بين النصيحة والتعيير

الخميس،4جمادى الأولى1435ه الموافق 6آذار/ مارس2014م وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.

د. محمود عبدالجليل روزن

قد تتستَّرُ الشَّماتة في زيّ النصيحة، وقدْ يتَّخذُ ذو القلب المريض النصيحةَ سُلَّمًا وذريعةً إلى التعيير والانتقاص، وكلها آفاتٌ حذَّر منها العلماء، وصنَّف فيها الإمام ابن رجب الحنبلي رسالته الشهيرة: الفرق بين النصيحة والتعيير، ومن نفيس ما جاء فيه: قيل لبعض السلف: “أتحبُّ أن يخبرك أحد بعيوبك؟

فقالإن كان يريد أن يوبخني فلا“.

فالتوبيخ والتعيير بالذنب مذمومان، وقد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – أن تُثَرَّبَ الأمة الزانية مع أمره بجلدها، فتجلدُ حدًّا، ولا تعير بالذنب ولا توبخ به، وقال الفضيل: “المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويُعيِّر“.

وهذا الذي ذكره الفضيل – من علامات النصح والتعيير، وهو أنَّ النصح يقترن به الستر والتعيير يقترن به الإعلان. وكان يقال: “مَن أمر أخاه على رؤوس الملأ فقد عيَّره”. وقد كان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه، ويحبُّون أن يكون سرًّا فيما بين الآمر والمأمور؛ فإنَّ هذا من علامات النُّصح؛ لأنَّ الناصحَ ليس له غرض في إشاعةِ عيوب مَن ينصحُ له، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها.

وأما إشاعة العيوب فهو مما حرمه الله ورسوله، قال الله تعالى﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النور: 19]. وقال – صلى الله عليه وسلم -: “ومن سَتَرَ مُسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة[2]. والأحاديثُ بهذا المعنى كثيرةٌ.

وقال بعض العلماء لمن يأمر بالمعروف:

واجتهد أن تستر العصاة فإن ظهور عوراتهم وَهَنٌ في الإسلام، وأحقُّ شيء بالستر: العورة“. 

فلهذا؛ كانت إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير، وهما من خصال الفجَّار؛ لأنَّ الفاجر لا غَرَضَ له في زوال المفاسد ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب، إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن، وهَتك عرضه، فهو يعيد ذلك ويبديه ومقصوده تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساويه للناس؛ ليُدخل عليه الضرر في الدنيا. وقد قيل: ودَّتِ الزَّانيةُ لو يزني كلُّ نساءِ الحيِّ!

ومما يحملُ للفاجر على إشاعة السوء: القوة والغلظة ومحبته إيذاء أخيه المؤمن وإدخال الضرر عليه، وهذه صفة الشيطان الذي يزيِّن لبني آدم الكفر والفسوق والعصيان ليصيروا بذلك من أهل النيران كما قال الله: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6]، وقال بعد أن قص علينا قصته مع نبي الله آدم عليه السلام ومَكرَه به حتى توَصَّل إلى إخراجه من الجنة: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27].

اقرأ أيضا  كيف كان محمدا قبل النبوة ...أربعون عاماً قبل النبوة الجزء الاول

 

وأما النَّاصح: فغرضُه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن، واجتنابه له وبذلك وصف الله عز وجل رسوله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]. ووصف بذلك أصحابه فقال﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29]، ووصف المؤمنين بالصبر والتواصي بالمرحمة.

 

فشتَّان بين مَن قصدُه النصيحة وبين من قصدُه الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على مَن ليس من ذوي العقول الصحيحة.

 

ويزدادُ الأمر سوءًا حينَ يُستبدلُ المدادُ بالكلام، والقلم باللسان، والقراطيسُ الشريفةُ بميادين الحواري ونواصي الشوارع، حينَ يُصنَّفُ في الردِّ على العلماءِ بردودٍ ظاهرُها منافحةٌ عن الحقِّ، وباطنها إرادةُ هدمِ العلماء والتنقُّص منهم، لأنَّ في إسقاطهم إسقاطًا لشرفِ العلم الذي يمثِّلونه وينتسبون إليه، وعندها تهتزُّ مكانتهم في قلوب النَّاس.

 

ولا أحدَ ضدّ الانتقاد على العلماءِ، فإنَّ ذلك دَيْدَنُ العلماءِ مذ كان العلمُ، ولكنَّ المرفوض الممجوجَ أن تكون تلك الردودُ مما ظاهره الرحمةُ وباطنه من قبله العذاب فإن كان مرادُ الرادِّ إظهارَ عيبِ المردود عليه عليه وتنقصَه وتبيينَ جهله وقصوره في العلم ونحو ذلك؛ كان محرمًا سواءً كان ردُّه لذلك في وجه من ردِّ عليه أو في غيبته، وسواءٌ كان في حياته أو بعد موته، وهذا داخلٌ فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه وتوعد عليه في الهمز واللمز، وداخلٌ أيضُا في قول – صلى الله عليه وسلم -:”يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه؛ لا تؤذوا المسلمين، ولا تُعيِّروهم، ولا تتَّبعوا عوراتِهم؛ فإنه من تتبع عورةَ أخيه المسلم يتتبَّعُ الله عورته، ومَن تتبَّع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله[3].

