تحقيق القول في مقام ومقال كلمة “الله المستعان”

الخميس-17 رمضان 1434 الموافق25 تموز/ يوليو.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

عبدالقادر محمد المهدي أبو سنيج 

طلب العون من الله أمرٌ لا ينفكُّ عن حال المسلم، ولا يجوز لمسلم أن ينفك عنه بحال من الأحوال.

 ونحن في كلِّ ركعة من صلاة الفريضة أو النافلة نقول: إياك نعبد وإياك نستعين، قال ابن القيم – رحمه الله -:

“﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ المتضمِّن معنى: لا نعبدُ إلا إيَّاك؛ حبًّا وخوفًا، ورجاءً وطاعةً وتعظيمًا؛ فـ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ تحقيقٌ لهذا التوحيد، وإبطال للشرك في الإلهية، كما أن ﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ تحقيقٌ لتوحيد الربوبية وإبطال للشرك به فيها”[1].

وقال في موضع آخر (1/ 95):

“وسر الخلق والأمر، والكتب والشرائع، والثواب والعقاب، انتهى إلى هاتين الكلمتين، وعليهما مدارُ العبودية والتوحيد، حتى قيل: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، جَمَع معانيها في التوراة، والإنجيل، والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع معاني القرآن في المفصَّل، وجمع معاني المفصَّل في الفاتحة، ومعاني الفاتحة في ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، وهما الكلمتان المقسومتانِ بين الربِّ وبين عبده نصفينِ؛ فنصفهما له – تعالى – وهو ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾، ونصفهما لعبده وهو ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾”. 

كلمة الله المستعان في القرآن:

﴿ وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].

وجاء عن الحسن، قال: لما جاء إخوةُ يوسفَ بقميصه إلى أبيهم، قال: جعل يقلِّبه فيقول: ما عهدتُ الذئب حليمًا؟ أكل ابني، وأبقى على قميصِه. 

وقوله ﴿ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ يقول: واللهَ أستعينُ على كفايتي شرَّ ما تصفون من الكذب.

وعن قتادة: ﴿ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾؛ أي: على ما تكذبون[2]

وقال البيضاوي: ﴿ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ على احتمال ما تصفونه من إهلاك يوسف”[3].

 

وقال أبو السعود: “﴿ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ﴾؛ أي: المطلوب منه العون وهو إنشاء منه – عليه السلام – للاستعانة المستمرة[4].

وقال السعدي:

“﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾؛ أي: أما أنا فوظيفتي سأحرص على القيام بها، وهي أني أصبر على هذه المحنة صبرًا جميلاً، سالمًا من السخط والتَّشكِّي إلى الخلق، وأستعينُ اللهَ على ذلك، لا على حَولي وقوّتي، فوعد من نفسه هذا الأمر، وشكا إلى خالقه، في قوله: ﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 86]؛ لأن الشكوى إلى الخالق لا تنافي الصبر الجميل، لأن النبي إذا وعد وفَّى”[5].

 

وقال الطاهر بن عاشور:

“وقوله: ﴿ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ عطفٌ على جملةِ ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾؛ فتكون محتمِلة للمعنيين المذكورين من إنشاء الاستعانة، أو الإخبار بحصول استعانته بالله على تحمّل الصبر على ذلك، أو أراد الاستعانة بالله ليوسف – عليه السلام – على الخلاص مما أحاط به.

 

والتعبير عما أصاب يوسف – عليه السلام – بـ ﴿ مَا تَصِفُونَ ﴾ في غايةِ البلاغة؛ لأنه كان واثقًا بأنهم كاذبون في الصفة، وواثقًا بأنهم ألحقوا بيوسف – عليه السلام – ضرًّا، فلما لم يتعيَّن عنده المصاب أَجْمَل التعبير عنه إجمالاً موجهًا؛ لأنهم يحسبون أن ما يصفونه هو موته بأكل الذئب إياه، ويعقوب – عليه السلام – يُرِيد أن ما يصفونه هو المصاب الواقع الذي وصفوه وصفا كاذبا”[6].

