بيع الأراضي والعقارات خيانة

د. أيمن أبو ناهية

قضية بيع الأراضي والعقارات الفلسطينية لليهود قديمة جديدة بدأت منذ أن وطئت أقدام اليهود أرض فلسطين في القرن التاسع عشر، ويعني هذا تهويدها بمجرد انتقالها إلى أيدٍ يهودية، حيث تركزت الدعاية الصهيونية في بداياتها على فكرة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، عادَّةً أنه لا يوجد شعب في فلسطين، وأن من حق اليهود الذي لا يملكون أرضًا أن تكون هذه الأرض لهم. لكنهم ومنذ بوادر الاستيطان الأولى وجدوها عامرة بالحيوية والنشاط يعيش فيها شعب كادح متجذر في أرضه.

ومن الطريف أن نذكر أنه في العقد الأخير من القرن التاسع عشر بعث ماركس نوردو أحد كبار قادة الحركة الصهيونية المقربين إلى هرتزل بحاخامين اثنين ليرفعا تقريرًا إلى المؤتمر الصهيوني عن الإمكانية العملية للهجرة إلى فلسطين، وبعد أن رجعا، كتبا تقريرًا جاء فيه: “إن فلسطين عروس جميلة وهي مستوفية لجميع الشروط، ولكنها متزوجة فعلًا”، أي أن هناك شعبًا يسكنها وليست كما يقولون “أرضًا بلا شعب”.

ورغم أن السلطان عبد الحميد والسلطات المركزية أصدرت تعليماتها بمقاومة الهجرة والاستيطان اليهودي، إلا أنَّ فساد الجهاز الإداري العثماني حال دون تنفيذها، واستطاع اليهود من خلال الرشاوى شراء الكثير من الأراضي، ثم إنَّ سيطرة حزب الاتحاد والترقي على الدولة العثمانية وإسقاطهم السلطان عبد الحميد 1909، والنفوذ اليهودي الكبير بداخله، قد سهل استملاك اليهود للأرض وهجرتهم لفلسطين.

ومع نهاية الدولة العثمانية 1918 كان اليهود قد حصلوا على حوالي 420 ألف دونم من أرض فلسطين اشتروها من ملاك إقطاعيين لبنانيين، أو من بعض المالكين الفلسطينيين. وقد غطت عمليات الشراء هذه نحو 93% من الأرض التي حصلوا عليها.

اقرأ أيضا  القدس.. إصابة 22 فلسطينيا أثناء هدم إسرائيل مبنى سكنيا

في الحقيقة أن معظم الأراضي التي تسربت لليهود كانت عن طريق منح حكومية بريطانية في عهد الانتداب لأراضي فلسطين الأميرية “أراضي الدولة”، أو عن طريق ملاك إقطاعيين كبار غير فلسطينيين كانوا يقيمون في الخارج، ومنعوا عمليًا ورسميًا من الدخول إلى هذه المنطقة (تحت الاحتلال البريطاني) لاستثمار أرضهم إن كانوا يرغبون بذلك فعلًا، رغم ذلك فلم تتجاوز 5.1% فقط من أرض فلسطين.

مرت عُقودٌ والمعركة مُستمرة، تُدبر المكائد وتُزور الوثائق وتُسلب الأراضي عنوة، استكمالا لمشروع سلب الأراضي الفلسطينية، تاريخًا وأرضًا وحضارة، وطمس آخر معلمٍ بها حتى تَفرَغ من سكانها، ليكتمل المخطط الاستيطاني.

سمسرة الأراضي الفلسطينية أشبه بحرب، لا ينام جنودها ولا تغفو عيونهم ولو لبرهةٍ، تخطيطات في أروقة الغرف المظلمة، تزوير وثائق وخرائط ومستندات، ضاربين بعرض الحائط قوانين تشريعية، دولية وإنسانية، لحاجة في نفوسهم وبهدف تحقيق مخططاتهم. أموال تغري النفوس الضعيفة، لا تكتمل حلقات السمسرة إلا عن طريق العُملاء والخونة.

يدور الحديث عن مجموعات إسرائيلية تعمل بالخفاء، تُدير معركة شرسة للسمسرة على الأراضي الفلسطينية القريبة من المستوطنات، بمساعدة دمى فلسطينية تُحركها كأحجار الشطرنج، منهم من يحمل الهوية الإسرائيلية التي مُنحت له تقديرًا لخدماته بعد أن ارتمى في أحضان الاحتلال. تعمل تلك المجموعات على نصب المكائد لأصحاب أراضٍ محددة سابقًا، ضمن مخطط استيطاني جديد، أو استكمالا له. ويزوّر عناصر من تلك المجموعات الاستيطانية الوثائق والمستندات، بأسماء عربية فلسطينية، بعد أن توزع المهام عليهم كل على حدة، منهم من وُكّل بمهمة جمع المعلومات عن الأراضي المستهدفة للسمسرة، ومنهم من أنيطت به مهمة البحث عن الحلقة الأضعف، في عائلة ما بعدما لبسها ثياب الفقر وضاقت عليها الحياة.

