ماذا بعد الحج؟
الأحد – 16 ذوالقعدة 1434 الموافق 22 أيلول / سبتمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
إنَّ الله – تعالى – امتنَّ على هذه الأمَّة فأعطاها تَوجِيهات في أعقاب كلِّ فريضةٍ؛ لكي يستَقِيموا إلى ربهم، ويتطهَّروا من ذنوبهم، ويَنصُروا دينَهم، ويستمرُّوا في طريق إيمانهم الذي رسمه الله لهم؛ ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
افتَخِر بإسلامك:
عندما يَتفاخَر الناس بالأنساب، ويتنابَذُوا بالألقاب، ويَتذاكَروا بالأحساب، فإنَّ الله – عزَّ وجلَّ – يُوجِّههم إلى غير ذلك، وهذا ما حدَث في أعقاب فريضة الحج؛ عندما فرَغ الناس من أعمال الحج تَفاخَروا بأنسابهم وألقابهم؛ هذا يقول: أنا ابن فلان، وهذا يقول: أنا من قبيلة فلان، وهذا يقول: عشيرتي فلان، وهذا ما يمقتُه الدِّين ويبغَضُه الإيمان، يجب أنْ يَتفاخَر الناس بإسلامهم، ويَتذاكَرُوا بعقيدتهم، رَحِم الله من قال:
أَبِي الإِسْلاَمُ لاَ أَبَ لِي سِوَاهُ إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمِ |
وصدَق الله العظيم: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، والعبد الذاكر لربِّه، المسبِّح بحمده، المتوجِّه إليه، المتوكِّل عليه – يكون عند ربِّه مذكورًا، ويكون سعيُه مشكورًا، ويكون عملُه مبرورًا، وكلَّما زاد في ذِكرِه زاد الله في أجره، وشدَّ من أزره، وكان إليه بكلِّ خيرٍ أسرع، كيف؟ قال الله – تعالى -: “إذا تقرَّب إلَيَّ العبد شبرًا تقرَّبتُ إليه ذِراعًا، وإذا تقرَّب إلَيَّ ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولةً”؛ تخريج السيوطي: عن أنس، تحقيق الألباني: (صحيح)، انظر: حديث رقم: 4304 في “صحيح الجامع“.
ذكر الله بعد الحج:
ولذلك أنزَل الله – تعالى – في أعقاب الحج: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة: 198]، ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ [البقرة: 200].
دَعُوكم من هذه المُفاخَرات، اترُكوا هذه المُنابَذات، تجنَّبوا هذه المُناوَشات، وعُودُوا إلى ربِّكم فاذكُروه واعبُدوه، وادعوه وترسَّموا طريقَه من جديدٍ ولا تحيدوا عنه؛ ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ [البقرة: 200].
المسلم يجبُ أنْ يكون دائمَ الذكر لله – تعالى – حتى يستظلَّ بظلِّ الله يومَ لا ظلَّ إلاَّ ظله؛ عن أبي هريرة – رضِي الله عنه – أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((سبعةٌ يُظلُّهم الله – عزَّ وجلَّ – يوم القيامة يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه: إمامٌ عادل، وشابٌّ نشَأ في عِبادة الله – عزَّ وجلَّ – ورجلٌ ذكَر الله في خلاء ففاضَتْ عَيْناه…))؛ قال الشيخ الألباني: صحيح.
المسلم يجبُ أنْ يكون دائمَ الذِّكر لله، ليس ساعة دون ساعة، أو يومًا دون يوم، أو أسبوعًا دون أسبوع، أو شهرًا دون شهر، أو عامًا دون عام، كلاَّ، وإنَّما يقول الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 41]، يجب أنْ يَجعَل المسلم لسانَه دائمًا رطبًا بذكر الله؛ ((لا يَزال لسانُك رطبًا من ذكر الله))؛ حديث رقم: 7700 في “صحيح الجامع“.
