الخوف من الله وأثره في حياة المسلم
الثلاثاء،20رجب 1435الموافق20 أيار/ماي2014 وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.
الشيخ علي بن عبدالرحمن الحذيفي
الخوف من الله وأثره في حياة المسلم
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبدالرحمن الحذيفي – حفظه الله – خطبة الجمعة بعنوان: “الخوف من الله وأثره في حياة المسلم“، والتي تحدَّث فيها عن الخوف من الله تعالى ووجوب التحلِّي به، وبيَّن الفرقَ بين ألفاظ: الخوف، والخشية، والرهبة، والهيبة، وذكرَ الأدلةَ من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح على أهمية وعِظم أثره.
الخطبة الأولى
الحمد لله العليِّ الأعلى، ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه: 6، 7]، أحمد ربي وأشكره على ما أعطَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماءُ الحُسنى، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المُصطفى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبه البَرَرَة الأتقِياء.
أما بعد:
فاتقوا الله – أيها المسلمون – حقَّ التقوى، واعلَموا أن اللهَ يعلمُ ما في أنفُسكم فاحذَرُوه، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5].
عباد الله:
إن أعمالَ القلوبِ أعظمُ شيٍ وأكبرُ شيءٍ؛ فثوابُها أعظمُ الثوابِ، وعِقابُها أعظمُ العِقاب، وأعمالُ الجوارِح تابِعةٌ لأعمال القلوب ومبنيَّةٌ عليها، ولهذا يُقال: “القلبُ ملكُ الأعضاء، وبقيَّةُ الأعضاءِ جُنودُه“.
عن أنسٍ – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه»؛ رواه أحمد.
ومعنى استِقامة القلبِ: توحيدُه لله تعالى وتعظيمُه، ومحبَّتُه وخوفُه ورجاؤُه، ومحبَّةُ طاعته وبُغضُ معصيتِه، وروى مُسلمٌ من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ لا ينظُرُ إلى صُورِكم وأموالِكم، ولكن ينظُرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم».
وقال الحسنُ لرجُلٍ: “داوِ قلبَك؛ فإن حاجةَ الله إلى العباد صلاحُ قلوبِهم“.
وإن من أعمال القلوبِ التي تبعثُ على الأعمال الصالحة، وتُرغِّبُ في الدارِ الآخرةِ، وتزجُرُ عن الأعمال السيِّئة، وتُزهِّدُ في الدُّنيا، وتكبَحُ جِماحَ النفس العاتِية: الخوفَ والرجاءَ.
فالخوفُ من الله تعالى سائِقٌ للقلبِ إلى فعلِ كلِّ خيرٍ، وحاجِزٌ له عن كلِّ شرٍّ، والرجاءُ قائِدٌ للعبدِ إلى مرضاةِ الله وثوابِه، وباعِثٌ للهِمَم إلى جليلِ الأعمال، وصارِفٌ له عن قَبيحِ الفِعال.
والخوفُ من الله تعالى مانِعٌ للنفس عن شهواتِها، وزاجِرٌ لها عن غيِّها، ودافِعٌ لها إلى ما فيه صلاحُها وفلاحُها.
والخوفُ من الله شُعبةٌ من شُعَب التوحيد، يجبُ أن يكون لربِّ العالمين، وصرفُ الخوفِ لغير الله تعالى شُعبةٌ من شُعب الشركِ بالله تعالى، وقد أمَرَ الله تعالى بالخوفِ منه – عز وجل -، ونهَى عن الخوفِ من غيرِه، فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]، وقال تعالى: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [المائدة: 44]، وقال تعالى: ﴿ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [البقرة: 40].
وعن أنسٍ – رضي الله عنه – قال: خطَبَنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: «لو تعلَمون ما أعلَم لضحِكتُم قليلاً، ولبَكَيتُم كثيرًا». فغطَّى أصحابُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وجوهَهم ولهم خَنين؛ رواه البخاري ومسلم.