اقرأ أيضا  مشروعان طموحان لإقامة مسجدين تقدميين في باريس

وهناك من يدير العمليات الأكثر فسادًا، وهي تزوير الوثائق والمستندات وسلب الأرض من خلال تواقيع وحجج مزورة لا أساس لها.

وقد نشطت أخيرا حركة بيع عقارات ومنازل مقدسية للمستوطنين في القدس، كان آخرها بيع منزل وقطعة أرض في سلوان، باعها أصحابها المقيمون في الولايات المتحدة، وبعد هذه البيعة بأربع وعشرين ساعة كشف النقاب عن بيع عقار آل جودة، في عقبة درويش للمستوطنين.

وقد تبادل صاحب العقار أديب جودة، والفلسطيني الذي باعه إليه الاتهامات حول من المسؤول عن بيع العقار للمستوطنين.

فالفلسطيني الذي يقول جودة إنه باعه إليه، ومن ثم باعه للمستوطنين ينفي ذلك، ولكن جودة يعرض وثائق يقول إنها تؤكد بيعه لهذا الفلسطيني. أيًّا كان المتورطون في بيع هذا العقار للمستوطنين، فإن العقار قد آل إلى سيطرة المستوطنين عليه. وهنا تثار تساؤلات مشروعة: أولها أن هذا العقار المقدسي في موقع حساس ومطل على المسجد الأقصى، ليس جديدًا ملفه، بل هذا الملف يعود إلى ما قبل عامين. والحديث منذ عامين يدور عن أن هذا العقار في سبيل بيعه للمستوطنين، ولنسأل أنفسنا سؤال بسيط من منا لم يعرف هذا الأمر؟ وأين نحن من هذا التهويد المستمر لأرضنا ومقدساتنا؟!

وحتى لا يقال إنَّ الفلسطينيين هم الذين فرطوا في أرضهم وباعوها للصهاينة، يجب علينا التعلم من أسلافنا أمثال أحمد حلمي باشا الذي كان يرأس مؤسسات وطنية أسهمت في إيقاف بيع الأراضي، عن طريق “صندوق الأمة”؛ بشراء تلك الأراضي وتخليصها من الانتقال لأيدٍ صهيونية، كذلك الشيخ محمد طاهر الحسيني مفتي القدس سنة 1897 الذي ترأس هيئةً محلية ذات صلاحيات حكومية للتدقيق في طلبات نقل الملكية في متصرفية بيت المقدس، فحال دون انتقال أراض كثيرة لليهود. ولا ننسى دور الشيخ سليمان التاجي الفاروقي الذي أسس الحزب الوطني العثماني في سنة 1911 في التحذير من الخطر الصهيوني، وكذلك فعل يوسف الخالدي، وروحي الخالدي، وسعيد الحسيني ونجيب نصار.

اقرأ أيضا  البابا والسيستاني يبحثان تحديات الإنسانية ومعاناة الفلسطينيين

من جديد قام أبناء فلسطين خصوصًا في الثلاثينيات من القرن العشرين بجهود كبيرة في محاربة بيع الأراضي، وكان للمجلس الإسلامي الأعلى بقيادة الحاج أمين الحسيني، وعلماء فلسطين دور بارز. فقد أصدر مؤتمر علماء فلسطين الأول في 25 يناير 1935 فتوى بالإجماع تحرِّم بيع أي شبر من أراضي فلسطين لليهود، وتعدُّ البائع والسمسار والوسيط المستحل للبيع مارقين من الدين، خارجين من زمرة المسلمين، وحرمانهم من الدفن في مقابر المسلمين، ومقاطعتهم في كل شيء والتشهير بهم. وقام العلماء بحملة كبرى في جميع مدن وقرى فلسطين ضد بيع الأراضي لليهود، وعقدوا الكثير من الاجتماعات وأخذوا العهود والمواثيق على الجماهير بأن يتمسكوا بأرضهم، وأَلا يفرطوا بشيء منها. وقد تمكن العلماء من إنقاذ أراضٍ كثيرة كانت مهددة بالبيع، واشترى المجلس الإسلامي الأعلى قرى بأكملها مثل دير عمرو وزيتا، والأرض المشاع في قرى الطيبة وعتيل والطيرة، وأَوْقف البيع في حوالي ستين قرية من قرى يافا.

المصدر : فلسطين أون لاين

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.