مناهج الدعوة وتطبيقاتها في النصيحة الشرعية – نحو رؤية متجددة

الإثنين،1جمادى الأولى1435ه الموافق 3 آذار/ مارس2014م وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.

د. بدر الدين زواقة/ إسلاميات

مقدمة

تعتبر النصيحة فريضة شرعية، ومقصدا إنسانيا، وبُعدا اجتماعيا، ومسلكا حضاريا، ووسيلة دعوية، وآلية اتصالية بامتياز؛ تتعلق بالاتصال الإنساني وأشكاله؛ إذ تعتبر مبدءا ومنطلقا قرآنيا يأخذ بأيدي الأنبياء الذين هم أفضل الخلق؛ إعدادا لتحمل شؤون الدعوة، وتكاليف دنيا الناس، فنجد النصيحة الإلهية المغلفة بنوع من العتاب واللوم ثم التعليل، كما في قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى(1)أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى(2)وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3)أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4)أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى(5)فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى(6)وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى(7)وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى(8)وَهُوَ يَخْشَى(9)فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى(10)} [سورة عبس].

فكانت هذه النصيحة الإلهية منطلقا، وأرضية واستراتيجية، نفهم من خلالها حقيقة النصيحة، ومفهومها، وأبعادها، وأهدافها، وآلياتها.

وتنسحب النصيحة الشرعية وتتوسع مواقعها لتستوعب المخاطبين من المسلمين، فكانت الأوامر والنواهي، ومن ثَمّ الإقرار والإنكار وتصحيح الأخطاء، كما حدث في شأن خطأ الرماة في غزوة أحد لما تركوا مواقعهم التي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزومها نزل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [سورة آل عمران].

فجاءت النصيحة القرآنية لتؤسس لمنظومة إسلامية في شبكة العلاقات الإنسانية، تحقق من خلالها خيرية هذه الأمة ودورها في الحياة وانسجاما مع الطبيعة البشرية التي يلازمها الخطأ والنسيان في صيرورتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية عموما.

ويشكل الاتصال الإنساني مظهرا أساسيا في الحياة البشرية حيث تنوعت أشكاله وأنواعه، وأخذ منعطفا أساسيا بظهور الدعوة الإسلامية حيث حولت الاتصال البشري العادة الفطرية إلى العبادة الشرعية.

وتعتبر النصيحة فريضة شرعية وأداء دعويا وضرورة حضارية تتعلق بالأمة الإسلامية وخصوصيتها وما يلزمها من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والدعوة الإسلامية والنصيحة الشرعية صنوان وتنحدران من شعب الإيمان، وتتعلقان بالواجب العيني، وهو واجب البيان وعدم تأخيره عن وقت الحاجة.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “والنصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة له، والشفقة عليه، والغيرة له؛ وعليه فهو إحسان محض، يصدر عن رحمة ورأفة، مراد الناصح بها وجه الله ورضاه، والإحسان إلى خلقه”.

وقد كانت الدعوة الإسلامية مسمى وممارسة، قبل أن تكون اسما وعلما ونظرية تدرس في الجامعات والمعاهد، ولما كان هذا هو الحال، تعددت الدراسات والبحوث، وأنجزت الرسائل والأطروحات، وأسست  الجامعات والفروع التي تعنى بالدعوة الإسلامية فنّاً وعلماً وممارسةً.

فقد تأسست النظرية الإسلامية للدعوة الإسلامية، واتفق الباحثون على المفهوم والمنهج والمنطلقات والأهداف، وكتبوا في الوسائل والأساليب.

ومن الأبحاث المهمة في مجال الدعوة ما يتعلق بمناهجها، ومن خلال استقراء الممارسات الدعوية والنصوص النقلية تبين لنا أن هناك ثلاثة مناهج للدعوة الإسلامية وهي:

– المنهج العقلي.

– المنهج العاطفي.

– المنهج الحسي.

وفي بعض الحالات يظهر المنهج المركب بين منهجين أو ثلاثة، وباعتبار النصيحة آلية  من آليات الدعوة، فهل يمكن تطبيق هذه المناهج على النصيحة الشرعية والاستفادة من النظرية الدعوية فيها؟؟.