 

وقال الماتريدي:

“وقوله – عز وجل -: ﴿ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ… ﴾ الآيةَ؛ أي: وباللهِ أستعينُ على الصبر بما تصفون.

 

أو يقول: إني به أستعينُ على ما تقولون من الكذب حين تزعمون أن الذئب أكله ونحوه[7].

 

كلمة الله المستعان في السنة:

وردتْ كلمة الله المستعان في السنة في حديثين وفي بعض الآثار – حسب اطلاعي – وهي كما يلي:

1- عن أبي موسى – رضي الله عنه – قال: “كنتُ مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في حائطٍ من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((افتحْ له وبشِّره بالجنة))، ففتحتُ له، فإذا هو أبو بكر، فبشَّرتُه بما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – فحَمِد الله، ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((افتحْ له وبشِّره بالجنة))، ففتحتُ له، فإذا هو عمرُ، فأخبرته بما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – فحَمِد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي: ((افتحْ له، وبشِّره بالجنة على بلوى تُصِيبه))، فإذا عثمانُ، فأخبرته بما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فحَمِد الله، ثم قال: الله المستعان”؛ متفق عليه[8].

اقرأ أيضا  الإعجاز في أسلوب الرسول الكريم

2- عن قتادة بن النعمان، قال: كان أهلُ بيتٍ منَّا يقال لهم: بنو أُبَيْرِق بِشْرٌ وبُشَير ومُبَشِّر، وكان بُشَير رجلاً منافقًا يقول الشعرَ يهجو به أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم ينحلُه بعضَ العرب، ثم يقول: قال فلانٌ كذا وكذا، فإذا سَمِع أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذلك الشعرَ، قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيثُ، أو كما قال الرجل، وقالوا: ابن الأُبَيْرِق قالها، قال: وكانوا أهلَ بيتِ حاجةٍ وفاقةٍ، في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمرُ والشَّعِيرُ، وكان الرجل إذا كان له يَسَار فقَدِمَتْ ضَافِطَة من الشام من الدَّرْمَك، ابتاع الرجلُ منها فخصَّ بها نفسَه، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشَّعِير، فقَدِمَتْ ضَافِطَة من الشام فابتاع عمِّي رفاعةُ بن زيد حملاً من الدَّرْمَك فجعله في مَشْربَة له، وفي المَشْرُبَة سلاح ودِرْع وسيف، فعُدِي عليه من تحت البيت، فنُقِبَت المَشْرُبة، وأُخِذ الطعامُ والسلاح، فلما أصبح أتانِي عمِّي رفاعة، فقال: يا بن أخي، إنه قد عُدِي علينا في ليلتنا هذه، فنُقِبَت مَشْربَتنا فذُهِب بطعامِنا وسلاحِنا، قال: فتحسَّسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أُبَيْرِقٍ استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامِكم، قال: وكان بنو أُبَيْرِق قالوا – ونحن نسأل في الدار -: واللهِ ما نُرَى صاحبِكم إلا لَبِيد بن سَهْل، رجلٌ منا له صلاح وإسلام، فلما سَمِع لَبِيد اخترط سيفَه، وقال: أنا أسرقُ!! فواللهِ ليُخَالِطنَّكم هذا السيف، أو لتُبَيِّنُنَّ هذه السرقة، قالوا: إليكَ عنها أيها الرجل، فما أنت بصاحبِها، فسألنا في الدار حتى لم نشكَّ أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا بن أخي، لو أتيتَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -فذكرتَ ذلك له، قال قتادة: فأتيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلتُ: إن أهلَ بيتٍ منا أهلُ جفاءٍ، عَمَدوا إلى عمِّي رفاعة بن زيد فنَقَبوا مَشْرَبَة له، وأخذوا سلاحَه وطعامه، فليَرُدُّوا علينا سلاحَنا، فأما الطعام، فلا حاجة لنا فيه، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((سآمر في ذلك))، فلما سَمِع بنو أُبَيْرِقٍ أَتَوا رجلاً منهم يقال له: أُسَيْر بن عُرْوَة، فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك ناسٌ من أهل الدار، فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمَّه عَمَدا إلى أهلِ بيتٍ منا أهلِ إسلام وصلاح، يَرمُونهم بالسرقة من غير بيِّنة ولا ثبت، قال قتادة: فأتيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكلَّمته، فقال: ((عَمَدت إلى أهل بيتٍ ذُكِر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة؟))، قال: فرجعتُ، ولوَدِدتُ أني خرجتُ من بعضِ مالي ولم أكلِّم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ذلك، فأتانِي عمِّي رفاعة، فقال: يا بن أخي، ما صنعتَ؟ فأخبرتُه بما قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: الله المستعان، فلم يَلْبَث أن نزل القرآنُ: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105] بَنِي أُبَيْرِق ﴿ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ﴾ [النساء: 106]؛ أي: مما قلتَ لقتادة؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 106] ﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 106 – 110]؛ أي: لو استَغْفَروا الله لغَفَر لهم: ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾ [النساء: 111] إلى قوله: ﴿ وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 112]، قولَهم للَبِيد: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ﴾ [النساء: 113] إلى قوله: ﴿ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114]؛ فلما نزل القرآنُ أتى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بالسلاح فردَّه إلى رفاعة، فقال قتادة: لما أتيتُ عمِّي بالسلاح، وكان شيخًا قد عشا – أو عسا – في الجاهلية، وكنتُ أُرَى إسلامُه مدخولاً، فلما أتيتُه بالسلاح قال: يا بن أخي، هو في سبيلِ الله، فعرفتُ أن إسلامَه كان صحيحًا، فلما نزل القرآن لَحِق بُشَيْر بالمشركين، فنزل على سُلافة بنتِ سعد ابن سُمَيَّة، فأنزل الله: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 115، 116]، فلما نزل على سُلافة رَمَاها حسَّان بن ثابت بأبيات من شعرٍ، فأخذتْ رَحْلَه فوضعتْه على رأسها، ثم خرجتْ به فرَمَت به في الأَبْطَح، ثم قالتْ: أَهْدَيتَ لي شعرَ حسَّان؟ ما كنتَ تأتيني بخير”[9].

