هل انتشر الإسلام بالسيف؟؟

الأحد،18رجب 1435الموافق18 أيار/ماي2014 وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.

لماذا حمل الرسول السيف ولم يكتفِ بالإقناع؟

في هذا السؤال إيماءةٌ مرفوضة إلى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – حارَب لحملِ الخصومِ على قبول الدعوة، وهذه تهمة لا أصلَ لها من عقل أو نقل!
فماذا يدَّعيه المدَّعون بعد أمر الله لرسولِه – صلى الله عليه وسلم -: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]، وقوله – سبحانه وتعالى -: ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ [الإنسان: 29].
إن الإسلام بنَى خطَّته في الحياة على استحالة زوال الأديان كلها، واكتفى بأن يبقى مذكِّرًا بالحق، منكِرًا للهوى، وترى ذلك في قوله – سبحانه -: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 145].
 
حسبنا – نحن المسلمين – أن نقرِّر الحق، وأن نحيا على هداه، وأن نمهِّد طريقه لمَن أحبَّ سلوكَه، ولنا بلا ريبٍ أن نردَّ المهاجمين، وأن نَحمِيَ المستضعفين، وأن نُسكِت المُفتَرِين إذا تمادَوا في أذاهم، ولولا السيف الإسلامي الصُّلب، ولولا الرجال أولو البأس الذين حملوه، ولولا نبي الملحمة الذي انتصب دون دينِه وعرينه، لذهب الإسلام في خبر كان، وربما ضنَّ عليه الاستعماريون بدموع التماسيح بعدما يزول!
 
إن المؤرِّخين الأوروبيين غضاب لأن الإسلام قاتل الرومان! فهل سأل أحدُهم نفسه: ما الذي جاء بالرومان إلى الشام وآسيا الصغرى؟! وما الذي جاء بهم إلى مصر والشمال الإفريقي؟ أكان الإقناع طريقًا إلى إخراج أولئك المستعمرين من أرضٍ احتلوها أكثر من خمسة قرون؟ هل أفلح الإقناع في إنهاء استعمار البيض لجنوب إفريقيا؟
 
إن الحرب وحدَها – بكل مغارمها ومتاعبها – هي الطريق الفذُّ لمحوِ الاستعمار الطويل، إن الإسلام أغنى الأديانِ بالأدلة، وأحرصُها على استثارة الأفكار ومناشدة الضمائر، وكان يمكن أن يلام لو أنه آثر إعمال السيف على العقل، أو قابل اللطف بالعنف.
 
أما أن يعرض حجَّته، فيلقى الهزء والهوان، ثم يحاول المتمرِّسون بالدهاء والجبروت أن يواروه الثرى، فدون ذلك ركوب الأهوال! والناس إذا ظلموا البرهان واعتسفوا، فالحرب أجدى على الدنيا من السلم.
 
إن القتال فُرِض على المسلمين فرضًا، سواء كان مع الوثنيين أم مع الكتابيين، واضطروا لخوضه دفاعًا عن أنفسهم وعقيدتهم، وإلى هذا تشير الآية الكريمة: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ [الحج: 39، 40].
 
أترى المطرود من وطنه – لأنه مؤمن بربه – يعدُّ مهاجمًا إذا قاتل طارديه؟
إن الدهشة تملَّكتْني عندما رأيتُ كتَّابًا يصفون معركة بَدْر بأنها دليلٌ على أن الحرب في الإسلام هجومية! قريش كانت مظلومة وكان المسلمون هم الظلمة!
 
إنه المنطق نفسه الذي اتُّبِع في وصف المقاتلين الفلسطينيين الذين اغتُصِبت أرضهم ودُورهم، وأُلْجِئوا إلى العراء! اعتبروا المقاتلين مُعْتَدِين على اليهود الآمنين الطيبين!
 
والحربُ مع الفرس بدأ شررُها منذ مزَّق كِسْرى كتاب الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذي يدعوه فيه إلى الإسلام، لقد غضب هذا الكسرى غضبًا شديدًا، وكلف واليَه على جنوب الجزيرة أن يأتيَه بمحمد هذا! وكان الفرس ينظرون إلى العرب بازدراءٍ، ويحتلُّون أرض العراق، ومن ثَمَّ أنِفَ كسرى أن يحاول عربي هدايته، أفكان الفُرْس يأذنون لمسلم أن يجوس خلال ديارهم يدعو أحدًا إلى الله؟
 
السيف وحدَه هو الذي يحل تلك المشكلة، وماذا صنع السيف؟ قلَّم أظفار الطغاة، وتركهم بعد تجريدِهم من السلاح يفكِّرون في هدوء، ويتدبرون ما يَعرِض عليهم بعقل، لا إكراه على الدين، لا نعرف في تاريخ البشرية حاملَ سيفٍ أعفَّ من محمد، ما غضب لنفسه قط، ما غضب إلا لله وحده، وما استخدم السيف إلا في حينه وموضعه.
 