وأرضية الكتابة النظرية لهذا الموضوع القرآن الكريم وتطبيقاته الواقعية والموضوعية من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة أقوالا وأفعالا وتقريرات.

ولنتخذ هذا النص القرآني مثلا منطلقا لنفهم موقع هذه المناهج على النصيحة الشرعية.

فلما أخطأ حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه خطأ عظيما في مراسلة كفار قريش مبينا لهم وجهة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في الغزو، نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة الممتحنة].

وإذا قمنا بتحليل المضمون والمحتوى ليس من الناحية التفسيرية التأويلية لكن من ناحية تطبيق منهج تحليل الخطاب كما هو عند علماء اللغة والأدب، وتحليل المضمون عند علماء الإعلام والاتصال، ندرك أن هذه النصيحة:

– اتخذت منهجا وأسلوبا.

– اعتمدت التعليل كمقصد.

– ارتبطت بالتمثيل بأنواعه.

فمن خلال  ما سبق ندرك تماما أهمية  اختيار المنهج المناسب والأسلوب الفعال والمثال اللائق.

المبحث الأول: مفاهيم ومنطلقات:

أولا: مفهوم الدعوة:

أ- تعريف الدعوة لغة:

الدعوة في اللغة: المرة الواحدة من الدعاء، وتداعى القوم دعا بعضهم بعضا حتى يجتمعوا. والدعاة قوم يدعون إلى بيعة هدى أو ضلالة، وأحدهم داع، ورجل داعية إذا كان يدعو الناس إلى بدعة أو دين، وأدخلت الهاء فيه للمبالغة.وفي تهذيب اللغة: المؤذن داعي الله، والنبي صلى الله علية وسلم  داعي الأمة إلى توحيد الله وطاعته. قال عز وجل مخبراً عن الجِنِّ الذين استمعوا القرآن وولّوا إلى قومهم منذرين: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ﴾ (الأحقاف :31).

وفي تاج العروس: «ودعوة الحق شهادة أن لا إله إلا الله». وفي المصباح المنير: «دعوتُ الله دعاء ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير، ودعوت زيداً ناديته وطلبت إقباله. والجمع دعاة وداعون مثل قضاة وقاضون، والنبي صلى الله عليه وسلم داعي الخلق إلى التوحيد».

وفي المعجم الوسيط: «دعاه إلى الشيء حثه على قصده، يقال: دعاه إلى القتال، ودعاه إلى الصلاة، ودعاه إلى الدين، وإلى المذهب، حثه على اعتقاده». ومن هذا يتبين أن الدعوة في اللغة تدور حول الطلب والسؤال والنداء والحث على الشيء ونحو ذلك.

وهي تستعمل في الخير والهدى، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف: 108).

وقوله عز وجل: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (فصلت: 33).

والدعاة قوم يدعون إلى هدى أو ضلال، ويصدق على هذا ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أُجُور من تبعه، لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً). إلى غير ذلك من الأدلة في هذا المعنى.

ب- تعريف الدعوة اصطلاحا:

عرَّفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: «الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبُد ربه كأنه يراه».

وقد عرَّفها المتأخرون بتعريفات عديدة، لا يخلو أكثرها من نظر. وتعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أعم وأشمل. فقط نشير إلى التباين في التعاريف لاعتبارات واقعية أو موضوعية.

وزيادة في الإيضاح يمكن تعريف الدعوة في الاصطلاح بأنها: قيام من له الأهلية بدعوة الناس جميعاً لاقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً واعتقاداً بالوسائل والأساليب المشروعة التي تتناسب مع أحوال المدعوين في كل زمانٍ ومكان.فقد عرّفها بعض المتأخرين مثل محمَّد الرَّاوي في كتابه «الدعوة إلى الإسلام دعوة عالمية» بتعريفين:

الأَوَّل: الدعوة الإسلامية هي: دين الله الَّذي بُعث به الأنبياء جميعًا، وتجدّد على يد محمَّد خاتم النبيين كاملاً وافيًا لصلاح الدنيا والآخرة.

اقرأ أيضا  في النصيحة

والثاني: الدعوة الإسلامية: تبليغ رسالة النَّبي.

وعرّفها الدكتور أبو بكر زكرى فقال: الدعوة هي: قيام من له أهلية النصح والتوجيه السديد من المسلمين في كلّ زمان ومكان بترغيب النّاس في الإسلام اعتقادًا ومنهجًا، وتحذيرهم من غيره بطرق مخصوصة.