اقرأ أيضا  التحذير من اتباع الكفار

3- أخبرني محمد بن جعفر، أن أبا الحارث، حدَّثهم: أن أبا عبدالله قيل له: القراءةُ بالألحانِ والترنُّم عليه؟ قال: “بدعة”، قيل له: إنهم يجتمعون عليه ويسمعونه، قال: الله المستعان”[10].

4- أخبرنا أبو عبدالله الحافظ قال: سمعتُ أبا الحسين أحمد بن محمد بن إسماعيل يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعتُ أبا سليمان الداراني يقول: قد أكرمهم، وأذلَّهم من قبلِ أن يَخلُقَهم، وأسكنهم الجنة والنارَ من قبل أن يوفِّقهم لطاعته، ويبتلِيَهم بمعصيتِه؛ عدلاً منه وتفضلاً على أوليائه؛ فسبحانه من كريمٍ ما أكرمه! والعجبُ لِمَن وجده كيف تركه! والعجب لمن لم يجده كيف لا يطلبه؟ ثم قال: إن السَّحاب يَجْرِي بالرياح، وإن العباد إنما يَحزَنون بالتوفيق، وإن التوفيقَ على قدر القربة، والله المستعان”[11].

5- قال أحمد بن حنبل: الذي أرى إذا جاوزَ الختانُ الختانَ؛ فقد وجب الغسل، قيل له: قد كنت تقول غير هذا، فقال: ما أَعْلمُنِي قلتُ غير هذا قط، قيل له: قد بلغنا ذلك عنك، قال: الله المُستعان”[12].

