صلاح الدين وفتح بيت المقدس

الثلاثاء-12 ذوالقعدة 1434 الموافق 17 أيلول / سبتمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

فتحي حمادة 

فتح بيت المقدس في هذه السنة، واستنقاذه من أيدي النصارى، بعد أن استحوذوا عليه مدة ثنتين وتسعين سنة.

فتح بيت المقدس:

لما افتتح السلطانُ تلك الأماكن – المذكورة فيما تقدَّم – أمر العساكر فاجتمعتْ، ثم سار نحو بيت المقدس، فنزل غربيَّ المقدس في الخامس عشر من رجب من هذه السنة – سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة – فوجد البلد قد حصِّنت غاية التحصين، وكانوا ستين ألف مقاتل – دون بيت المقدس – أو يزيدون، وكان صاحب القدس يومئذٍ رجلاً يقال له بالبان بن بازران، ومعه مَن سَلِم من وقعة حطِّين يوم التقى الجمعان من الداوية والإسبتارية أتباع الشيطان وعَبَدة الصلبان، فأقام السلطان بمنزلِه المذكور خمسة أيام، وسلم إلى كل طائفة من الجيش ناحية من السور وأبراجه، ثم تحول السلطان إلى ناحية الشام؛ لأنه رآها أوسع للمجال والجلاد والنزال، وقاتل الفرنج دون البلد قتالاً هائلاً، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في نصرة دينهم وقمامتهم.

واستشهد في الحصار بعض أمراء المسلمين، فحنق عند ذلك كثير من الأمراء والصالحين، واجتهدوا في القتال، ونصب المجانيق والعرادات على البلد، وغنَّت السيوف وَعُمِلت السمهريات، والعيون تنظر إلى الصلبان منصوبة فوق الجدران، وفوق قبة الصخرة صليب كبير، فزاد ذلك أهل الإيمان الحنق الكثير وشدة التشمير، وكان ذلك يومًا عسيرًا، على الكافرين غير يسير، فبادر السلطان بأصحابه إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور، فنقبها، وعلقها، وحشاها بالنيران وأحرقها، فسقط ذلك الجانب وخرَّ البرج برمَّته فإذا هو واجب، فلما شاهد الفرنج ذلك الحادث الفظيعَ، والخطب المؤلم الوجيع، قصد أكابرُهم السلطانَ صلاح الدين، وتشفعوا إليه أن يعطيهم الأمان، فامتنع من ذلك، وقال: لا أفتحها إلا عَنوة كما افتتحتموها أنتم عَنوة، ولا أترك بها أحدًا من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم مَن كان بها من المسلمين، فطلب صاحبها بالبان بن بازران الأمان ليحضر عنده فأمَّنه، فلما حضر ترقَّق للسلطان، وذل ذلاًّ عظيمًا، وتشفَّع إليه بكل ما أمكنه، فلم يُجِبه إلى الأمان لهم، فقالوا: إن لم تعطنا الأمان رجعنا فقتلنا كل أسير بأيدينا، وكانوا قريبًا من أربعة آلاف، وقتلنا ذرارينا وأولادنا ونساءنا، وخربنا الدُّور والأماكن الحسنة، وأحرقنا المتاع، وأتلفنا ما بأيدينا من الأموال، وهدمنا قبة الصخرة، وحرقنا ما نقدر عليه، ولا نبقي ممكنًا في إتلاف ما نقدر عليه، وبعد ذلك نخرج فنقاتل قتال الموت، ولا خير في حياتنا بعد ذلك، فلا يقتل واحد منا حتى يقتل أعدادًا منكم، فماذا ترتجي بعد هذا من الخير؟!

اقرأ أيضا  جامعة أمريكية تصنّف القرآن الكريم كأفضل كتاب للعدالة

شروط الصلح:

لما سمع السلطان ما قاله بالبان بن بازران حاكم القدس، وافق على الصلح وأناب، على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن كل صغير وصغيرة دينارين، ومَن عجز عن ذلك كان أسيرًا للمسلمين، وأن تكون الغلات والأسلحة والدُّور للمسلمين، وأنهم يتحوَّلون منها إلى مأمنهم، وهي مدينة صور، فكتب الصلح بذلك، وأن مَن لم يبذل ما شرط عليه إلى أربعين يومًا، فهو أسير، فكان جملة مَن أسر بهذا الشرط ستة عشر ألف أسير من رجال ونساء وولدان.

ودخل السلطان والمسلمون البلد يوم الجمعة قبل وقت الصلاة بقليل، وذلك يوم السابع والعشرين من رجب، ولم يتَّفق للمسلمين صلاة الجمعة يومئذٍ؛ خلافًا لمن زعم أنها أقيمت يومئذٍ، وأن السلطان خطب بنفسه بالسواد، والصحيح أن الجمعة لم يتمكنوا من إقامتها يومئذٍ؛ لضيق الوقت، وإنما أُقِيمت في الجمعة المقبلة، وكان الخطيب محيي الدين بن محمد بن علي القرشي بن الزكي، ولكن نظفوا المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وخربت دُور الداوية، وكانوا قد بنوها غربيَّ المحراب الكبير، واتخذوا المحراب حشًّا – لعنهم الله – فنظِّف من ذلك كله، وأُعِيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية، وغُسِلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، ووُضِع الصليب عن قبَّتها، وعادت إلى حرمتها، وقد كان الفرنج قلعوا منها قطعًا فباعوها من أهل البحور الجوانية بزنتِها ذهبًا، فتعذَّر استعادة ما قطع منها، ثم قبض من الفرنج ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال.

اقرأ أيضا  مندوب فلسطين بالأمم المتحدة يطالب بضمانات دولية لمنع تكرار الاستفزازات الاسرائيلية في الأقصى

وأطلق السلطان صلاح الدين خلقًا، منهم بنات الملوك، بمَن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئًا مما يقتني ويدخر، وكان – رحمه الله – حليمًا، كريمًا، مقدامًا، شجاعًا، رحيمًا.

وكان أول جمعة أُقِيمت في اليوم الرابع من شعبان، بعد يوم الفتح بثمان، فنصب المنبر إلى جانب المحراب، وبسطت البسط، وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وجاء الحق، وبطلت الأباطيل، وصُفَّت السجادات، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذَّن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البوس، وطابت النفوس، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس، وعُبِد اللهُ الأحد الصمد، الذي لم يَلِد ولم يُولَد، ولم يكن له كفوًا أحد، وكبَّره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع، ولما أذَّن المؤذنون للصلاة قبل الزوال، كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، ولم يكن عيَّن السلطان خطيبًا، فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي – وهو في قبَّة الصخرة – أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيبًا، فلبس الخلعة السوداء، وخطب للناس خطبة سنية، فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف البيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات، وما فيه من الدلائل والأمارات

اقرأ أيضا  حوار مع د. محسن صالح عن القضية الفلسطينية: واقعها ومآلاتها

المصدر : الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.