التربة في القرآن الكريم

الأربعاء،21رجب 1435الموافق21 أيار/ماي2014 وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.

د. حسني حمدان الدسوقي حمامة

التربة في القرآن الكريم

﴿ فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج: 5]

قد يكون مستغربًا على الإنسان تصوُّر صعوبة، بل واستحالة الحياة على الأرض بدون عمليات التجوية، والتعرية، والنقل؛ وذلك لأن تلك العمليات هي المسؤولة عن جعل الأرض فراشًا، وتشكيل الكثير من معالم تضاريس الأرض، وتكوين التربة التي يخرج الإنسان منها غذائه من كافة الزروع والثمار؛ ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ *وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 32 -34].

 

ولو نظر الإنسان إلى ما يحرثه من الأرض لازداد عجبًا، فما من تربة يحرثها الإنسان في واد في صحراء، أو حول ضفاف، أو في دلتا نهر ما، إلا وكان وراء تكوينها عمليات غاية في التعقيد، ولو سأل سائلمن أين تأتي التربة التي يزرعها أهل مصر مثلاً؟ ومن أين تأتي حبات رمال بعض شواطئ شرق مصر؟

 

وللعلم فإنها قد أتت من تفتيت حجارة جبال الحبشة عبر ملايين السنين، بفعل مياه الأمطار والرياح وجاذبية الأرض، ثم قامت مياه نهر النيل بنقل فتات الجبال على هيئة حبات لمسافة آلاف الكيلومترات، حتى ترسبت على ضفاف نهر النيل، وكوَّنت أرض الدلتا، وحقيقة الأمر أن الإنسان لا يملِك مثقال حبة من تراب تلك الأرض، ولكن الله هو الذي سخر دورة الماء، ودورة الرياح، ودورة تكوين الجبال، ودورة التعرية، ودورات أخرى عديدة؛ بعضها من الأرض، وبعضها من خارج الأرض، دورات عديدة تمارس نشاطها بدأبٍ، وَفق سنن حددها رب العالمين؛ حتى تتكون التربة التي يحرثها ويزرعها الناس، وأكثرهم عن شكر نعمة الله غافلين.

 

والعجيب أن الإنسان يفتح عينيه فيرى الأرض مخضرة ولا يشكر الله، أو يلهو مستلقيًا على رمال شواطئ البحار في أيام الحر الشديد، وينسى شكر المنعم على نعمته التي أتى بها من مكان بعيد، وجعلها تحت أقدام الناس بلا حول ولا قوة منهم، ترى ما شكل الأرض لو لم يهيئ الله الأسباب التي تُفتت الصخور الصلبة في الجبال، وتنقل حبيباتها، وتُرسبها تربةً صالحة للحرث؛ هل كان بإمكان أهل مصر مثلاً أن يأتوا بها من جبال الحبشة أو غيرها من الجبال أو وديان الصحاري، وصدق الله العظيم حيث يقول تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: 63، 64]. أي: أخبروني عما تحرثون من الأرض؟! إنكم تحرثون التربة التي تلقون فيها البذور، فتنبت بإذن الله، فهلاَّ تفكَّرتم كيف تكوَّنت تلك التربة؟ إنها أديم الأرض الناتج من تجميع حطام صخور الجبال ومن تركيز المادة العضوية، ثم إن تلك التربة تمثِّل فراش الأرض، هلاَّ شكرتم؛ ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22].

اقرأ أيضا  حماس: وفاة 13 طفلا جوعا بغزة إخفاق للمجتمع الدولي والأمم المتحدة

 

هلاَّ شكرتم الله الذي فرش الأرض ومهدها؛ ﴿ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات: 48].

 

وفيما يلى بيان إشارة القرآن حول خلق التربة ومعطيات العلم الحديث، ونعطي للمرة الأولى تقسيم التربة العالمي من إشارات القرآن، ونوجزها في المعالجة العلمية التالية:

2- المعالجة العلمية:

أ- قطاع التربة: صفوان عليه تراب:

من الإعجاز العلمي في القرآن الإشارة إلى وصف التربة بألفاظ موجزة تفي بالمعنى، والإيجاز نجده في وصف التربة بالصفوان الذي عليه تراب، وأقرب المعاني العلمية لذلك الوصف هو قطاع التربة، فلا تربة بدون صفوان، ولا تربة بدون تراب، وفي القرآن الكريم يضرب الله مثلاً للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بالأرض الطيبة التي تحتل منطقة مرتفعة من الأرض؛ يخرج نباتها طيبًا حينما يصيبه المطر الغزير أو المطر الضعيف والندى، أما الذين ينفقون أموالهم رياءً للناس، مع عدم إيمانهم باليوم الآخر- فمثلهم كمثل حجر صلد ضخم، يعلوه تراب لا نبات عليه، وإذا أصاب الصفوان أو التراب أو كليهما معًا مطر شديد، انتقل التراب إلى مكان آخر، وترك الصفوان عاريًا، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة: 264 -265].