ومن هنا نلاحظ الربط الصريح بين الدعوة والنصيحة للتداخل الموضوعي والمنهجي بينهما.

وعرّفها الأستاذ محمَّد الغزالي فقال: هي برنامج كامل يضمّ في أطوائه جميع المعارف الَّتي يحتاج إليها النّاس ليُبصروا الغاية من محياهم، وليستكشفوا معالم الطريق الَّتي تجمعهم راشدين.

وتعريف الشيخ الغزالي يعطي للدعوة البعد الحركي باعتبار أبعاد الإسلام كعقيدة وشريعة و أخلاق ، ومنهج حياة شامل ، خاصة  بعد سقوط الخلافة الإسلامية.

واختلف المؤلفون في علم الدعوة في تعريفه بناء على نظرتهم إلى الدعوة، هل هي قاصرة على الفكرة التي يدعو الداعي النّاسَ إليها، والأساليب والوسائل المستخدمة فقط، أم يدخل فيها سلوك والتزام الداعي بما يدعو إليه، أم يدخل فيها ما وراءه من تربية وتزكية، ثم ما يعقب ذلك من عمل بما يدعو إليه؟.

والظاهر الذي يعتمده أهل العلم قديما أنّ الدّعوة من حيث هي دعوة لا تشمل إلاّ دعوة النّاس إلى الإسلام بالأساليب والوسائل المأذون بها شرعاً فقط، مع الأخذ في عين الاعتبار أنّ سلوك الداعية والتزامه الشرع، وتربية المدعوين على ذلك، وتزكية نفوسهم،  من خلال تقديم متواصل للنصيحة  وعمله بما يدعو  وينصح إليه، كلُّ ذلك من مستلزمات ومقتضيات الدعوة، لأن القدوة لها تبعات نفسية عاطفية على المدعو هذا، وقد قيل الناس يسمعون بأعينهم.

وأرى أنّ التعريف المختار للدعوة من حيث هي دعوة:

«تبليغ الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا إلى النّاس كافّة، وحثّهم على الدخول فيه، أو التزامه؛ من خلال الأساليب والوسائل المأذون بها شرعاً ومنسجمة مع الواقع ومراعية للاتجاهات».

والدعوة ملازمة للعقيدة ومن جنسها، ذلك أن أول واجب في الدعوة هو الدعوة إلى التوحيد.

ج- التعريف الإجرائي:

الدعوة علم بالأحكام العقدية والفقهية والأخلاقية وفن تبليغها إلى الناس ومنهج متكامل في إدارة عرضها من حيث الوسائل والأساليب لتحقيق مقصد من الوجود في عبادة الله وعمارة الأرض وسياسية الدين ودنيا معا ومراعاة  مستلزماتها ومقتضياتها.

ثانيا: مفهوم المنهج:

بالنظر في قواميس اللغة نجد كلمة «منهج» تدل على الطريق الواضح المستقيم.

قال ابن فارس: «النون والهاء والجيم أصلان متباينان، الأول: النهج: الطريق، ونهج لي الأمر: أوضحه وهو مستقيم المنهاج..».

وقال في الصحاح: «النهج: الطريق الواضح، وكذا المنهج والمنهاج، وأنهج الطريقُ أي استبان، وصار نهجا واضحا بينا، ونهجتُ الطريقَ إذا أبنته وأوضحته».

وفي الكتاب العزيز قال تعالى: ﴿لكلٍ جعلنا منكم شِرْعَةً ومِنْهَاجَا﴾ (المائدة: 48).

فالمنهاج: الطريق المستقيم الواضح في الدين.

ونستطيع أن نستشف تعريفا للمنهج من خلال ما سبق من تعريفه في اللغة فنقول: إن المنهج هو مجموعة الركائز والأسس المهمة التي توضح مسلك الفرد أو المجتمع أو الأمة لتحقيق الآثار التي يصبو إليها كل منهم.

وقد اتفق منظرو الدعوة على أنها تعتمد -أي الدعوة- مناهج علمية دقيقة مستوحاة من المقاربة المنهجية والاستقراء التام للتوجيهات الإلهية والأفعال النبوية في هذا المجال، فذكروا المنهج العقلي والعاطفي والحسي.