قالوا غزوتَ ورُسْلُ الله ما بُعِثُوا 
بقتلِ نفسٍ ولا جاؤوا بسفكِ دمِ 
جهلٌ وتضليلُ أحلامٍ وسفسطةٌ 
غزوت بالسيفِ بعدَ الغزوِ بالقلمِ 
والجهلُ إن تَلْقَه بالحلمِ ضِقْتَ به 
ذرعًا وإن تلقَه بالجهلِ يَنْحَسِمِ[1
 

إن الشيء الذي يَغِيظ أعداءَ الحقيقة، هو أن الإسلام زوَّدتْه العناية بتعاليمَ تجعلُه صلب المكسر، لا يستطيع الباطل أن يجتاحه بسهولة، ولا أن ينال منه بيسرٍ، بل نَقْدِر أن نقول: لقد كان هذا الباطل يزرأ في عصرات الدنيا دون تهيُّب، ويُزعِج الآمنين في كل قطر وجل، فلما ظهر الإسلام، واشتبك الباطل معه – على عادته – عاد من هجومِه مقصومَ الظهر، مخضوبَ الكفِّ، فراح يجأر بالشكوى أن الإسلام دينُ سيفٍ، وأن الحكم في رحابه جعله صلبَ العودِ.
 
نعم هو كذلك، وما عيب السيف إذا ردَّ المعتدين؟ وما عيب الصلابة في الحق إذا استعصت على الفتَّانين؟ إن السؤال الذي يجب أن تتحدَّد الإجابة عنه هو: هل كان الحكم في الإسلام أساسًا لفتنة غير المسلمين عن دينهم؟ هل كانت الدولة في خدمة الدعوة من حيث استغلال أجهزتها للفتنة والإعنات؟[2].
 
إن الإسلام دين الحرية والعزة والكرامة، وهو أقوى حافزٍ لإعزاز معتنقيه، ودفعهم إلى القيادة والتوجيه، وقد عَرَف الاستعمار قوَّة الإسلام، فلجأ إلى وسائل عديدة مادية، ومعنوية، وعسكرية، وعلمية؛ لإضعاف العقيدة الدينية في نفوس المسلمين، فيجب أن يعرف المسلمون أساليب الاستعمار ووسائله؛ ليتجنبوا الوقوع بين مخالبه[3].
 
والإسلام مصدر الحريات، فبعض النظم السياسية تعطي الفردَ من الحريات ما يطغى به على مصلحة المجموع، وبعضها يُعطِي المجموع ما يطغى به على النشاط الفردي، ولكن الإسلام يعطي الفرد حقه، والجماعة حقوقَها، وينسِّق بينهما خير تنسيق، وهو بهذا يكفل جميع أنواع الحريات في تنظيم دقيق، يشمل حرية الملك، والعقيدة، والمسكن، والتعبير”[4]؛ فالإسلام دين السلام، ولو ذهب بعض المبشِّرين إلى أن الإسلام قام على العنف، وانتشر بالسيف، واعتمد على الإكراه، فهو زعم خاطئ كل الخطأ؛ فقد قام الإسلام على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ونادى بالسلام، واشتُقَّ اسمه من السلام، وجعل تحية أهل الإسلام السلام، وطالما نَهَى عن البغي والعدوان، وتوعَّد مرتكبَهما بأشدِّ أنو اع العقاب، بل إنه وضع نظامًا محكمًا للسلام بين الدول المختلفة، ولا يزال العقل البشري يحلم بالوصول إليه حتى الآن[5].
 
إن الإسلام لا مانع عنده – ولا عند المسلمين – من مصالَحة المسيحيين، وبرِّهم، والإقساط إليهم، على أساس أننا نطلبُ من المسيحيين شيئًا لن يعز عليهم أداؤه؛ لئلاَّ يفكِّروا في محو الإسلام وفتنة أممِه، وأن يَدَعوا الناس أحرارًا في اعتناق مبادئه والعيش بها، ونحن – باسم الإسلام – نعطي النصرانية هذا الحق المماثل.
 