 

ومن روائع الإشارات الوصفية في القرآن أن نجد وصفًا كاملاً لقطاع التربة في المثلين السابقين، فالصفوان يشير إلى طبقة الصخر (Bed Rock) الذي ترتكز عليه التربة، والتراب يشير إلى التربة (Soil)، والتراب الذي يغطي الصفوان – خاصة بالربوة العالية – يشير إلى بقية قطاعات التربة، ومن بديع القرآن تشبيه إنفاق المنافقين بأفقر قطاعين في التربة، بينما يشبه إنفاق المحسنين بجنة بربوة قد اكتملت فيها جميع نطاقات التربة؛ ابتداءً من النطاق الأعلى “أو” (O Horizon)، ثم النطاق الذي يليه لأسفل “إيه” (A Horizon)، فالنطاق “بي” (B Horizon) أسفله، وأخيرًا النطاق “س” (C Horizon) الذي يمثل طبقة الصخر التي تعرضت للتكسير بفعل التجوية الذي يرتكز على الطبقة الصخرية أو الصفوان، ويتوافر وجود النطاقات الثلاثة العليا بتربة الروابي؛ حيث ينمو النطاق “أو” الغني بالمواد العضوية نظرًا لكثافة الغطاء النباتي في الربا، وفي تربة الروابي يتم تركيز المواد العضوية أيضًا في النطاق “إيه” بجانب تركيز الطين وأيونات التغذية التي تتسرب من النطاق “أو“.

 

أما النطاقان السفليان “سي”، والطبقة الصخرية، فيوجدان في جميع أنواع التربة واللذين عبر عنهما القرآن في قوله تعالى: ﴿ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ [البقرة: 264].

اقرأ أيضا  مسلمو الروهنغيا يتهمون زعيمة ميانمار بالكذب أمام محكمة العدل الدولية

 

ب- المفهوم العلمي للتربة:

يختلف تعريف التربة باختلاف تخصص الدارسين، ففي مجال الهندسة والإنشاءات، يطلق لفظ التربة على مادة الأرض المفتتة غير المتماسكة، وغالبًا ما يستخدم الجيولوجيون لفظ التربة للتعبير عن الطبقة التي أصابتها التجوية، فجعلتها مادة غير متماسكة ترتكز على الطبقة الصخرية، والتعريف الأخير هو الأقرب إلى الوصف القرآني: ﴿ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ [البقرة: 264]، أما علماء التربة، فإنهم يحصرون التعريف في الطبقات المجواة التي تتكون من مادة الأرض غير المتماسكة التي تحتوي على المادة العضوية والقابلة لأن تنبت، ويطلق مصطلح التربة القمة (Topsoil) على الجزء العلوي من التربة الأكثر خصوبة مقارنة بالتربة تحته.

 

(Subsoil) والتربة القمة هي أقرب في الوصف إلى المسمى القرآني: ﴿ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [البقرة: 265]، وما التربة النامية في حقيقتها سوى محصلة قرون من التجوية الكيميائية والفيزيائية قد التحمت مكوناتها مع النباتات المتحللة والمادة العضوية، وقد عبر القرآن عن ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف: 45].

 

وفي الواقع فإن التعبير عن التربة في القرآن بالتراب، تعبير أصاب كبد الحقيقة؛ حيث إنها تتكون من الوحل (الغرين والطين)، والرمل الناعم، وتلعب معادن الطين (Clay Minerals) والكوارتز الأدوار الرئيسية في نمو كلٍّ من التربة والنباتات، ويعمل معدن الكوارتز على الحفاظ على تفكُّك وتهوية التربة، الأمر الذي يسمح بتصريف الماء خلالها، وفي نفس الوقت تساعد معادن الطين على إمساك التربة للماء والمواد الغذائية اللازمة للنبات.