ثالثا: مفهوم النصيحة:

أ- تعريف النصيحة لغة:

يُقصد بالنصيحة في اللغة: الخُلوص من الشوائب، فيقال: عَسَلٌ ناصح أو نَصوحٌ، إذا لم يَشُبْهُ شيءٌ، وكلُّ شيء خَلَصَ، فقد نَصَحَ، ونَصَحَ القولَ إذا أخلَصهُ لهُ، فالنُّصح نقيض الغشّ.

كما يُقصد بها التئام شيئين بحيث لا يكون ثَمَّ تنافرٌ بينهما، فالنُّصحُ مصدرُ قولك: نَصَحتُ الثوبَ إذا ِخِطْتُهُ ومنه يُقال للإبرة: المِنْصَحَة وللخيّاط: النَّاصح، ويُقال للأرض المُتَّصِلة بالغيث أو المُتَّصِل نباتها بعضه ببعض: أرضٌ منصوحة.

ب- تعريف النصيحة اصطلاحا:

إخلاص النية من الغشّ للمنصوح له.ويعبر عنها ابن حجر العسقلاني قائلا: “والمعنى أنه يَلِمُّ شَعْثَ أخيه بالنُّصح كمَا تَلِمُّ المِنْصَحةُ، ومنه التَّوبة النَّصوح، كأنَّ الذَّنْبَ يُمَزِّقُ الدِّين والتَّوبة تخِيطُهُ”.

الدين النصيحة: يُحتمل أن يُحمل على المبالغة، أي: معظم الدين النصيحة، كما قيل في حديث (الحج عرفة)، ويُحتمل أن يُحمَل على ظاهره لأن كل عمل لم يُرِدْ به عامله الإخلاص فليس من الدين. قال تعالى: ﴿يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 61 – 62].

وها هو سيِّدُنا صالح عليه السَّلام يقول لقومه: ﴿يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: 79].

وها هو سيدنا شُعيب عليْه السَّلام يقول لقومه: ﴿يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 93].

وقال الخطابي: النصيحة كلمة جامعة معناه حيازة الحظ للمنصوح له، وهي من وجيز الكلام، بل ليس في الكلام كلمة مفردة تستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة.

روى مسلم في صحيحه، عن تَمِيم بن أوس الداري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة). قال تميم: قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم).

قالوا: لمن يا رسول الله ؟: واللام هنا في قولهم: “لمن” للاستحقاق، يعني: من يستحقُّها في الدّين؟ فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”.

النصيحة لله: إخلاص الإيمان به وتوحيده وإخلاص العبادة له.

النصيحة للكتاب: العمل بما فيه والدفاع عنه ونشر مبادئه.

النصيحة للرّسول: بطاعته وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر.

النصيحة للأئمة: أي الحكام بطاعتهم وإرشادهم للحكم بما أنزل الله، أو هم العلماء بإجلالهم وحسن الظن بهم.

لعامة المسلمين: وهم ما عدا الأئمة، وذلك بإرشادهم لما يُصلحهم.

الحديث فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ الدينَ النَّصيحةُ، إنَّ الدينَ النصيحةَ، إنَّ الدينَ النَّصيحةَ)، قالوا: لمن يا رسولَ الله؟ قال: (لله، وكتابِه، ورسولِه، وأئِمَّةِ المسلمين، وعامَّتِهم).

ج- التعريف الإجرائي:

يعتبر الحديث السابق أرضية لفهم النصيحة وتطبيقاتها، وأعتقد أن هذا التخصيص والربط ببين جزء الدين وكله لندرك أهمية النصيحة في دين ودنيا الناس، ذلك أن تعبير الكل بالجزء لأهمية الجزء، وأهمية النصيحة تكمن في:

– تحقيق الدعوة وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

– تجسيد مفهوم الصدق في مقابل النفاق.

– إثبات معنى التعاون في مقابل التفرق.

– إقرار منطلق الخيرية للأمة.

– إبعاد خلق الحسد والحقد.

– تفضيل الدنيا على الآخرة.

وكل هذه الأبعاد وغيرها تميز النصيحة وتجعلها ذات أهمية بين الناس، لأنها تحقق مقاصد القرآن في جعل امة الإسلام خير امة أخرجت للناس في شتى الميادين، والنصيحة الصادقة تحقق  هذا البعد بكل امتياز.