إننا لا نخاف الحرية أبدًا، ولا نرهب من تبادل الرأي مع غيرنا، لكن عندما نرى ديننا يضطهد، ودعاته يستباحون، وأهله يعدُّون خارجين على القانون، فمن العبث أن يُنتَظر منا سلام… السلام هنا معناه الموت، والذي يطالبنا بذلك مغفَّل، أسروا في ضمائركم أن الإسلام باطل ونبيه كاذب… أمَّا أن تحملوا السلاح لإثبات ذلك في واقع الحياة، ولسوقِ الشعوب إليه بالكره، فذلك أمر دونه الموت!
 
ويؤسِفُنا أن نكرِّر مرة أخرى أن الدولة في يدِ الحكَّام المسيحيين كانت أداة مطاردة ومصادرة، وإذا كنَّا – نحن المسلمين – نرى أتباعَ المذهب المسيحي الحاكم يجتاحُ أصحاب المذهب المسيحي الآخر، فهل كنا ننتظر أن يلقى الإسلام من هؤلاء إلا مصيرًا أسوأ، وعُقْبَى أوخم؟ فكيف يهادنُ أسلافنا سلطاتٍ هذه سياستُها؟
 
ثم لماذا إذَا استولى الرومان على بلد ما بالسيف يُعتبر هذا البلد ملكًا حلالاً لهم إلى الأبد، لا يجوز لغيرهم أن يتسرَّب إليه حاملَ دعوة وعارضَ أفكار فقط؟!
 
لنضرب المثل بمصر:
لقد دخلها الرومان غزاةً فاتحين، وأرهقوا أهلها دينيًّا واقتصاديًّا طوال عهدهم، فإذا جاء العرب وقاتلوا هؤلاء الغُزَاة المحتلِّين، وأَجْلَوهم عن البلاد، ورسَّخوا مبادئ الحرية الدينية في البلد، الذي أذلَّه التعصب والاضطهاد.. امتلأت الدنيا بالصراخ العالي أن الإسلام غزا المسيحية في عقر دارها، وأنه انتشر بالسيف، ثم ينطلق القسيسون والرهبان يحضُّون على الأخذ بالثأر، وإيقاد الحروب الصليبية جيلاً بعد جيل، كلما خَبَت نارها أشعلوها من جديد!
 
إن هذه السيرة النابية لا تلقي على الأرض السلام! ويجبُ أن نتعاون مع المسيحيين على إسدال الستار فوقها!
 
قد يقال: إن الإسلام انتشر بالفعل في أقطار شتى كانت نصرانية من قبلُ!
 
ونقول: نعم، انتشر بالاقتناع المحض من الداخلين فيه، والتسامح المطلق من الحاكمين به؛ فهل نلغي الحرية العقلية والدينية، حتى يستريح بعض الناس؟ وهل توصد الأبوابُ في وجوه قوم يرون أنهم هُدُوا للحق؟
 
إن التاريخ شاهد عدل على ذلك، وقد وضحنا ذلك سابقًا، ونزيد الموضوع جلاءً وإشراقًا بذكر بعض الوثائق الأجنبية الداعمة لهذه الحقيقة “تسامح الإسلام“.
 
يقول المؤرخ “لودفيج” – في كتابه “النيل… حياة نهر“:
استقبل أقباط مصر جيوش العرب والإسلام المُنقِذين، لا استقبال الغُزَاة الفاتحين، وكان ترحيبُهم بالغًا حد الحماس، وما إن سقطت في يد العرب مدينتا “بلور” و”هليوبوليس، وغيرهما من المدن، حتى فزع بطريق الإسكندرية وقوَّاد بيزنطة إلى الإمبراطور البيزنطي، وأنهوا إليه ما وقع لمصر، فعمد الإمبراطور إلى المفاوضة، وفاوض “عمرو بن العاص” في أن يوليَه إمارة مصر، ويزوِّجه من ابتنه شريطة اعتناق “عمرو” للنصرانية، وإلا فالحرب، ولكن “ابن العاص” استخفَّ بتهديد الإمبراطور، ولم يحفلْ بعروضه ولا بإغرائه، ومضى في زحفه مؤيدًا من الشعب القبطي الذي أرهقه الحكمُ البيزنطي، وأرهقه الأشراف المنحلون، الذين كانت الكنيسة تؤيِّدهم في اضطهادهم الشعب واستنزاف أمواله لصالحها.
 