والخوفُ يُرادُ به: انزِعاجُ القلبِ واضطِرابُه وتوقُّعُه عقوبةَ الله على فعلِ مُحرَّمٍ، أو تركِ واجبٍ، أو التقصيرِ في كمُستحَبٍّ، والإشفاقُ ألا يقبَلَ اللهُ العملَ الصالحَ؛ فتنزجِرُ النفسُ عن المُحرَّمات، وتُسارِعُ إلى الخيرات.
والخشيةُ والوَجَل والرَّهبةُ والهيبةُ ألفاظٌ مُتقاربةُ المعاني، وليست مُرادِفةً للخوف من كل وجهٍ؛ بل الخشيةُ أخصُّ من الخوفِ، فالخشيةُ خوفٌ من الله مع علمٍ بصِفاتِ الله – جل وعلا -، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، وفي “الصحيح” أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «أما إني أخشَاكُم لله وأتقَاكُم له».
والوَجَلُ: رَجَفانُ القلبِ، وانصِداعُه لذِكرِ من يخافُ سُلطانَه وعقوبَتَه. والرَّهبةُ: الهربُ من المكرُوه. والهَيبَةُ: خوفٌ يُقارِنُه تعظيمٌ وإجلالٌ.
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: “فالخوفُ لعامَّة المُؤمنين، والخشيةُ للعلماء العارِفين، والهيبَةُ للمُحبِّين، والإجلالُ للمُقرَّبين، وعلى قدرِ العلمِ والمعرفةِ يكونُ الخوفُ والخشيةُ من الله تعالى“.
وقد وعَدَ اللهُ من خافَ منه فحجَزَه خوفُه عن الشَّهوات، وساقَه إلى الطاعات، وعَدَه أفضلَ أنواع الثواب؛ فقال تعالى: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ﴾ [الرحمن: 46 – 48].
والأفنانُ: هي الأغصانُ الحسَنةُ النَّضِرَةُ.
قال عطاء: “كلُّ غُصنٍ يجمعُ فُنونًا من الفاكِهة“.
وقال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41]، وقال تعالى: ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾[الطور: 25- 28].
فأخبَرَ الله أن من خافَه نجَّاهُ من المَكروهات، وكفَاهُ ومنَّ عليه بحُسن العاقِبَة، وروى ابنُ أبي حاتم بسنَده عن عبد العزيز – يعني: ابنَ أبي روَّاد – قال: بلَغَني أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – تلا هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [التحريم: 6] وعنده بعضُ أصحابِه فيهم شيخٌ، فقال الشيخُ: يا رسول الله! حِجارةُ جهنَّم كحِجارة الدُّنيا؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لَصَخرةٌ من صخرِ جهنَّم أعظمُ من جِبالِ الدُّنيا كلِّها». قال: فوقعَ الشيخُ مغشيًّا عليه، فوضعَ النبي – صلى الله عليه وسلم – يدَه على فُؤادِه فإذا هو حيٌّ، فنادَاه قال: «يا شيخُ! قُل: لا إله إلا الله». فقالَها، فبشَّرَه النبي – صلى الله عليه وسلم – بالجنةِ.
فقال بعضُ أصحابِه: يا رسول الله! أمِن بينِنا؟ قال: «نعم، يقول الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [إبراهيم: 14]».
ولقد كان السَّلَفُ الصالحُ يغلِبُ عليهم الخوفُ من الله تعالى، ويُحسِنون العملَ، ويرجُونَ رحمةَ الله – عز وجل -، ولذلك صلُحَت أحوالُهم، وطابَ مآلُهم، وزكَتْ أعمالُهم.
وقد كان عمرُ – رضي الله عنه – يعُسُّ ليلاً، فسمِعَ رجلاً يقرأُ سُورةَ الطُّور، فنزلَ عن حمارِه واستنَدَ إلى حائطٍ، ومرِضَ شهرًا يعُودُونَه لا يدرُونَ ما مرضُه.