 

ت- الجرز أرض لا تنبت:

إذا كان علماء التربة قد وصفوا حديثًا ما يعرف بالأرض الصلدة (Hardpan)؛ فقد سبقهم القرآن في وصف الأرض الجرز في قوله تعالى: ﴿ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [الكهف: 40]، وفي قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [السجدة: 27]، والصعيد الزلق هو التراب الأملس أو كالجرز الذي لا ينبت شيئًا؛ كما قال ابن عباس، والأرض الجرز هي التي لا نبات فيها ولا نفع فيها؛ أي: أرض خراب.

 

والآن ماذا يقول العلم في الأرض السابقة؟ العلماء يعرفون نوعًا من التربة باسمهاردبان” (Hardpan)، ولم أجد ترجمة مناسبة سوى الأرض الجرز، والهاردبانمصطلح عام يطلق على طبقة تراب الأرض الصلبة التي يصعب الحرث أو الحفر فيها، ويوجد نوعان من تلك الأرض الجرز، وتتكون التربة في النوع الأول في المناطق الرطبة من معادن الطين والسيليكا، ومركبات الحديد، بينما تتكون تربة النوع الثاني والمعروفة بالكاليش” (Caliche)؛ حيث تتماسك حبيبات التربة بواسطة كربونات الكالسيوم وأملاح أخرى تترسب في التربة بعملية التبخير، وبناءً عليه يكون من الأنسب استخدام المصطلحات القرآنية؛ من مثل: الصعيد الزلق والأرض الجرز في وصف تلك الأ نواع من التربة.

اقرأ أيضا  حاجة الأمة إلى التفكير

 

ث-التربة المتبقية والتربة المنقولة: التربة نوعان: تربة متبقية، وتربة منقولة، والتربة المتبقية (Residual Soil) هي التي تنتج بفعل تجوية الصخور التي توجد تحتها مباشرة؛ مثل: التي تتكون في مناطق المناخ الرطب، وتمثل تلك التربة الحالة المثالية، وقد عبر القرآن عن تلك التربة في قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [البقرة: 265]، والتربة المنقولة هي التي لم تأت من مصدر محلي، ولكن أتت مادتها من مصدر بعيد عن منطقة وجودها؛ حيث انتقلت مادة التربة بفعل المياه الجارية والرياح وزحف الجليد، وتلك التربة نجد إشارة لها في القرآن في قوله تعالى: ﴿ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا [البقرة: 264].

 

ج- الطين الذي يربو (Clay mineral that swell):

معادن الطين من المعادن الشائعة على سطح الأرض، وبالرغم من أنها معادن عديدة، فإنها تشترك في أنها تتكون من صفائح السيليكات، كما أنه تختلف في طبيعة الأيونات التي تربط هذه الصفائح، وفي عدد الصفائح ذاتها، ويعتبر معدن المونتمور يللينيت (Montmorillinites) من معادن الطين المثيرة، ويعرف بالطين المنتفخ (Expansive Clay or Swelling Clay)، وعند إضافة الماء إليه، يحدث امتصاص لجزيئات الماء في الفراغات بين ألواح السيليكات، ويؤدي ذلك إلى زيادة الحجم؛ ليصل أحيانًا إلى مئات عديدة من مثل حجمه الأصلي، ويتولد عن الزيادة الكبيرة في حجم معدن الطين ضغط يمكن أن يصل إلى 50 ألف كيلومتر لكل متر مربع، ويكفي هذا الضغط لرفع المباني الكبيرة المقامة فوق القاعدة الطينية.

 

وتتصدع المنشآت المقامة على ذلك الطين المنتفش بفعل اختلاطه بالماء، وتحدث بها شروخ، ويعتقد البعض أن الدمار الذي يحدثه ذلك الطين المنتفش يفوق الدمار الذي تحدثه الزلازل والانزلاقات الأرضية، وعلى الجانب الآخر يمكن الاستفادة من الطين المنتفش بضخه مختلطًا بالماء في شقوق الأرض، فيملؤها عند حفر الأبار تلافيًا لحدوث الانهيارات الأرضية، أو بحقنه في الشقوق الأرضية التي تقام عليها سدود وخزانات المياه،والآن لنتدبر الحقائق المذهلة التي توصلت إليها علوم التربة، والتي عبر عنها القرآن بكلمات غاية في الدقة في قوله تعالى في وصف التربة﴿ فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج: 5].

المصدر:الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.