وسيَّر “عمرو بن العاص” جيشَه إلى الإسكندرية، ودخلها الجيش تحدُوه فرحةُ القبط وترحيبهم بمنقذيهم ومخلصيهم، وأمام هذا الجيش العربي فرَّت الجيوش البيزنطية، وأبحرت قواتها إلى بيزنطة، ثم سلَّم البطريق مدينة الإسكندرية إلى العرب.
 
ويقول “لودفيج“:
إنه فيما عدا فرض الجِزْيَة على المسيحي، فإن عمرًا لم يفرِّق في معاملته بين المسلمين والمسيحيين، بل سوَّى بينهم وبين المسلمين مساواة شملتْ كل حق لهم، وكل واجب عليهم، بما في ذلك وظائف الدولة جميعها، وبغض النظر عن الجنس أو الدين… “.
 
ثم ينتهي هذا المؤرخ إلى قوله: “إن الفتح العربي قد أقام – ولأول مرة في هذه المنطقة من العالم – نظامًا يمارس فيه رجلُ الشعب الحكمَ، لا عن طريق الوراثة، ولكن عن طريق الجدارة والكفاءة.
 
وهكذا أضاء شعاعُ الإسلام الشرقَ كلَّه في عهدٍ أوروبا تتخبَّط في غمار الجهالات والتعصب، بينما بلغ الشرق أوج نهضته.
 
ويقول “جيروم وجان تاور“:
إن فضيلة التسامح – التي كانت أزهى السمات الخلقية في العرب، والتي ندر أن تتوافر لغيرهم في كافة الأزمان – هذه السجيَّة الكريمة قد أفادت العرب كثيرًا، ولم يكن ليفيدَهم فائدتَها ذكاؤهم الفطري، وذوقهم الفني ونزعاتهم الأخرى، لم تكن هذه الخصائص التي امتاز بها العرب لتنفعَهم وترفعَهم إلى مكانهم المرموق، لو لم يتميَّزوا بفضيلة التسامح، وتنطبع في أذهان القوم صور قوية للتسامح العربي.
 
لقد ترك الإسلام لمختلف الشعوب ديانتها ونظمها وتقاليدها، فكانت مؤتمرات الأساقفة تُعقَد بكامل حريتها على الأراضي الإسلامية… وما من شكٍّ في أن ذلك التسامح لم يصدرْ إلا عن روح عالية، شعَّ منها هذا الأدب الرفيع، وتلك المجاملة التي لا تصنُّع ولا تعمُّد فيها، وقد نقل العرب والمسلمون إلى الغرب المبادئ الأصلية للمروءة والشهامة والفروسية… فأصبحت تلك المبادئ الإنسانية هي قانونَ المحارب الذي يستهدف حماية حقوق البشر… إن تلك المبادئ الإنسانية نبتت في الشرق، ولعبت فيه دورًا كبيرًا، إن تلك المبادئ – التي تغنَّى بها الغرب فيما بعد مزهوًّا فخورًا – لم تكن إلا خلائقَ العرب، أخذها الغرب عنهم في حروبه معهم.
 
وإن طبيعة التسامح في الخلق العربي لم تتخلَّ عنه حتى في مواقفه من الحملات التبشيرية وجنودها المبشرين، وفي الوقت الذي كان فيه جمهور الغرب يفتك بكل مسلم يقع في أيديهم، بل يعتبر العطف على المسلمين جريمة تستوجب القتل، في ذلك الوقت بالذات يروي التاريخ الكنسي أن سلطانَ مصر “الملك الكامل” استقبل ببشاشة وسماحة القس “سان فرنسوا دي أسيسز”، ورفاقه من الرهبان الفرنسيسكان، وسمح لهم بأن يجادلوه في الدين كيفما شاؤوا، وأفضى عليهم حمايتَه ورعايته، وأَذِن لهم بالدعوة إلى دينهم علنًا، ولسنا ندري كيف يسيغ لرجال الكنيسة التوفيقُ بين أقوالهم هذه وبين اتهام المسلمين بالتعصب، اللهم إلا إذا كان المقصودُ هو التشهيرَ بالمسلمين، وإضعاف عزائمهم بشتى الأكاذيب، ولا عجب إذًا أن ينتهي الأمر برجال الكنيسة إلى الاعتراف التالي:
إن الشعب الإسلامي متمرِّد، ولا يتيح عملاً إيجابيًّا مباشرًا للبعثات التبشيرية الكاثوليكية، وهذا لغز لا يمكن الوصول إلى حله، وإن سره لا يعلمه غير الله وحدَه، ذلك ما قاله الأسقف “أوربان ماري يونيكاوا” في كتابه عن نشاط الكنيسة والطوائف المسيحية في الشرق.
 