وقال أميرُ المؤمنين عليٌّ – رضي الله عنه – وقد سلَّم من صلاةِ الفجرِ وقد علاه كآبة، وهو يُقلِّبُ يدَه -: “لقد رأيتُ أصحابَ محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – فلم أرَ اليومَ شيءٌ يُشبِهُهم، لقد كانُوا يُصبِحون شُعثًا صُفرًا غُبرًا، بين أعيُنهم أمثالُ رُكَب المِعزَى، قد باتُوا لله سُجَّدًا وقِيامًا، يتلُون كتابَ الله، يُراوِحون بين جِباهِهم وأقدامِهم، فإذا أصبَحوا ذكَروا اللهَ فمادُوا كما يميدُ الشجرُ في يوم الرِّيح، وهمَلَت أعيُنُهم بالدموع حتى تبُلَّ ثيابَهم“.
ومرِضَ سُفيانُ الثوريُّ من الخوفِ. والأخبارُ في هذا تطُول. رضي الله عنهم.
والخوفُ المحمودُ هو الذي يحُثُّ على العمل الصالحِ، ويمنعُ من المُحرَّمات، فإذا زادَ الخوفُ عن القدرِ المحمودِ صارَ يأسًا وقنوطًا من رحمة لله، وذلك من الكبائِر.
قال ابنُ رجبٍ – رحمه الله تعالى -: “والقدرُ الواجبُ من الخوفِ: ما حمَلَ على أداءِ الفرائِض، واجتِنابِ المحارِم، فإن زادَ على ذلك بحيثُ صارَ باعِثًا للنفوس على التشميرِ في النوافِل والطاعات، والانكِفافِ عن دقائِق المَكروهات، والتبسُّط في فُضلِ المُباحات كان ذلك فضلاً محمودًا، فإذا تزايَدَ على ذلك بأن أورثَ مرضًا أو موتًا أو همًّا لازِمًا بحيث يقطعُ عن السعيِ لم يكُن محمودًا“.
وقال أبو حفصٍ: “الخوفُ سوطُ الله، يُقوِّمُ به الشارِدين عن بابِه”. وقال: “الخوفُ سِراجٌ في القلبِ“.
وقال أبو سُليمان: “ما فارقَ الخوفُ قلبًا إلا خرِبَ“.
فالمُسلمُ بين مخافَتَيْن: أمرٍ مضَى لا يدرِي ما اللهُ صانِعٌ فيه، وأمرٍ يأتي لا يدرِي ما اللهُ قاضٍ فيه.
وأما الرَّجاءُ: فهو الطمَعُ في ثوابِ الله على العملِ الصالحِ؛ فشرطُ الرَّجاءِ تقديمُ العمل الحسَن، والكفُّ عن المُحرَّمات أو التوبةُ منها، وأما تركُ الواجِبات، واتِّباعُ الشَّهَوات، والتمنِّي على الله ورجاؤُه؛ فذلك يكونُ أمنًا من مكرِ الله لا رجاءً، وقد قال تعالى: ﴿ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99].
وقد بيَّن الله تعالى أن الرجاءَ لا يكونُ إلا بعد تقديمِ العملِ الصالحِ، ولا يكونُ بدُونِه، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [فاطر: 29، 30]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218].
والرجاءُ عبادةٌ لا تُصرَفُ إلا لله تعالى؛ فمن علَّقَ رجاءَه بغير الله فقد أشركَ بالله، قال – عز وجل -: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
والرجاءُ وسيلةُ قُربَى إلى الله تعالى؛ فقد جاء في الحديث عن الله – تبارك وتعالى -: «أنا عند ظنِّ عبدي بي وأنا معه إذا ذكَرَني».
والواجبُ الجمعُ بين الخوفِ والرَّجاءِ، وأكملُ أحوال العبد محبَّةُ الله تعالى مع اعتِدال الخوفِ والرَّجاء، وهذه حالُ الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – والمؤمنين، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 90]، وقال تعالى: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 16].