 

فأنت ترى أن جملة “الله المستعان” وردتْ في القرآن والسنة وأقوال سلفِنا في مقامين وحالتين؛ هما:

1- حالة “الكذب المحض”؛ كما في قصة سيدنا يعقوب – عليه السلام – وكما في حادثة سَرِقة الدرع، وكما في أثر الإمام أحمد، وكما في أمر الابتداع – وهو أشد الكذب والافتراء – في قراءة القرآن وتلحينه.

 

2- والحال الثانية “عند نزول أمر شديد” يحتاج للصبر؛ كما في حديث عثمان وبشراه بالسعادة والجنة على البلوى التي أصابتْه، وكما في محنة سيدنا يعقوب في ولده يوسف – عليهما السلام.

 

• وهنا لنا وقفات:

الأولى: سلفنا الصالح من أئمة الحديث استخدموا هذه الكلمة في الدلالة على كذب الراوي؛ ما يدلُّ على جرحه؛ جاء في كتاب “فهرس مصطلحات كتاب (شفاء العليل) لأبي الحسن المأربي (ص5)”: “الله المستعان على ذلك [يعني تحديث بعضهم عن راوٍ كذَّاب]”، وفي (ص46): “روى عنه فلان وفلان، الله المستعان على أخباره”.

وجاء في موسوعة أقوال الإمام أحمد في الجرح والتعديل:

“وقال أبو طالب: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: كان أبو البختري يضع الحديث وضعًا فيما يروي، وأشياء لم يَرْوِها أحدٌ، قلت: الذي كان قاضيًا؟ قال: نعم، وكنت عند أبي عبدالله، وجاءه رجلٌ فسلَّم عليه، وقال: أنا من أهل المدينة، وقال: يا أبا عبدالله، كيف كان حديث أبي البختري، فقال: كان كذَّابًا يضع الحديث، فقال: أنا ابن عمِّه لحًا، قال أبو عبد الله: الله المستعان، ولكن ليس في الحديث محاباة”[13].

وقال الدكتور قاسم علي سعد:

“استعمل الذهبي هذه اللفظة في طبقةٍ أخفَّ سوءًا من هذه [يعني مرتبة لفظة كذَّاب ونحوها من الألفاظ]، لكنها لا تخرج عنده عن كونِ صاحبها لا يُكتَب حديثُه اعتبارًا”، قلت: فهو عنده متروك أيضًا”[14].

 

وبالجملة فكلمة “الله المستعان” كلمةٌ الأصلُ فيها أن تكونَ إشارةً إلى كذبِ الراوي أو سقوطه بتلاعبه، أو فحش تساهله، أو قبح تدليسه، أو غلوّه في بدعته، أو نحو ذلك من الأمور المقتضية لتركه”[15].

 

الثانية: لكل مقامٍ مقالٌ، وهذا من البلاغة والفصاحة؛ فقد صار الناس يستخدمون هذه الكلمة في كلِّ أمر متظاهرين بالصلاح في ذكرها، والأولَى أن تستخدم في موضعِها عند نزول المصيبة، أو عند الكذب، والزور، والافتراء، وعدم مطابقة الخبر للواقع، وهذا ما جاء به القرآن، وورد في سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو لم يَقُلْها، وما فعلَه أصحابُه وأتباعه من سلفنا الصالح – رضي الله عنه.

الثالثة: المعلوم من حال النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يجعل لكلِّ موقفٍ دعاءً يخصه، والدعاء الوارد في القرآن والسنة تناسب كل أحوال الناس، ومن الاعتداء التجاوز، قال السعدي: ﴿ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأعراف: 55]؛ أي: المتجاوزين للحدِّ في كل الأمور، ومن الاعتداء كونُ العبد يسأل الله مسائل لا تصلح له، أو يتنطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه”[16].