ويقول الأسقف “دي مسنيل“:
إن الأسباب العميقة لانتشار الإسلام وثباته المذهل ستظلُّ أبدًا بالنسبة لنا مشكلة لا تجد الحل[6].
 
ويقول غيره: “ولكن المعجزة الكبرى التي تحقَّقت على يدِ ذلك الجيل، أن الذين لم يُكرَهوا على اعتناقِ العقيدة الإسلامية قد دخلوا في الإسلام من ذوات أنفسهم، وأقبلوا عليه إقبالاً، وفَرِحوا بمجيء المسلمين إليهم، وأحبوهم، وصاروا بدَوْرهم جزءًا من هذه الأمة، وجندًا من جنود الإسلام… كما أصبحوا كذلك يتكلَّمون بلغة العقيدة الجديدة، ونسي كثيرٌ منهم ما كان لهم من لغات!
 
بل إن الذين بقوا على دينهم من النصارى في مصر والشام وغيرها، نسوا لغاتهم الأصلية تمامًا، ولم يَعُدْ لهم لسانٌ إلا العربية، على الرغم من أنهم لم يعتنقوا هذا الدين، ولا شك أن ذلك الأمر لم يكن ليتحقَّق لو كانت الأمة الفاتحة أمةَ غلبةٍ حربيةٍ فحسب، أو أمة ذات نزعة توسعية فحسب، أو كانت تبغي العلو والفساد في الأرض؛ ككل التجمعات الكبرى في جاهلية التاريخ!
 
إنما اعتنقتِ البلادُ المفتوحة عقيدةَ الأمة الفاتحة وتكلَّمت لغتها؛ لأنها رأتْ فيها نموذجًا غير مكرَّر في التاريخ من قبل، نموذج “أمة العقيدة”، التي تفتح الأرض لا لثروة التوسع والغلبة، ولكن لتنشرَ النور، وتنشر العدل، وتنشر الأمن، وتنشر القيم الرفيعة التي تحيا بها القلوب، وتتفتح بها الأبصار”[7].
 
تزوير التاريخ:
أحيانًا أرى بعيني وأسمع بأذني كيف يزوَّر التاريخ، وتُخفَى الحقيقة، ويخدع الناس!
 
فأقول: إن الأجيال المُقبِلة معذورةٌ عندما تضلُّ السبيل، وتتبع الأباطيل، ألا يطول عجب الإنسان عندما يسمع ساسةَ الغرب الكبار يقولون للعالم أجمع: نحن نرفض الإرهاب الدولي، وسوف نقاومه بكل سلاح!
 
يقولون ذلك للفدائيين الذين يدافعون عن أرضهم وعِرْضهم، والذين يقاومون بالسلاح التافه أفتكَ أسلحة العالم، والذين تلتفُّ حولهم مؤامرات الثعالب والذئاب وخيانات الأقارب والأباعد، فلا يلتقطون أنفاسهم إلا بشِقِّ النفس، هؤلاء العرب المدحورون يُوصَفون بأنهم إرهابيون! ومَن يصفهم بذلك؟! ساسة أوروبا وأمريكا، الذين صنعوا المأساة كلها، ولا يزالون يصنعونها، والذين استقدموا اليهود إلى فلسطين؛ لينبذوا أهلها بالعراء، ويحتلوا هم البيوت التي أقفرت من أصحابها، والذين يُصِرُّون على إمداد اليهود المُغِيرين بالسلاح؛ حتى يكونوا أقوى من الدول العربية كلها، ولو صارحوا بطواياهم لقالوا: حتى يكونوا أقوى من مسلمي العالم أجمع.
 
هؤلاء المدحورون المحرجون إرهابيون! أما قتلتهم ومغتصبو أرضهم، فهم مساكين يحتاجون إلى ضمانات مجلس الأمن، وحماية الدول الكبرى.. والصيحات التي تدوي كالرعد هنا وهناك؛ هي: قاوموا الإباء العربي الرافض للضياع، إنه إرهاب كريه، إنه إرهاب دولي! إن التضحية التي تقاوم الجزَّارين يجب أن تتكاتف ضدها سكاكين المعتدين[8]!
 