اقرأ أيضا  وهمية الصراع بين العلم والدين في البيئة الإسلامية

 

ومن عُرِفَ منه أنه أراد بردِّه على العلماء التنقصَ والذمَّ وإظهار العيب؛ فإنه يستحق أن يُقابل بالعقوبة؛ ليرتدع هو ونظراؤه عن هذه الرذائل المحرمة.

 

ويُعرف هذا القصدُ تارة بإقرار الرادِّ واعترافه، وتارة بقرائن تحيط بفعله وقوله، فمن عُرف منه العلم والدين وتوقير أئمة المسلمين واحترامهم لم يَذكر الردَّ وتبيين الخطأ إلا على الوجه الذي يراه غيره من أئمة العلماء.

 

والأصلُ أن يُحمل الردُّ على إرادةِ الخير، ومن حَمَلَه على غير ذلك بلا قرينةٍ؛ فهو ممن يَظنُّ بالبريءِ ظنَّ السوء، وذلك ممَّا حرمه الله ورسوله، وهو داخل في قوله – عز وجل -: ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء: 112]، فقد جمع هذا الظانُّ بين اكتساب الخطيئة والإثم، ورمي البريء بها.

 

فإن ظهرت من الرادِّ أماراتُ السوء مثلكثرة البغي والعدوان، وقلة الورع، وإطلاق اللسان، وكثرة الغيبة والبهتان، والحسد للناس على ما آتاهم الله من فضله، والامتنان، وشدة الحرص على المزاحمة على الرئاسات قبل الأوان، فيستحق حينئذٍ مقابلته بالهوان.

 

ومن لم يظهر منه ما يكفي للحُكمِ عليه بخيرٍ ولا شرٍّ فإنه يجب أن يُحمل كلامه على أحسن مُحتملاته، ولا يجوز حمله على أسوأها. وقد قال عمر – رضى الله عنه -: ” لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً“.

 

ومِن أظهرِ صُوَرِ التعيير:

إخراجُ السوء وإشاعتُه في قالب النصح، فهو يُظهر الشَّفَقَةَ والتألُّم لحال المنصوح، وفي الباطن إنما غرضه التعيير والأذى، فهذا من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله؛ لأنهم يُظهرون أحسنَ الأقوال والأفعال يريدون بها التوصل إلى أغراض فاسدة، وذلك من خصال النفاق؛ كما في سورة براءة التي هتك الله فيها المنافقين وفضحهم بأوصافهم الخبيثة: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 117]، فهذه الخصال خصال اليهود والمنافقين. ومَن كانت هذه همته فهو داخل في هذه الآية ولابد فهو متوعد بالعذاب الأليم.

اقرأ أيضا  فضل الحج وعشر ذي الحجة

 

ومثال ذلك: أن يريد الإنسان ذمَّ رجلٍ وتنقصه وإظهار عيبه لينفر الناس عنه إما محبة لإيذائه، أو لأنه يعاديه، أو خوفًا من مزاحمته على مال أو رئاسة أو غير ذلك من الأسباب المذمومة فلا يتوصل إلى ذلك إلا بإظهار الطعن فيه بسبب ديني مثل: أن يكون قد ردَّ قولًا ضعيفًا من أقوال عالم مشهور، فيشيع بين أتباع ذلك العالم أن فلانًا يُبغِضُ هذا العالم ويذمُّه ويطعن عليه، فيحمل هؤلاء الأتباعَ على بُغضه، وربَّما وَصَل الأمر إلى إعلان الحرب عليه، فيجمع هذا المظهر للنصح بين أمرين قبيحين محرَّمين:

أحدهماأنَّه حَمَل ردَّ العالمِ على محملٍ سيءٍ ونصَّب نفسه حَكَمًا على سريرته، إذ مَن أدراه أنَّه إنما ردَّ بُغضًا وذَمَّا وطعنًا؟

 

والثانيأن يظهر الطعن عليه ليتوصل بذلك إلى هواه وغرضه الفاسد في قالب النصح والذبّ عن علماء الشرع؛ فيعظُم هو من حيثُ اتَّضعَ مُخالِفُه.

 

فليتَّق الله ربَّه كلُّ ناصحٍ، وكلُّ متلبِّسٍ بثوب نصحٍ يحتالُ به لتحصيلِ عَرَضٍ زائلٍ ومتاعٍ قليل، وليمثِّل لنفسه يوم تُبلى السرائر فما له من قوةٍ ولا ناصرٍ.

 

وما أنصح قول القائل:

سيبلى لسانٌ كان يُعرِبُ لفظَه 

فيا ليته مِن وَقفة العرضِ يَسلَمُ 

وما تنفع الآدابُ إن لم تكن تقًى 

وما ضَرَّ ذا تقوى لسانٌ مُعَجَّمٌ 

 


[1] للإمام ابن رجب الحنبلي – رسالة ماتعة بعنوان: الفرق بين النصيحة والتعيير، ومنها اختصرتُ هذا العنصر مع إضافاتٍ وتصرُّف.

[2] متفق عليه.

[3] رواه الترمذيُّ، وصحَّحه الألبانيُّ في صحيح الجامع (ح7985).

المصدر:الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.