فالنصيحة إذن أسلوب دعوي يحقق أهداف الدعوة بين المسلمين خاصة من خلال التفاعل الإنساني معها واعتبارها سلوكا طبيعيا  عفويا غير مفتعل تصحيحا لأخطاء الناس وتوجيها لهم، واختيار العلاج المناسب والمنهج الفعال انسجاما مع الأنماط البشرية والاتجاهات النفسية والاجتماعية.

المبحث الثاني: مناهج الدعوة وعلاقتها بالنصيحة:

كان لتطور أبحاث المنهجية العلمية في الدراسات الإنسانية والاجتماعية من جهة، ومن خلال إدراك أنواع المناهج وتطبيقاتها وفهم طبيعة النصوص الشرعية من جهة أخرى الدور الأساس في تفعيل وتوسيع مجال تطبيق هذه الأبحاث في النصيحة الشرعية، حيث يمثل هذا المنحى امتياز في تطوير الخطاب الدعوي المعاصر، خاصة في الوقت الحاضر حيث يمثل الإعلام والصورة والوسائط المتعددة التأثير الأساس في دنيا الناس  خاصة في انحسار دور المحاضن التربوية وغيابها أحيانا، وانتشار المعايير السلوكية كعلم واتساع المدارك البشرية بما حققته التكنولوجيا.

اقرأ أيضا  استقيموا أيها الكبار، يستقيم الصغار

لهذا كان ولا بد من إدراك النصيحة كعلم واسم بعدما كانت مسمى وفن وممارسة إنسانية أعطاها الإسلام الطبيعة الشرعية.

والمستقرئ للعلاقات الإنسانية وطرق الاتصال البشري ومهاراته يدرك أهمية اعتماد المناهج الدعوية في استعمال النصيحة لتحقيق نتائج فعالة على جميع المستويات العمرية والجنسية والاجتماعية.

وباختلاف الأنماط البشرية والأحوال الإنسانية تتنوع المناهج في اختيار المنهج المناسب للمقام المناسب، ولهذا  نبه الإمام الغزالي بقوله: “فاعلم أن الإيحاش إنما يحصل بذكر عيب يعلمه أخوك من نفسه، فأما تنبيه على ما لا يعلمه، فهو عين الشفقة، وهو استمالة القلوب، أعني قلوب العقلاء، وأما الحمقى فلا يلتفت إليهم، فإن من ينبهك على فعل مذموم تعاطيته، أو صفة مذمومة اتصفت بها لتزكي نفسك عنها، كان كمن ينبهك عن حية أو عقرب تحت ذيلك، وقد همت بإهلاكك، فإن كنت تكره ذلك فما أشد حمقك، والصفات الذميمة عقارب وحيات، وهي في الآخر مهلكات”.

وهذا النص الرائع المنطلق من خلفية شرعية ونفسية واجتماعية يحاول الإمام الغزالي التنظير للمناهج الدعوية من خلال التمثيل والوصف والتعليل.

1- تطبيقات المنهج العقلي:

ونقصد بالمنهج العقلي هو اعتماد أساليب عقلية يفهمها العقل البسيط الفطري، ذلك أن العقل السليم ينسجم مع تعاليم الإسلام وعقيدته، ومن ثم فمن الواجب استعمال المسلمات العقلية والبديهيات المنطقية لإيصال معلومة  أو تصحيح خطأ أو توجيه تربوي أو تنبيه سلوكي.

وقد استعمل الشارع الكريم هذا المنهج في الكثير من المواقف والأحوال، فنجد قول الله تعالى مثلا: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} (التوبة: 12) استعمالا صريحا للمنهج العقلي في مسألة عقدية أخلاقية، وكان بإمكان الخالق الكريم أن يأمرنا بخشية الله دون استعمال هذا التسلسل العقلي، ونجد هدا المنهج في العديد من النصائح القرآنية كقول الله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس~: 79).

وقد اعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المنهج في العديد من المواقف، فقد روي الإمام مسلم بسنده عن أبي ذر رضي الله عنه أن ناساً من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم قالوا للنبي صلي الله عليه وسلم: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة. وكل تكبيرة صدقة. وكل تحميدة صدقة. وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة. وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر. فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر”.