العصبية الأوربية: خصومة غير مشرفة:
عالمية الإسلام ليستْ موضع جدالٍ، وقد نهض السلف الأوَّل بواجبه في نقل الدين من الجزيرة العربية إلى ما وراءها من بر وبحر، وعَرَفت دولة الإسلام الأولى أنها أمةٌ ذات رسالة كبرى، فكرَّست قُوَاها المادية والأدبية لإبلاغها.. وأصحاب محمد – عليه الصلاة والسلام – كانوا امتدادًا لنوره وطهره، وشجاعته وجهاده! وقد زوَّدهم القرب منه بقدر هائل من الروحانية والتضحية، وطلب الآخرة، والترفع عن الدنيا ومغانمها، فلما اصطدموا بالضلال الجاثم على صدر الأرض من قرونٍ، استطاعوا فلَّ حدِّه، وكسرَ قيدِه، وإطلاق الجماهير العاتية تعبد ربها كيف تشاء.
 
وما كان في أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – مَن يقدر على هذه المهمة الصعبة! سيقول السفهاء مِن الناس: خرجوا من جزيرتهم مهاجمين، وما كان هذا يجوز!
 
ونقول: مَن الذين هاجمهم أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – في حياة محمد نفسه صلوات الله عليه؟ قاتلوا الرومان في مؤتة وتبوك، فمَن الذي جاء بالرومان إلى مؤتة وتبوك، وهي بلاد عربية؟

اقرأ أيضا  ندوة حول إسلامية القدس

إن الرومان أوربيون احتلوا سورية ومصر وغيرها، وبسطوا سطوتهم على شمالي الحجاز، فكيف يعتبر اجتياحهم لأراضي الآخرين دفاعًا، وإخراجهم من هذه الأراضي عدوانًا؟!
 
إن دراسة التاريخ بهذا التبجح دَيْدَن الأوروبيين، وهم الآن ماضون مع طبيعتِهم في عدِّ العرب الذين يقاتلون “إسرائيل” إرهابيين، مهاجمين، مُعتَدِين!
 
فإذا قلتَ لهم: إن هؤلاء العرب هم أصحاب الأرض، وسكَّان مُدُنها وقُرَاها من قرون سحيقة، وإن هؤلاء اليهود طارئون من أيام قَدِموا من بولندا، وروسيا، وإنجلترا، وأمريكا، ولا حقَّ لهم هنا، قالوا في تبجح: ولو..
 
أهناك شيءٌ غير القوَّة يمحو هذا الطاغوت؟
 
إن القتال الذي أعلنه أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – على الرومان والفرس، هو أشرف قتال سجَّله التاريخ، وهو وحده الذي أدَّب المتكبرين وأنقذ المستضعفين، وليت هذا القتال – ببواعثه ونتائجه – يتكرَّر في الدنيا، ليحقَّ الحق ويبطل الباطل، أيعني ذلك أن القتال وظيفة النبيين والحواريين، أو أنه حرفة أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – في العالمين؟ كلا بداهة؛ فقد شرح الله الغايةَ من رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – فقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وشرح عمل المسلمين بين الناس، أو النظام الذي يقيمونه، فقال: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
 
فالدولة الإسلامية تفعل الخير وتدعو إليه، وتعلم الحقيقة وتنشر أدلَّتها، وتأمر بالمعروف في الداخل والخارج، وتنهى عن المنكر كذلك، وهي مع السلام ضد العدوان، ومع العدل ضد الطغيان، ومع الإنسانية ضد الحيوانية، وعندما قاتلتْ كانت محكومة بقول الله لها: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].
 
والحروب الأولى في تاريخنا تمحَّضت لله ومَشَت في سبيله، وفوجئت الشعوب السجينة داخل المصيدة الرومانية بقومٍ اكتفوا بتقليم أظافر “الاستعمار” القديم، ثم ﴿ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41].
 
واختفى كيد الرومان، وسلبهم ونهبهم، وارتفع نداء “الله أكبر”؛ فعلم الناس أنهم أحرار، وأن الأرباب السابقين سقطوا… فشرعوا يدخلون في الإسلام أفواجًا أفواجًا، وإذا شمال إفريقية كلها – وعرب آسيا وشرقها، حتى الهند والصين – يتدفَّقون على الدين الجديد.
 