فإذا علِمَ المُسلمُ شُمولَ رحمة الله وعظيمَ كرمِه وتجاوُزَه عن الذنوبِ العِظام، وسَعة جنَّته وجزيلَ ثوابِه؛ انبسَطَت نفسُه، واسترسَلَت في الرَّجاءِ والطَّمَع فيما عند الله من الخيرِ العظيمِ، وإذا علِمَ عظيمَ عقابِ الله وشدَّة بطشِه وأخذِه، وعسيرَ حِسابِه، وأهوالَ القيامة، وفظَاعَة النار، وهولَ المطلع، وأنواعَ العذاب في الآخرة؛ كفَّت نفسُه وانقمَعَت وحذِرَت وخافَت.
ولهذا جاء في حديثِ أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لو يعلمُ المؤمنُ ما عند الله من العقوبةِ ما طمِعَ بجنَّته أحد، ولو يعلمُ الكافِرُ ما عند الله من الرحمة ما قنَتَ من جنَّته»؛ رواه مسلم.
وقد جمعَ الله بين المغفرة والعذابِ كثيرًا؛ فقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الرعد: 6].
ونقَلَ الغزاليُّ – رحمه الله – عن مكحولٍ الدمشقيِّ قال: “من عبَدَ اللهَ بالخوفِ فهو حروريٌّ، ومن عبَدَ اللهَ بالرجاءِ فهو مُرجِئٌ، ومن عبَدَ الله بالمحبَّة فهو زِنديقٌ، ومن عبَدَه بالخوف والرَّجاء والمحبَّة فهو مُوحِّدٌ سُنِّيٌّ“.
وفي “مدارجِ السَّالِكين” للإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى -: “القلبُ في سيرِه إلى الله – عز وجل – بمنزلةِ الطائرِ؛ فالمحبَّةُ رأسُه، والخوفُ والرَّجاءُ جناحاه، فمتى سلِمَ الرأسُ والجناحان فالطائرُ جيِّدُ الطيران، ومتى قُطِع الرأسُ ماتَ الطائرُ، ومتى فُقِدَ الجناحان فهو عُرضَةٌ لكل صائدٍ وكاسِرٍ“.
ولكنَّ السَّلَف استحبُّوا أن يقوَى في الصحَّة جناحُ الخوف على جناح الرَّجاء وعند الخُروج من الدُّنيا يقوَى جناحُ الرَّجاء على جناحِ الخوف؛ فالمحبَّةُ هي المركَبُ، والرَّجاءُ حادٍ، والخوفُ سائِقُ، واللهُ – عز وجل – المُوصِلُ بمنِّه وكرامتِه، قال الله تعالى:﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49، 50].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والعِزَّة التي لا تُرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عزيزٌ ذو انتِقام، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثُ رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله – أيها المسلمون -، وارجُوا ثوابَه، واخشَوا عِقابَه، واسمَعوا قولَ الله تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 98].
وروى البخاري ومسلم من حديث النُّعمان بن بشير – رضي الله عنهما – قال: سمِعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن أهونَ الناس عذابًا يوم القِيامة رَجُلٌ يُوضَعُ في أخمص قدَمَيْه جمرتانِ يغلِي منهما دِماغُه، ما يرَى أن أحدًا أشدَّ عذابًا منه، وإنه لأهونُهم عذابًا».
وروى مسلم من حديث المُغيرة بن شُعبة – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «سألَ موسى – صلى الله عليه وسلم – ربَّه: ما أدنَى أهلِ الجنةِ منزلة؟ قال: هو رجلٌ يجِيءُ بعدما أُدخِل أهلُ الجنةِ الجنةَ، فيقال له: ادخُل الجنة. فيقول: أي ربِّ؛ كيف وقد نزلَ الناسُ منازِلَهم، وأخذَ الناسُ أخذَاتِهم؟ فيُقال له: أترضَى أن يكون لك مثلُ مُلكِ ملِكٍ من مُلوك الدنيا؟ فيقول: رضِيتُ ربِّ. فيقول: لك ذلك، ومِثلُه، ومِثلُه، ومِثلُه، ومِثلُه، فيقول في الخامِسة: رضيتُ ربِّ. فيقول: هذا لك وعشرةُ أمثالِه، ولك ما اشتهَت نفسُك ولذَّت عينُك، فيقول: رضيتُ ربِّ».