فتذكير الرسول بالأجر الذي يأخذه المتعفف بالزواج في مقابل الزاني عبارة عن منطق شرعي، يفهمه المسلم، وقد فهمه الصحابة بامتياز.

والمنهج العقلي هو النظام الدعوي الذي يرتكز على العقل، ويدعو إلى التفكر والتدبر والاعتبار.

* أبرز أساليبه:

– المحاكمات العقلية.

– الجدل والمناظرة والحوار.

– ضرب الأمثال بأنواعها.

– القصص

* مواطن استعمالا المنهج العقلي:

– في مواطن إنكار المدعوين

– مع المعتدين بعقولهم وأفكارهم من المدعوين.

– مع المنصفين من الناس.

– مع المتأثرين بالشبهات.

* من خصائص المنهج العقلي:

– اعتماده على الاستنتاجات العقلية.

– عمق تأثيره في المدعوين.

– إفحام الخصم المعاند.

– ضيق دائرته بالنسبة لدائرة المنهج العاطفي.

2- تطبيقات المنهج العاطفي:

ويمثل هذا المنهج انسجاما مع طبيعة الإنسان العاطفية وإدراكا متمعنا  للجانب العاطفي فيه، وعندما نلاحظ  هذا التوجيه القرآني، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}. [آل عمران: 159].

والمقصد هنا أن صاحب النصيحة وإن كان على حق، فمن الواجب الولوج بطريقة لينة تدغدغ العواطف وتمس المشاعر، وتثير الأحاسيس، والعاطفة ملازمة للإنسان مهما كان موقعه وجبروته، فكان توجيه القرآن للناصح موسى عليه السلام إلى المنصوح وهو فرعون، باعتماد النصيحة باللين والرفق، لان الولوج بطريقة عاطفية قد تحدث زلزالا مشاعريا عند المنصوح، وهذا منهج ثابت في كل الأزمان والأماكن، وليس هنالك أي شبهة بعد ذلك عندما نصدع بكلمة الحق المطلوبة شرعا، فكلمة الحق ليس بالضرورة أن تكون عنفا أو سبا أو إهانة أو تحقيرا، قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44).

وقد بين الرسول الكريم وأقر منهجا متكاملا في التعامل يعتمد اللين والرفق فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلا زانَهُ، ولا يُنزَعُ من شيءٍ إلا شانَه). وقال أيضا: (مَن يُحرَمِ الرِّفقَ يُحْرَمِ الخيرَ).

ومن خلال ما سبق نستخلص أنه من الواجب استعمال أساليب الرفق واللين واجتناب الرعونة والفظاظة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه قال: (ليس المؤمن بالطَّعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء). وينسحب هذا المنهج على النساء خصوصا بما امتزن به من قوة للعاطفة، فكان التوجيه النبوي مناسبا لطبيعتهن فقد قال صلى الله علية وسلم: (يا معشر النساء تصدقن فاني رأيتكن أكثر أهل النار). وفي رواية (تصدقن وأكثرن الاستغفار..) ويعتبر الترغيب بالجنة والترهيب من النار مدخلا عاطفيا ينسجم مع مشاعر الناس والنساء خصوصا.

ونعتمد عليه كذلك مع من نحب من الأطفال والمقربين، فمن الواجب هنا تقديم مقدمات عاطفية تدل على المحبة والمودة وتبين الحرص على الخير، وخير مثالٍ على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (إني لأحبك يا معاذ) ثم أتبعها بقوله: (فلا تدع أن تقول في كل صلاة: ربّ أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).

ويمثل الحديث الموالي أرضية لفهم وتطبيق هذا المنهج، وقد قال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا جرير حدثنا سليم بن عامر عن أبي أمامة قال أن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه فقال: ادنه فدنا منه قريبا فقال: اجلس فجلس، قال أتحبه لأمك؟ قال لا والله جعلني الله فداك. قال ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال أفتحبه لابنتك؟ قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال أتحبه لأختك؟ قال لا والله جعلني الله فداك قال ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال أفتحبه لعمتك؟ قال لا والله جعلني الله فداك قال ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال أفتحبه لخالتك؟ قال لا والله جعلني الله فداك قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه”.