إن الفتوح العقلية والروحية، كانت آلقَ شعاعًا، وأقوى اندفاعًا من النجاح العسكري، وما فعله الأصحاب والأتباع اتَّسم بطابع الخلود؛ فالأقطار التي حرَّروها هي كهف الإسلام إلى اليوم، وهي التي تشتبك في كفاح ثقافي وسياسي، مع الاستعمار الجديد، ومع فداحة ما تحملت فهي ترجو الآخرة وترقب النصر الحاكم”[9].
 
والذي نلحظه أنه مع انصرام عهد الراشدين لم يُحسِن الحكام الرسميون في الأغلب العملَ للدعوة الإسلامية، ولم ينمُّوا أجهزتها، أو يلبُّوا مطالبها، وتركوا للكتل الشعبية أن تقوم هي بهذا العبء كله أو بعضه، وقد يعاونونها أو يهادنونها، أما أن يرسموا السياسة ويتابعوا التنفيذ، فلا!
 
إن قومًا يعترضون على الإسلام في جهاده، وينسون – مثلاً – أن الهنودَ قد يذبحون عشرات ومئات المسلمين، لو أن واحدًا منهم ذبح بقرة! هل يُجدِي مع هؤلاء إلا السيف؟
 
وهل نسيتم موقفَ أهل الكتاب المشحون بالبغضاء؟
إن كراهيتهم للإسلام ترشحُ من مَعِينٍ لا يَغِيض، وجمهرتهم تودُّ لو خُسِف بنا، وخَلَت الأرض منا، هؤلاء الصليبيون ما إن تمكنوا قديمًا من دخول “بيت المقدس” حتى ذبحوا سبعين ألف مسلم، وحديثًا احتموا بالجيش اليهودي، وقتلوا بأفحش الأساليب أربعةَ آلافٍ في مخيمات الفلسطينيين بصبرا وشاتيلا.
 
ولم تتحرَّر الجزائر من أرجاسِهم إلا بعد أن ضحَّت بمليون شهيد، كي تستعيدَ المساجد التي حوَّلها الفرنسيون إلى كنائس، وتستنقذ جيلاً من البشر سُرِقت عقائده ومعالمه جهرةً واغتيالاً.. ولقد اشترك “المعمرون” الفرنسيون، ورجال الشرطة والجيش في قتل قريب من أربعين ألف مسلم في أعقاب الحرب العالمية الثانية في مدينة “سطيف”؛ لأن الأهالي نادوا بالاستقلال، وأمَّلوا خيرًا في مواثيق هيئة الأمم، ثم جاء دور اليهود ليبيدوا شعبًا، وينشئوا على أنقاضه دولة لهم، تحت سمع المؤسسات العالمية وبصرها، وبين موافقتها ومعاونتها.
 
إن القرآن – في معرضِ التعجيب والإنكار – يتساءل: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 44- 45].
 
فما اللوم الذي يرادُ توجيهه لخلفاء ردُّوا الوحوش عن حماهم، أو كسروا شوكتَهم قبل أن يبدؤوا العدوان؟[10]

اقرأ أيضا  السعودية: سلام إسرائيل مرتبط بإقامة دولة فلسطينية

ــــــــــــــــــــــــ

[1] مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، ج 1 ص113 – 118، بتصرف، ط/ دار ثابت.
[2]
مع الله، دراسات في الدعوة والدعاة، محمد الغزالي ص 129، 130، دار الكتب الإسلامية، عام 1981.
[3]
نفس المصدر ص 254، 255.
[4]
نفس المرجع والصفحة.
[5]
نفس المرجع ص 358.
[6]
معركة المصحف في العالم الإسلامي (ص 152 – 156) بتصرف.
[7]
واقعنا المعاصر، محمد قطب، (ص 61 – 63) بتصرف.
[8]
الحق المر، الشيخ محمد الغزالي (ص50،51) بتصرف.
[9]
سر تأخر العرب والمسلمين، محمد الغزالي (ص 31 – 32) ط/ دار الصحوة، طبعة أولى سنة (1985م – 1405 هـ).
[10]
سر تأخر العرب ص 33، 34 بتصرف.

اقرأ أيضا  فلسطينيو سوريا: من مخيّم إلى مقبرة مخيّم آخر

ــــــــــــــــــــ

المصدر –  الألوكة

 

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.