دسائس السوء.. وسوء الخاتمة
الإثنين14 شعبان1436//1 يونيو/حزيران 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د. خالد راتب
دكتواره في الشريعة
من حسنت بدايته حسنت نهايته، ومن طهرت سريرته حسنت خاتمته، وإن صلاح الظاهر نتيجة حتمية لصلاح الباطن، وصلاح العلانية نابع في أغلب أحيانه من صلاح السر، والقلب إما أن يكون كالصفا، ناصع البياض، مملوءا بالتقوى والإيمان، وصفات الخير، وإما أن يكون أسود، مملوءا بالكفر والنفاق وصفات الشر.. وإما أن يختلط فيه المادتان، مادة إيمان ومادة كفر أو عصيان.. وما يغلب على القلب يحكم له به، وقد يرى الإنسان طائعا مخبتا، وقلبه فاجر فاسد، قد دست فيه دسائس السوء الخفية من النفاق.
يقول ابن رجب: (ودسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة، وقد كان النبي ” صلى الله عليه وسلم” يكثر أن يقول في دعائه: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، فقيل له: يا نبي الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ فقال: «نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله – عزوجل – يقلبها كيف يشاء») (1).
ودسائس السوء موطنها القلب المريض أو الميت، وتظهر فضائح هذه الدسائس الخفية عند سكرات الموت، عندما يعجز صاحب الدسيسة السيئة أن يتلفظ بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، عندما تخرج روحه، وكأنها تخرج من سم الخياط، لا تفتح لها أبواب السماء، وما لها من شفيع ولا نصير، ويوم القيامة يبدو له من الله ما لم يحتسب، يقول صاحب مفاتيح الغيب: «ويوم القيامة تظهر الفضائح، ويظهر لمن خالف ظاهره باطنه، ما لم يكن يحتسب، قال تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر: 47)… أي ظهرت لهم أنواع من العقاب، لم تكن في حسابهم». وكما أنه ” صلى الله عليه وسلم” قال في صفة الثواب في الجنة: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، فكذلك في العقاب حصل مثله، وهو قوله: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر:47). (2)
وهذه الدسائس كالسرطان تدمر وتخرب ومن أخطر هذه الدسائس:
1- النفاق: كان الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم منه؛ لأن المؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب عليه عند الخاتمة، فيخرجه إلى النفاق الأكبر، لأن النفاق الأكبر من أسباب سوء الخاتمة (3). وقد ذكر عن عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” أنه قال لحذيفة “رضي الله عنه” : «نشدتك بالله هل سماني لك رسول الله ” صلى الله عليه وسلم” منهم؟» – يعني من المنافقين – قال: «لا، ولا أبرئ بعدك أحدا» (4). وقال عبد الله بن أبي مليكة: «أدركــت ثلاثين من أصحاب النبي ” صلى الله عليه وسلم” وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، وما منهم من أحد يقول: إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل (5).
فإذا كان الصحابة الذين حققوا الإيمان قولا وعملا، وشهد لهم الله ورسوله بذلك يخافون على أنفسهم من دسيسة النفاق، فكيف بغيرهم؟
2- المكر والخديعة: ومن دسائس السوء التي تؤذن بخاتمة السوء: المكر والخديعة، كما أن المكر والخديعة يسببان العقاب الدنيوي قبل الأخروي، قال تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} (النحل:45)، وقد قال ” صلى الله عليه وسلم” : «والمكر والخديعة في النار» (6). وعن أبي هريرة “رضي الله عنه” قال: قال رسول ” صلى الله عليه وسلم” : «المؤمن غر كريم (7)، والفاجر خب (8) لئيم» (9).
3- الكبر والعجب: الكبر والعجب مرضان خطيران، وهما سبب في البعد عن الله وتدبر آياته، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الأعراف:146). ويفهم من مفهوم المخالفة في الآية: أن المتواضع لله جل وعلا يرفعه الله. وقد أشار تعالى إلى مكانة المتواضعين له عنده في مواضع أخر، كقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان:63)، وقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ? وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (القصص:83).
وقد قال الشاعر:
تواضع تكن كالبدر تبصر وجهه .. على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه .. إلى صفحات الجو وهو وضيع
4- الحسد والحقد: الحاسد والحاقد يطعنان في الإيمان بالقضاء والقدر، والإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان، وإن مات الحاقد والحاسد على ذلك، فقد يختم لهما بسوء الخاتمة؛ لذا عد ابن القيم الحسد من أركان الكفر، حيث قال: «أركان الكفر أربعة: الكبر، والحسد، والغضب، والشهوة… فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فإنه يكره نعمة الله على عبده، وقد أحبها الله، وأحب زوالها عنه، والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره، ومحبته وكراهته، ولذلك كان إبليس عدوه حقيقة؛ لأن ذنبه كان عن كبر وحسد، فقلعُ هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده، والرضا به وعنه، والإنابة إليه…». (10)
الطريق الناجع لعلاج دسائس القلوب
1- معرفة الله – عزوجل – حق المعرفة واللجوء إليه، والاستعانة به في تحقيق العبودية الكاملة لله، قلبا وقالبا؛ لتكون حياتك كلها دائرة في فلك قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِي} (الفاتحة:5).