يمثل هذا الحديث النبوي  رؤية نبوية دعوية تراعي أحوال الناس واتجاهاتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا لم يستعمل التوجيه القرآني المحرم للزنا، بل تجاوز النص ظرفيا، لأن النص يمثل صورة نمطية عنده منبثقة من أحكام الإسلام، بل تعداه إلى أن يلج العاطفة عنده من خلال ذلك الإسقاط المتميز.

والمنهج العاطفي هو النظام الدعوي الذي يرتكز على القلب، ويحرك الشعور والوجدان.

* أبرز أساليبه:

أ- أسلوب الموعظة الحسنة.

ب- إظهار الرأفة والرحمة بالمدعوين.

ج- قضاء الحاجات، وتقديم المساعدات، وتأمين الخدمات.

* مواطن استعمالاته:

– حالة دعوة الجاهل.

– حالة دعوة من تجهل حاله.

اقرأ أيضا  إدريس عليه السلام

– في دعوة أصحاب القلوب الضعيفة كالنساء, والأطفال.

– في دعوة الآباء للأبناء، ودعوة الأبناء للآباء, الأقارب والأرحام.

– في مواطن ضعف الدعوة، والشدة على المدعوين.

* خصائص المنهج العاطفي:

– لطف أسلوبه.

– سرعة تأثر المدعوين به.

– تخفيف وطأة العدو أو المخالف.

– سرعة التحول في آثاره.

– سعة دائرة استعماله.

3- تطبيقات المنهج الحسي:

هذا المنهج يعتمد على استعمال المحسوسات والملموسات التي يفهمها ويدركها الإنسان العادي، لأن بعض الناس لا يدركون كنه الأشياء أو موضوع النصيحة إلا باتخاذ مثالا تجريبيا حسيا، فنجد الرسول صلى الله عليه وسلم يعتمد هذا المنهج في تعليم مناسك الإسلام، فقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).

فالنمط البشري الذي يتأقلم مع المحسوسات يفهم التعاليم بطريقة سهلة وسلسة، فبعد غزوة حنين سأل حكيم بن حزام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، حتى بلغ ما أخذه مائة بعير، وكان يومئذ حديث عهد بالإسلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ، وَلاَ يَشْبَعُ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى).

فالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن  مكن  حكيم بن حزام رضي الله عنه من الشيء الذي طلبه، قدم له هذه النصيحة الخالدة، وأظن أنها كانت أكثر وقعا لو نصحه دون عطيته صلى الله علية وسلم.

فالربط بين النصيحة كمادة والمنهج كغلاف يعطي للنصيحة الشرعية التفاعل ومن ثم التأثر بها، ليأتي هذا الأنموذج المشهور ليرسم  بعدا حقيقيا لأهمية  المثال الحسي، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروراً على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإذا تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).

أما المثال الموالي يرسم الصورة الكاملة والمفهوم التطبيقي للمنهج الحسي من خلال اعتماد الرسول لأسلوب الرسم والتجسيد والتشكيل، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: “خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا يَمِينًا وَشِمَالا، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ, ثُمَّ قَرَأَ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: 153).

وقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44) وقال تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف: 3).

﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 17].

وتتنوّع نصائح النبي صلى الله عليه وسلم بين السرّ والعلن، والفرديّة والجماعيّة، تبعاً لمقتضى الحال، ومن جملة النصائح الجماعيّة، قوله عليه الصلاة والسلام للشباب: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء) أي كاسرٌ لحدّة الشهوة).

يُروى أن الحسنَ والحسين رضي الله عنهما رأَيَا رجلاً كبيرًا في السنِّ يتوضَّأ، وكان لا يُحْسِن الوضوء، فأرادا تعليمَه، فذهبا إليه، فادَّعيا أنَّهما قد اختلفا: أيُّهما حسَنُ الوضوء أكثر مِن أخيه؟ وأرادا مِنه أن يَحكم بينهما، فأمر أحدَهما بالوضوء، ثم أمر الآخَر، ثم قال لهما: أنا الذي لا أعرف الوضوء، فعَلِّماني إيَّاه!.

وفي الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه قال: (مَثَلُ الذي يُعلِّمُ الناسَ الخيرَ وينسى نفسَهُ مثَلُ الفَتيلَةِ؛ تُضيءُ للناسِ وتَحْرِقُ نفسَها).