العبادات ذِكْرٌ:
يجبُ أنْ تكون ذاكِرًا لربِّك في كلِّ أحوالِك؛ في غِناك وفَقرِك، في قوَّتك وضَعفك، في صحَّتك ومرَضِك، في يُسرِك وعُسرِك، في سفَرِك ومقامك، في حلِّك وترحالك، في حرَكاتك وسَكناتك، حاكمًا أو محكومًا، رئيسًا أو مرؤوسًا، يجب أنْ تكون ذاكِرًا لربِّك شاكرًا لأنعُمِه؛ ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 191]، يجب أنْ تكون دائم الذكر لله – عزَّ وجلَّ – لماذا؟
لأنَّ ذكرَ الله أعظم ما يخطر على البال، وأشرَفُ ما يمرُّ بالفم، وأجمَلُ ما يستقرُّ في القلب، وأنبَلُ ما يتألَّق به العقل الواعي، وأفضَلُ ما يكون في العقل الباطن.
ذكر الله – عزَّ وجلَّ – من أجلِه صلَّينا، ومن أجلِه صُمنا، ومن أجله حجَجنا، ومن أجله تصدَّقنا، ومن أجلِه أُرسِلت الرسل، ومن أجلِه أُنزِلت الكتب،كيف؟
في الصلاة: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9].
في الصيام: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185] لماذا يا رب؟ ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].
في الحج: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 203].
نعم، ما فُرِضت العبادات إلاَّ لذِكرِ الله، وما أُنزِلت الكتب إلاَّ لذِكرِ الله؛ ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]، أمر يسيرٌ يسَّرَه الله لِمَن أخلَصَ وفَهِمَ فقهَ التعامُل مع كلمات الله وآيات الله وكتاب الله.
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفتح: 8 – 9].
بل إنَّ الذين يقتَدُون بالنبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – يجب أنْ يكونوا أشدَّ الناس ذِكرًا لربهم وشُكرًا لأنعُمِه، كيف؟ ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، مَن هو الذي يَذكُر الله؟ هو الذي يَخاف عذابه، هو الذي يَرجُو رحمته، يُكثِر من ذِكرِه ويُؤدِّي شكرَه.
عن أبي هريرة – رضِي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أمرَنِي ربِّي بتسعٍ: خشية الله في السرِّ والعلانية، وكلمة العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأنْ أصل مَن قطعَنِي، وأُعطِي مَن حرمَنِي، وأعفو عمَّن ظلمَنِي، وأنْ يكون صمتي فكرًا ونُطقِي ذكرًا، ونظري عبرة، وآمُر بالعُرف – وقيل: بالمعروف -…))؛ “مشكاة المصابيح“.
ذكَر الله عِلاجًا لكلِّ مشاكلنا، وهو ما جاء في الحديث الشريف: فكر وذكر، سماء بلا عمد، وماء على أرض جمد، سماء ذات أبْراج، وأرض ذات فِجاج، وبحار ذات أمواج، مَن دبَّر هذا؟! سماء وأرض، شمس وقمر، ليل ونهار، بِحار وأنهار، بشر وأشجار، مَن خلق هذا؟! ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس: 40]، مَن سيَّر هذا؟! إنَّه الله، لماذا؟ ليستَبِين الناسي من الذاكر، والجاحد من الشاكر، والمؤمن من الكافر، وصدَق الله: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62]، والمؤمن في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى ذكر الله في الحالات الآتية:
• المؤمن حين تُحِيط به النَّوازِل، وحين يشتدُّ عليه البَلاء، وحين تُصارِعه الشدائد، وحين تلفُّه المشاكل – يَأتِيه ذكرُ الله – عزَّ وجلَّ – فيُعلمه أنَّ الله على كل شيء قدير، وأنَّه بكلِّ شيء بصير، وأنَّه غالبٌ على أمره، وأنَّه لن يُفلِت أحدٌ من يده؛ لذلك يَرجِع إلى ربِّه ذاكِرًا فيَعلُو شأنه، ويطمئن قلبه، ويرتاح فؤاده، وهذا ما يُبيِّنه الله: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
فقط بذكر الله، ليس بأيِّ شيء سواه، القلب المؤمن يطمئنُّ بربِّه أنَّه يأوي إلى ركنٍ شديدٍ؛ وهو الله – سبحانه وتعالى – إلى مَن هو على كلِّ شيء قدير، وبكلِّ شيء بصير، القلب لا يطمئنُّ إلاَّ بذِكرِ الله، لا أموال ولا أولاد، ولا جاه ولا سلطان، كيف؟ ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [سبأ: 37]، ليس بشيءٍ من عرض الدنيا يطمئنُّ القلب، إنما يطمئن بذكر الله، وبذكر الله فقط!