فالخوفُ من عذابِ الله، والرجاءُ في ثوابِه، وفي هذا العصر الذي غلَبَت فيه القسوةُ والغفلةُ وحبُّ الدنيا على القلوبِ، وتجرَّأَ أكثرُ العباد على الآثامِ والذنوبِ، ونسِيَ كثيرٌ منهم الدارَ الآخرةَ، واستهانُوا بعقوبات الله – تبارك وتعالى -.
في هذا العصر يُقوَّى جناحُ الخوفِ؛ لتستقيمَ النفوس، وتزكُو القلوب، وعند الانقِطاع من الدُّنيا يُغلَّبُ الرَّجاء، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا يمُت أحدُكم إلا وهو يُحسِنُ الظنَّ بربِّه».
فالخوفُ من الله يقتضِي القيامَ بحقوق الله تعالى، ويُبعِدُ المُسلمَ عن التقصير فيها، ويحجِزُ العبدَ عن ظُلم العباد والعُدوان عليهم، ويدفعُ إلى أداء الحُقوق لأصحابها وعدم تضييعها والتهاوُن بها، ويمنعُ المُسلمَ من الانسِياق وراء الشَّهوات والمُحرَّمات، ويجعلُه على حذرٍ من الدُّنيا وفِتَنها، وعلى شوقٍ إلى الآخرة ونعيمِها.
عباد الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلُّوا وسلِّموا على سيدِ الأولين والآخرين وإمام المُرسلين، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم صلِّ على سيِّدنا ونبيِّنا محمدٍ وعلى أزواجه وذريَّته إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصَّحْبِ أجمعين، اللهم وارضَ عن التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذِلَّ الكفرَ والكافرين يا رب العالمين، اللهم أذِلَّ الشركَ والمُشركين.
اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيّك يا رب العالمين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيّك يا قوي يا عزيز.
اللهم يسِّر أمرَ كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ، اللهم اشرَح صُدورَنا، ويسِّر أمورَنا يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لموتانا وموتى المُسلمين، اللهم نوِّر عليهم قبورَهم، اللهم ضاعِف حسناتِهم، وتجاوَز عن سيِّئاتِهم يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألُك أن تُغيثَنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا مُغيثًا، اللهم برحمتك يا أرحم الراحمين أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، واجعل فيه بركةً وخيرًا للمُسلمين يا رب العالمين، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم ولاةَ أمورنا.
اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، ولما فيه الخيرُ للإسلام والمُسلمين، وما فيه الخيرُ لشعبه ووطنه يا رب العالمين، اللهم ألبِسه ثوبَ الصحة إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم احفَظ بلادَنا من كل شرٍّ ومكروهٍ، واحفَظ بلادَ المُسلمين يا رب العالمين، اللهم الطُف بإخواننا المُسلمين في الشام، اللهم الطُف بإخواننا المُسلمين في الشام، اللهم هيِّئ لهم من أمرِهم رشَدًا يا رب العالمين، اللهم اكفِهم شِرارَهم يا رب العالمين، اللهم اكفِهم شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، اللهم احمِهم واحفَظهم من ظلم الظالمين واعتِداء المُعتدين، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم احفَظ الإسلامَ وأهلَه في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَنا يا رب العالمين ما ظهرَ منها وما بطَنَ، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم ادفَع عنا الغلا والوبا والرِّبا والزِّنا، والزلازِلَ والمِحَن، وسُوءَ الفِتَن ما ظهر منها وما بطَن.
عباد الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 90، 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
المصدر:الألوكة