخ البشرية في حُسن معاملة الأسرى والمغلوبين، ويُمكن أن يُقال بحقٍّ: إنَّ الحرب عندهم كانت دفاعية أكثرَ منها هجوميَّة، وأنها كانت موجَّهة إلى كلِّ مَن يحول بين الناس وبين الدعوة الإسلاميَّة في كل مكان، وبذلك تيسَّر أن تَنتشر الحضارة، وأن تسودَ في أُمم لَم يكن يُتَصَوَّر أن تقوم فيها حضارة أو عمران، كما هي الحال في شمال إفريقية والأندلس التي تُعَدُّ الحضارة فيها مثالاً يُحتذى في تاريخ العالم من كلِّ وجه، فلمَّا طُرِد العرب من إسبانيا، وزال منها الإسلام، تدهْوَرَت فيها الحضارة التي كانت من أروع الحضارات.
وقل مثل ذلك في أقصى الشرق، في الأفغان وشمال الهند وفي تركستان، التي لَم يُسْمَع من قبلُ أنها كانت أُممًا ذات حضارات تُسهم في تقدُّم الإنسانية، حتى إذا استظلَّت بظلِّ الإسلام، ظهَر فيها من العلماء مَن كان لهم ذِكْرٌ في العالم كله، مثل: ابن سينا، وأبي الرَّيحان البيروني، الفارابي.
وساعَد الإسلام بقيَمٍ جديدة اقتصادية، قائمة على أساس الدين وقِيمته الجوهرية وهي التقوى؛ وذلك أن الإسلام يمجِّد العمل، ويرفع من شأن الإنسان العامل الذي يسعى في الأرض، ويمشي في مناكبها يبغي الإصلاح والاستثمار، واستخراج ما على ظهرها من خيرات.
حثَّ على ذلك وأمَر به؛ ليَسْعد المرء في هذه الدنيا، ويلقى جزاء عمله الصالح في الآخرة؛ ولهذا السبب قام المسلمون بتعمير الأرض وحُسْن زراعتها، واستحْدَاث طرقٍ جديدة في الزراعة، وهم أوَّل مَن وضَع في هذا الفن كتبًا برأسها، مثل: كتاب الفلاحة؛ لابن بصال، الذي تُرْجِم إلى اللغة اللاتينية، وتعلَّمت منه أوروبا طرق الزراعة القائمة على منهج علمي، وأُقِيمت كذلك صناعات كثيرة راجَت وانتشَرَت، وكانت المظهر الخارجي للحضارة الإسلاميَّة الزاهرة، مما نشهد أثره حتى اليوم.
ويمكن تلخيص القيم الاقتصادية التي جاء بها الإسلام فيما يلي:
1 – تمجيد العمل اليدوي والحثُّ عليه واحترام صاحبه.
2 – إقامة العلم من أيِّ نوع كان؛ زراعة، أو صناعة، أو تجارة، على أساس من الإتقان، وبلوغ العامل فيه الكمالَ.
3 – إقامة العمل على أساس أخلاقي ديني، هو التقوى والأمانة والإخلاص، مما يَنبعث عن ضمير العامل، لا عن قَسْرٍ وخوف.
4 – مراعاة المبدأ الإسلامي فيما يختصُّ بالمال، وهو الاقتصاد؛ أي: التوسُّط بين الإسراف وبين التقتير.
وأنت ترى أنَّ الاقتصاديات نفسها جاءت ثمرة القِيَم الدينية والأخلاقية، على عكس الفلسفات المادية، وبخاصة الماركسية الحديثة، التي تذهب إلى أنَّ الأساس أولاً هو البناء الاقتصادي، وعنه تَنبع القِيَم الأخلاقية، فضلاً عن إلغاء الماركسية للدِّين، ولعلَّ هذا يوضِّح لك أحد الفروق الجوهريَّة بين الإسلام وقِيَمه، وبين غيره من النظريَّات الفلسفيَّة التي تحاول إقامة حضارة عالَميَّة.
ولا ينبغي أن يذهب عن بالِنا أنَّ الحضارة الإسلاميَّة حين كانت قِيَمها حيَّة، كانت مُزدهرة، وظلَّت تَحمل هذا اللواء في جميع أرجاء العالم عشرة قرون من الزمان، أمَّا لماذا جُمِّدت هذه القِيَم وتحجَّرت، وتحوَّلت عن رُوحها الأصيل، فهذه قصة أخرى نرويها لك في فصل آخرَ.
المصدر:الألوكة