2- الإلحاح في الدعاء: كما يستعان على تطهير القلب من دسائسه بكثرة الإلحاح في الدعاء، بأن يثبت الله قلبك على الإيمان، وألا يزيغه عن طريق الهداية، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، فإذا أراد أن يقيم قلبا أقامه، وإذا أراد أن يزيغ قلبا أزاغه، وإن من زيغ القلب طلب الدنيا بالآخرة، وحب الرياسة والظهور، والتعالي على خلق الله.
3- عدم الاكتراث بالدنيا الفانية، فإنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فمهما أخذته من حطامها، وما حصلت عليه من مناصب ووجاهات، فما قدر كل ذلك من جناح البعوضة، ولو دامت الشهرة والمناصب لغيرك ما وصلت إليك، وأهل الكرامة والعزة من رفعه الله، لا الذي رفعته المناصب والدنيا.
4- الاهتمام بأعمال القلوب، فهي محل نظر الله، فإذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، قال تعالى: { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} (الشعراء 88- 89)، وقال ” صلى الله عليه وسلم” : «… ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (11).
5- مجاهدة النفس، حتى تهذب من دسائس القلب، والتي من جملتها الرغبة في الصدارة أو المنصب، وكذلك الطمع فيما في أيدي الناس، وحب الثناء أو المحمدة، وكذلك محاسبة النفس للوقوف على عيوبها، ثم التخلص من هذه العيوب.
6- معرفة أخبار أصحاب القلوب المريضة التي لم تخلص وجهتها إلى الله، ومعرفة سوء عاقبتهم. فإن ذلك مما يساعد على تجنب هذا الداء، أو هذه الآفة، لئلا تكون العاقبة كعاقبة هؤلاء.
7- الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الخلق مهما كانت قوتهم، ومهما كان سلطانهم، فإنهم عاجزون عن أن يجلبوا لأنفسهم نفعا، أو يدفعوا عنها ضرا، فضلا عن أن يملكوا هذا لغيرهم (12).
8- إخلاص السريرة والعمل على نقائها، يقول وهب بن منبه: «يا بني أخلص طاعة الله بسريرة ناصحة، يصدق الله فيها فعلك في العلانية،.. ولا تظنن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فإن مثل العلانية مع السريرة كمثل ورق الشجر مع عرقها: العلانية ورقها، والسريرة عرقها. إن نخر العرق هلكت الشجرة كلها، ورقها وعودها، وإن صلحت صلحت الشجرة كلها، ثمرها وورقها، فلا يزال ما ظهر من الشجرة في خير، ما كان عرقها مستخفيا، لا يرى منه شيء. كذلك الدين لايزال صالحا ما كان له سريرة صالحة، يصدق الله بها علانيته، فإن العلانية تنفع مع السريرة الصالحة، كما ينفع عرق الشجرة صلاح فرعها، وإن كان حياتها من قبل عرقها، فإن فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين، فإن العلانية معها تزين الدين وتجمله، إذا عملها مؤمن، لا يريد بها إلا رضاء ربه عز وجل» (13).
………………
الهوامش
1- انظر جامع العلوم والحكم، لابن رجب، ص 32، والحديث أخرجه أحمد، 3/112 و257، والترمذي (2140).
2- مفاتيح الغيب، 26/249.
3- جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 174، و172.
4- ذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، 5/19.
5- البخاري، كتاب الإِيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، معلقا مجزوما به، 1/ 21.
6- أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (1107)، والطبراني في «الصغير»، (ص 153) و«الكبير» أيضا كما في «المجمع» (4/79)، وأبونعيم في «الحلية» (4/188)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (ق 15/ 2)، وقال الهيثمي: «ورجاله ثقات وفي عاصم بن بهدلة كلام لسوء حفظه». قلت: والمتقرر فيه عند أهل العلم أنه حسن الحديث، يحتج به. لا سيما إذا وافق الثقات. ولهذا قال المنذري في «الترغيب» (3/ 22): «إسناده جيد».
7- غر كريم، أي: ليس بذي مكر، فهو ينخدع لانقياده ولينه (وهو ضد الخب)، يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة، وقلة الفطنة للشر، وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلا، ولكنه كرم وحسن خلق.
8- «خب»: بفتح الخاء. وقد يكسر، وهو الساعي بين الناس بالفساد، مظاهره خلاف باطنه، وباطنه ما ينفر الناس عنه. كذا في «الشرح». «لئيم»: خلاف الكريم.
9- أخرجه الترمذي، وقال الشيخ الألباني: حسن. انظر حديث رقم: 6653 في صحيح الجامع.
10- الفوائد، 1/158.
11- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، ومسلم، كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات.
12- آفات على الطريق الدكتور: السيد محمد نوح، 2/14.
13- حلية الأولياء، 4/70.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
– الوعي الإسلامي