ولمَّا جلس النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع أصحابه يومًا، وقال: (أتدْرون ما الشَّجرة الطيبة؟)، وذلك في قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ [إبراهيم: 24]، فلم يُصِب أحدٌ الجواب، وكان في رَوْع ابنِ عمر أنَّها النخلة، ولكنَّه استحى أن يقول ذلك أمام كبار الصَّحابة، فلمَّا قال الرَّسول لأصحابه: (إنَّها النَّخلة) وانتهى المجلس، قال ابنُ عمر لأبيه عمر: والله يا أبتِ، لقد وقع في نفسي أنَّها النخلة، فتمنَّى عُمَر أن لو كان قالَها ولدُه في محْضر من رسولِ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم.

والمنهج الحسي أو التجريبي هو النظام الدعوي الذي يرتكز على الحواس، ويعتمد على المشاهدات والتجارب.

* أبرز أساليبه:

– لفت الحس إلى التعرف على المحسوسات، للوصول عن طريقها إلى القناعات.

– أسلوب التعليم التطبيقي على وجه يشاهد المدعو كيفية التطبيق.

– القدوة العملية في تعليم الأخلاق والسلوك.

– تغيير المنكر باليد.

– تأييد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بالمعجزات الحسية والخوارق.

– أسلوب “التمثيل المسرحي الدرامي”.

* مواطن استعمالاته:

– في تعليم الأمور التطبيقية العملية والدعوة إليها.

– يستخدم في دعوة العلماء والمتخصصين في العلوم التطبيقية.

– يستخدم في دعوة المتجاهلين للسنن الكونية.

* من خصائص المنهج الحسي:

– سرعة تأثيره لاعتماده على المحسوسات.

– عمق تأثيره في النفوس البشرية.

– سعة دائرة، لاشتراك الناس جميعا.

– يحتاج في استخدامه إلى خبرة واختصاص.

ثالثا: الخاتمة وتوصيات:

من خلال هذا العرض البسيط والاستقراء الجزئي والتحليل المتواضع لآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية ندرك شمول الدين الحنيف وانسحاب هذا الشمول على جميع حركات الإنسان في الدنيا، وكل هذه النصوص تدخل في إطار الحكم التشريعية التي تبرز إعجازا وتحديا أمام التشريعات البشرية والنظريات الإنسانية البعيدة عن صبغة العقيدة، فهذا الجانب الذي يتعلق بالعلاقات الإنسانية وشبكتها نجد الإسلام قد أسس له قبل ظهور نظريات العلوم الإنسانية والاجتماعية خاصة علم النفس الاجتماعي وعلم النفس السلوكي أو ما يطلق عليه حديثا علم البرمجة اللغوية العصبية.

وتمثل النصيحة التي يشترك فيها عموم الناس مع عموم الناس مظهرا إنسانيا من التكامل والتعاون والاتصال الايجابي والامتثال لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله.

ومن خلال فهم المناهج الدعوية وتطبيقاتها على النصيحة الشرعية نحقق الإبداع والإحسان المطلوبين شرعا والمعتبرين واقعا.

فهذا العرض البسط ينبهنا إلى إشارات مهمة في التعامل البشري والاتصال الإنساني، قد يتغافل عنه الكثير من الدعاة، في حين أن الكثير من أصحاب الأفكار الشاذة والإيديولوجيات الضالة تعتمد هذه المناهج في دعواتها ودعاياتها.

وبانتشار وسائل الإعلام واتساع دائرة الصورة فلا بد من التحكم في المناهج الإنسانية والاجتماعية وأبحاثها -طبعا التي توافق عقيدتنا-، حتى نحقق الشهادة على الناس بكل جودة وإحسان.

ونقترح التوصيات التالية:

* إدراج مادة علم النفس السلوكي في جميع الأطوار الدراسية.

* القيام بدورات تدريبية لعموم الناس -والدعاة خصوصا- في الاتصال الإنساني وفنيات الحوار وتقنيات التأثير.

* دعوة الباحثين إلى اعتماد بحوث المناهج الدعوية في الرسائل الجامعية ومحاولة استقراء كل النصوص وجمعها وترتيبها حسب المنهج المناسب. والله اعلم.

مدونة الدكتور بدر الدين زواقة.

 

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.