• عندما ينطَلِق الناس صَوْبَ الدنيا يَعبُدون ترابها ويَشتَهُون مَلذَّاتها، يَتَفاخَرون بها، ويَتَقاتَلون من أجلها، يأتيهم ذكرُ الله – عزَّ وجلَّ – فيعلمهم أنَّ مع اليوم غدًا، وأنَّ مع الدنيا آخِرةً، وأنَّ الإنسان يجب أنْ يحسن وجهته، ويبرئ ذمَّته، وينظم شؤونه، فيَعمَل لمعاده كما يعمل لمعاشه، ويعمل لغده كما يعمل ليومه، وهذا ما عَناه القرآن؛ ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [النجم: 29].
بل يُوصِي الله أحبَّ الخلق إليه بالدُّعاة الذاكرين بألاّ يترُكهم، وأنْ يصبر نفسه معهم؛ ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]، قال النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها، إلاَّ ذكر الله وما والاه، وعالمًا أو متعلمًا))؛ (حسن) انظر: حديث رقم: 3414 في “صحيح الجامع“، ((وما والاه)) ماذا تعني؟
إذا قرأتَ القرآنَ فأنت ذاكرٌ لله، إذا قلتَ كلمة الحق فأنت ذاكرٌ لله، إذا أقمتَ الصلاة فأنت ذاكرٌ لله، إذا خُضتَ المعارك مع الباطل فأنت ذاكرٌ لله، إذا أحسَنتَ إلى جارك فأنت ذاكرٌ لله، إذا صالَحت بين المتخاصِمين فأنتَ ذاكرٌ لله، إذا أطَعتَ والدَيْك فأنتَ ذاكرٌ لله، إذا وصَلتَ رحمك فأنت ذاكرٌ لله، إذا ناجَيْتَ ربَّك فأنت ذاكرٌ لله، إذا أدَّيت الفرائض فأنت ذاكرٌ لله، إذا فعَلتَ النوافل فأنت كذلك ذاكرٌ لله.
كانت المرأة على عهْد النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذا خرج زوجُها للعمل أو للسفر تُمسِك بتلابيب ثوبه فتُذكِّره بالله قائلةً له: يا أبا فلان، اتَّق الله فينا ولا تُطعِمنا من حرام؛ فنحن إنْ نصبر على جوع الدنيا خيرٌ لنا من أنْ نصبر على نار جهنم!
هذه امرأة مسلمة مؤمنة، أليس لها مطالب؟! بلى، لها مطالب، أليس لها رغائب؟! بلى، لها رغائب، أليس لها شهوات؟! بلى، لها شهوات، لكنها ارتَقَتْ على كلِّ ذلك إلى نعيمٍ لا ينفد، وجِنان لا تنتَهِي، ونعمةٍ من الله لا تَحُول ولا تَزُول، أين؟ هناك ﴿ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54 – 55]!
• عندما يأتي الشيطان إلى الإنسان فيشده إلى المعصية، يأخُذه إلى الذنب، يُوجِّهه نحو غضَب الله – والعياذ بالله من الملعون الرَّجِيم – يأتيه ذكرُ الله فيُعلمه أنَّ هناك ربًّا غافر الذنب وقابل التَّوب شديد العقاب؛ فيَنهَض من كبوته، ويُقال من عَثرَته، ويَعُود إلى ربِّه، ويَستَغفِر من ذنبه، ويَستَأنِف الطريقَ إليه، كيف؟ ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135]، وفي آية أخرى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268]، وفرق بين مؤمن تائب، وفاسق تائب؛ الفاسق يَبقَى في وحله لا يعرف له ربًّا، فلا يُقِيم له حدًّا، ولا يُؤدِّي له فرضًا، ولا يحفظ له عهدًا، أمَّا المؤمن التقي فسرعان ما يتطهَّر من ذنبه ويعود إلى ربِّه؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]، يذكرون ربَّهم فيرَوْن بنوره!
لذلك؛ هذا شابٌّ اصطَحَب في الليل فتاةً يريد بها سوءًا، قال لها: الجو صافٍ، والكواكب ساهرة، ولا يَرانا أحدٌ، فقالت له تُذكِّره بالله: إذا كانت الكواكب ساهرةً فأين الذي هو مُكَوكِبها؟! أين الله؟! أين الخالق؟! فإذا بالشابِّ يقشعرُّ بدنه، وينتَفِض قلبه، فيَعُود إلى ربِّه مُستَغفِرًا من ذنبه، وما يفعل ذنبًا ولا يرتَكِب إثمًا بعد ذلك اليوم أبدًا!
