كم هي بائسة مكة يا رابعة!
الجمعة-09شوال 1434 الموافق16 آب/ أغسطس.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
عبد الرحمن الدويري
رمضان هذا العام كان مختلفا بكل المقاييس، لم تَعد فيه مكة مهوى الأفئدة، ولا قبلة المشتاقين السّاعين لإشراق الروح، وسكون النفس، وتعميق اليقين.
لقد خطفت رابعة العدوية الأبصار، وأسرت القلوب، وملأت الحواس، وشغلت البال، وأشبعت النفوس، ووجدت الأرواح فيها إشراقها، وذاقت فيها معاني العزة بالإسلام.
ليس هذا غريبا فمكة هذه المرة مختلفة، مكة حزينة، ولأول مرة تظهر مأساتها بهذا الوضوح، تلفّها المرارة، هي أسيرة مقيدة، محبوسة على نمطيَّتها، مُحاصرة في مساحة تعبيرها، مُراقبة في تَرديد أنفاسها، يُملى عليها ما تقول، وتَقف عند النقطة المنقوطة لها آخر السطر، وتَبكي في بله، وتَصمتُ في وقت وجوب الكلام، وإن تكلّمت، فبحدود القُصاصة المدفوعة بين يديها!
كم هي بائسة مكة، وفيها يُبنَى حرمُها، وتُهدَم حُرماتُه، ويُرعي المحرمون المغمضون عيونَهم، ويُتآمرُ على المحرمين الذين قرروا أن يفتحوا عيونهم في فضاء الحق والحرية، وفيها يُطعَم الزائرون الصامتون، ويُجاع المجاهدون الناطقون، حتى يسقطوا، فلما سقطوا فاضت بخيرها على من أسقطوهم، وخانوهم بعقيدتهم!
كم هي بائسة وفيها مَن يُمثّل، ويلعب الأدوار، ويَمسح باليد أمام الستار على رأس اليتيم، ويصافح من خلف الستار قَتَلتَهم، ويكافئهم على جريمتهم، وهم أعداء دين، ومندوبي مستعمر، ونواب شياطين!
كم هي فارغة تلك القلوب المترفة، وهي تَحتشد في ساحات الحرم لتلبي شهوة الاحتشاد والسياحة، إذا ما قورنت بتلك القلوب المعمورة بروح الحرم، وهي مصابرة صائمة قائمة في ميادين صراع الأمة مع أعدائها تصنع تاريخها، وتخوض معركتها وملحمتها الكبرى، مع الأوباش وصنائع الكفر والإلحاد!
كم أنت عظيمة يا رابعة، وأنت تُعيدين إرسال برقية ابن المبارك للعاكفين على ترف العبادة وخدعة البكاء المخبت في مكة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ
مَن كان يخضب خده بدموعه
فصدورنا بدمائنا تتخضّبُ
كم هي خاوية وخائبة تلك القلوب المقيمة على روتين العبادة، الخاوية من معاني التحرر الحقيقي، المقفرة من الغيرة على حرمات الله، الكاسلة عن النفير الصادق؛ لنصرة الحق في ميادين التدافع والمغالبة، القانعة بالبناء المظهري لشعائر الإسلام، والقابلة بانهدامه الفعلي في واقع الحياة ودنيا الناس:
في كل وقت للمسافر جدّة
ومنازل القلب المقيم خوالِ
شتان شتان بين القلب المقيم على المهانة، ووهم العبادة، وبين القلب المقيم على العزة، وحقيقة المواجهة!
شتان بين عابد وعابد، وبين ساجد وساجد، واهتمام واهتمام!
الفرق شاسع بين آه المكلوم الثاكل، وآه المواسي المؤانس، بين سجدة المجاهد، وسجدة القاعد، بين حومة النسور الجائفة، وحومة الصقور والشواهين الصائدة!
وقد لخّصها محمد إقبال في كلمات للقلوب اللمّاحة:
كلماتُنا، مع أنّها لم تَختلفْ لا في مَعانيها، ولا في لفظِها
في سجدةِ الجُندي نلمحُ غبطةً
ليستْ كسجدةِ ناسكٍ في وعظِها
هو مسلمٌ، لكن، وهذا مُسلمٌ
ما زاد عن قرآنِه، قرآنُهُ
للنسرِ كالشاهين جوٌّ واحد
لكن لكلٍّ منهما طيرانُهُ
لم تكن مكة هذا العام محج العقول والقلوب، لقد شَدَّتْ قلوبُ المخلصين رحالَها إلى رابعة، حتى مِن أهل مكة نفسها، ومن علمائها المخلصين، لقد وجدوا في رابعة الحقيقة، وانكشف لهم فيها السر، وظهر المخبوء، وسقطت السُّتور المرخاة عن سوأة التآمر، وتمايزت الصفوف، وعلم القاصي والداني مَن هم الذين يحملون أمانة الإسلام، ويذودون عن حماه، ويخوضون معركته، ومَن هم الذين يتاجرون بقبر أحمد صلى الله عليه وسلم، ووشاح فاطمة، ويعقدون صفقتهم جهارا مع أعداء الله ورسوله!
يا مكة تقول لك رابعة: ليس كل مَن تلا فهم، ولا كُلُّ مَن صلّى خشع، ولا كل مَن عبد أخلص، ولا كُلُّ مَن قال بلّغ، ولا كُلُّ مَن ادّعى صدق، وما كل مَن اشتكى بمريض.
لك الله يا رابعة، وأنت تُعيدين ضبط إيقاع المعادلة، وتُصحِّحين الفهم:
إنّما يشتكي النيرانَ مِن القلب الدّنِف
وشــــــــــــــكاةٌ مِن شـــــــــــــكاةٍ تختلف
المصدر : السبيل