اقرأ أيضا  الاجتماع ونبذ الفرقة

 

قال ابن كثير:

“قال الإمام أحمد بن حنبل – رضي الله عنه -: حدَّثنا عبدالرحمن بن مهدي، حدَّثنا شُعْبة، عن زياد بن مِخْرَاق، سمعت أبا نَعَامة، عن مولًى لسعدٍ، أن سعدًا سَمِع ابنًا له يدعو، وهو يقول: اللهم، إني أسألُك الجنة ونعيمَها وإستبرقَها ونحوًا من هذا، وأعوذُ بك من النار وسلاسِلها وأغلالِها، فقال: لقد سألتَ الله خيرًا كثيرًا، وتعوَّذت بالله من شرٍّ كثير، وإني سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إنه سيكون قومٌ يَعتَدُون في الدعاء))، وقرأ هذه الآية: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأعراف: 55]، وإن بحسبِك أن تقول: ((اللهم، إني أسألُك الجنة وما قرَّب إليها من قول أو عمل، وأعوذُ بك من النار وما قرَّب إليها من قول أو عمل))؛ ورواه أبو داود”[17].

 

لكن إن كان استخدام هذه الكلمة لكثرةِ ما في أيامِنا من افتراء وكذب، وزور وبهتان، ولكثرة الاتهامات التي يُرمَى بها الإسلام وكتابُه ونبيُّه – صلى الله عليه وسلم – وكلُّ مَن ينتسب لهذا الدين كما جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إنها ستأتي على الناس سنونَ خدَّاعة؛ يصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتَمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبِضة))، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((السَّفيه يتكلَّم في أمر العامَّة))[18]

فهنا نَلهَج بها استعانةً ولجوءًا إلى الله، وطمعًا فيما عنده؛ فالله المستعان وحده.

 

﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182]، والله المستعان، وعليه التكلان, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, والحمد لله أولاً وآخرًا, وظاهرًا وباطنًا، وصلَّى الله وسلَّم على سيدنا محمد، وآله، وصحبه، وتابعيهم بإحسان, واجعلنا منهم، آمين.


[1] مدارج السالكين (1/ 86)

[2] تفسير الطبري (15/ 581/ 584 / 586)

[3] تفسير البيضاوي (3/ 158)

[4] تفسير أبي السعود (4/ 260)

[5] تفسير السعدي (ص: 395)

[6] التحرير والتنوير (12/ 240).

[7] تأويلات أهل السنة (6/ 219)

[8] رواه البخاري (13/42) في الفتن، باب الفتنة تموج كالبحر، وفي فضائل أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنتُ متخذًا خليلاً))، وباب مناقب عمر بن الخطاب، وباب مناقب عثمان، وفي الأدب، باب نكت العود في الماء والطين، ومسلم رقم (2403) في فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان بن عفان – رضي الله عنه – والترمذي رقم (3711) في المناقب، باب رقم (61)

[9] سنن الترمذي رقم (3036) في التفسير، باب ومن سورة النساء، وأخرجه الطبري رقم (10411)، والحاكم في “المستدرك” (4/385)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وأقرَّه الذهبي، نقول: وفي سنده عمرُ بن قتادة الظفري الأنصاري، لم يوثِّقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات.

[10] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال (ص: 74)

[11] شعب الإيمان (1/516).

[12] منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث (2/927)

[13] موسوعة أقوال الإمام أحمد في الجرح والتعديل (9/210)

[14] مباحث في علم الجرح والتعديل (ص95)

[15] لسان المحدثين (معجم مصطلحات المحدثين)، وهو(مُعجم يُعنَى بشرح مصطلحات المحدثين القديمة والحديثة ورموزهم وإشاراتهم، وشرحِ جملة من مشكل عباراتهم وغريب تراكيبهم ونادر أساليبهم)؛ لمحمد خلف سلامة (2/1).

[16] تيسير الكريم الرحمن (ص: 291)

[17] تفسير ابن كثير (3/ 428)

[18] مسند أحمد (13/ 291)

المصدر : الألوكة

 

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.