• عندما يريد الإنسان أنْ يُنفِق ويتصدَّق يَأتِيه الشيطان فيُقيِّد يدَيْه، يَدعُوه إلى الشُّحِّ والإمساك، يَدعُوه إلى البخل ونِسيان الإنفاق، هنا يَأتِيه ذكرُ الله فيُطلِق يدَيْه؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [المنافقون: 9 – 10].
• عندما يتَّجِه الناس نحو الجهاد ليُعلوا راية الله، ويَنصُروا دين الله، يَأتِيهم ضِعاف القُلُوب يُحذِّرونهم كيف تقتُلُون أنفُسَكم؟ مَن للأولاد؟ من للضَّيْعات؟ لماذا تذهَبون للقِتال؟ هنا يأتيهم ذكرُ الله يُذكِّرهم بالثَّبات؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].
يقول لهم: إنَّ التعرُّض للجهاد لا ينقص عمرًا، وإنَّ القُعُود في البيوت لا يَدفَع موتًا؛ ﴿ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 154]، ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 78].
هذه امرأةٌ مؤمنةٌ خرَج زوجُها إلى الجهاد فقُتِل شهيدًا، وترَك لها عددًا من البَنِين والبَنات، فجاء مَن يُعزِّيها ويُخوِّفها من مَصِير أولادها بعد وَفاة أبيهم، فقالت في ثَباتٍ: أتُخوِّفني من مصير أولادي بعد ذَهاب زوجي؟! أمَّا زوجي فقد لقي ربَّه شهيدًا، وهذا ما تمنَّاه، وأمَّا مصير أولادي فقد عرَفتُ زوجي أكَّالاً وما عرفته رزَّاقًا، فإنْ مات الأكَّال فقد بقي الرزَّاق، وهو الله – جلَّ في عُلاه!
ذكرُ الله في الخُروج والوُلوج، في الحرَكات والسَّكنات، ذكرُ الله يجب أنْ نعيشه ونَحياه، يجب أنْ نُسطِّر به حياتَنا، يجب أن نُوجِّه به أعمالنا، يجب أنْ نثقل به ميزاننا، يجب أنْ نُقابِل به ربَّنا؛ لأنَّه خير الكَلِم، وأفضَلُ الذِّكر.
• عندما يعتَرِي الإنسانَ بعضُ أوقات الفَراغ، وما أكثَرَها عند الشباب الغافل التائه! ﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنبياء: 2]، يُوَسوِس له الشيطان، فيُغرِيه لعِصيان الرحمن، هنا يَأتِيه ذكرُ الله فيَسأله: مَن خلقَه؟ مَن رزَقَه؟ مَن علَّمَه؟ مَن أكرَمَه؟ مَن هَداه لذلك؟ ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 24]، ورجل ذكَر الله خاليًا ففاضَتْ عَيْناه؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 41].
ذكرُ الله عملٌ صالح أنت تستَطِيعه على أيِّ لونٍ كانت الحياة؛ في يُسرِك أو عُسرِك، مُقيمًا أو مُسافرًا، مريضًا أو معافى، ذُكِر أنَّ رجلاً قُطِعت يَداه، وبُتِرت ساقاه، وعَمِيت عَيْناه، فسمعه رجلٌ آخَر يقول: الحمد لله الذي عافاني ممَّا ابتُلِي به كثيرٌ من الناس، فقال له الرجل الآخَر المعافى: من أيِّ شيءٍ عافاك الله وأنت هكذا بهذا الحال؟! قال الرجل المؤمن الصابر المُحتَسِب: الحمد لله الذي جعَل لي لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وبدنًا على البَلاء صابرًا!
والأمَّة الإسلاميَّة تُحاط من جميع الجِهات، وتُواجِه كلَّ يوم عقبات؛ تكالَبتْ عليها الأُمَم كما تتَكالَب الأكَلَة إلى قَصعَتها، ليس من شيءٍ إلاَّ لبُعدِها عن ذكر الله، وحبها للدنيا وكراهيتها للموت؛ لذلك يجب أنْ تستَفِيد من صلاتها وصيامها، وزكاتها وحجِّها، فتُداوِم على ذكر ربها، ولن تعود لسابق عهدِها إلا بذلك، ولن تعود إلى كامل مَجدِها إلاَّ بهذا، ولن تنتَصِر على أعدائها إلاَّ بذكر الله، وصدَق الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].
أمَّا البُعدُ عن ذكر الله يجلب الشيطان ويكون الخسران؛ ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [الزخرف: 36]، وقد يكون شيطان الإنس – وكثيرٌ ما هم – هو الذي يَعُوق الذِّكر ويُعطِّله فيندَم على ذلك كثيرًا، ويتحسَّر كذلك كثيرًا، كيف؟ ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 27 – 29].
والعبد يُذكَر عند ربِّه في السَّماء بقدر ذكرِه لربِّه في الأرض؛ ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152].
حدير وذكر الله:
قصَّة رَواها عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – وأورَدَها ابن الجوزي في كتابه “صفة الصفوة” (1/743): بعَث رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – جيشًا فيهم حدير فزوَّدَهم بما تيسَّر من الطعام، ونسي – بقدَر الله – حديرًا الذي ظلَّ صامتًا ولم يذكر بنفسه، وكان هناك شحٌّ في الزاد بسبب الجفاف، وتحرَّك الجيشُ وفي أطرافه الخلفيَّة يسير حدير صابرًا محتسبًا، وقد شغَل نفسه بذكر الله – عزَّ وجلَّ – مُهلِّلاً مُكبِّرًا حامدًا مُسبِّحًا يقول: “لا إله إلاَّ الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله“، وكلَّما ردَّدها قال: نعم الزاد هو يا ربِّ، أجل، نعم الزاد هو، وبينما الرَّكب يسير وحدير مستغرق في ذكر الله، إذ بجبريل – عليه السلام – يهبط ليقول للنبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: إنَّ ربي أرسلني إليك يُخبِرك أنَّك زوَّدت أصحابَك ونسيت أنْ تُزوِّد حديرًا وهو في آخر الرَّكب يقول: “لا إله إلاَّ الله، والله أكبر… إلخ”، فابعَث إليه بزادٍ، فدعا النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – رجلاً، فدفع إليه زاد حدير وأمَرَه إذا انتهى إليه أنْ يحفظ ما يقول، وإذا أعطاه الزاد أنْ يحفظ كذلك ما يقول، وأوصاه بأنْ يقول له: إنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يُقرِئك السلام ويُخبِرك أنَّه كان نسي أنْ يُزوِّدك، وإنَّ ربِّي – تبارك وتعالى – أرسل إلى جبريل يُذكِّرني بك فذكَّره جبريل وأعلَمَه مكانك، هبَّ الرجل وانتَهَى إليه وهو يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله، ويقول: نعم الزاد هذا يا رب، فدنا منه ثم بلَّغَه مقالة رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وسلامه ودفَع إليه الزاد، فحمد الله قائلاً: الحمد لله رب العالمين، ذكرني ربِّي من فوق سبع سموات ومن فوق عرشه، ورحم جوعي وضعفي! يا رب كما لم تنسَ حديرًا فاجعَل حديرًا لا يَنساك، فحفظ الرجل ما قال حدير ورجَع إلى النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فأخبَرَه بما سمع منه حين أتاه وبما قال حين أخبره، فقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: أمَا إنَّك لو رفعت رأسَك إلى السماء لرأيتَ لكلامه ذلك نورًا ساطِعًا ما بين السماء والأرض، حدير ذكَرَه ابن حجر في “الإصابة“، وابن الأثير في “أسد الغابة“، وابن عبدالبر في “الاستيعاب” وفي “البداية والنهاية“.
اللهم اجعَلنا لك ذكَّارِين شكَّارين، مُخبِتين مُنِيبين، اللهم فقِّهنا في ديننا، وفهِّمنا شِرعَة ربِّنا، اللهم ارزُقنا الإخلاصَ في القول والعمَل، ولا تجعَل الدنيا أكبَر همِّنا ولا مَبلَغ علمِنا، وصلِّ اللهمَّ على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم، والحمد لله ربِّ العالمين.
المصدر : الألوكة