بين صلح الحديبية وهدنة غزة

13 hours منذ قليل

13 Views ㅤ

Dini Istiqomah - 13 hours منذ قليل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بقلم الإمام يَخْشِي الله منصور

قال الله سبحانه وتعالى:

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ۝١ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ۝٢ وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ۝٣
(سورة الفتح [٤٨]: ١–٣)

وقد بيّن علماء التفسير أن هذه الآيات نزلت بعد حادثة الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، حين خرج رسول الله ﷺ ومعه نحو ألف وأربعمائة من الصحابة من المدينة المنوّرة قاصدين مكة المكرمة لأداء العمرة.

ولكن عندما وصلوا إلى منطقة الحديبية، التي تبعد نحو اثنين وعشرين كيلومترًا عن مكة، اعترض طريقهم المشركون من قريش ومنعوهم من الدخول. وكانت تلك سابقة لم يعرفها التاريخ من قبل، إذ لم يحدث قط أن منع أحد من أداء الحج أو العمرة منذ أن شرعت هذه العبادات بأمر الله تعالى.

وبعد توتر ومفاوضات طويلة بين الجانبين، اتفق الطرفان ـ المسلمون وقريش ـ على توقيع معاهدة سلام عرفت فيما بعد باسم صلح الحديبية.

وقد تضمّنت بنود هذه المعاهدة ما يلي:

أولا: اتفق الطرفان على وقف القتال لمدة عشر سنوات، بحيث لا تكون هناك حربٌ أو عداوةٌ بين المسلمين وقريش خلال هذه المدة.

وقد وفّر هذا السلام المؤقت فرصةً للمسلمين للعيش بأمن وسلام، ونشر الدعوة الإسلامية دون عوائق، وبناء قوتهم من داخل المدينة المنوّرة.

ثانيا: نصّت المعاهدة على أن لكل قبيلة في جزيرة العرب الحرية في اختيار الطرف الذي ترغب في الانضمام إليه أو التحالف معه، سواء كان ذلك مع رسول الله ﷺ أو مع قريش. وبذلك نشأت تكتلات أو تحالفات قبلية جديدة، بنيت على أساس من السلم والوضوح في العلاقات بين الأطراف.

ثالثا: من جاء من قريش إلى جانب رسول الله ﷺ دون إذن وليّه، فعلى المسلمين إعادته إلى مكة، أما من جاء من المسلمين إلى قريش، فليس على قريش أن تعيده.

وبالنظر إلى ظاهر هذا البند، يبدو أنه غير متكافئ ويصبّ في مصلحة قريش على حساب المسلمين، إلا أن رسول الله ﷺ قبله بصبر وحكمة بالغة، إذ أدرك ببصيرته النبوية أن في هذا الصلح خيرا ومصلحة بعيدة المدى للأمة الإسلامية، وأنه خطوة استراتيجية نحو نصر أعظم في المستقبل.

الرابع: لم يؤْذن لرسول الله ﷺ وأصحابه بأداء العمرة في ذلك العام، فاضطرّوا إلى العودة إلى المدينة المنوّرة دون دخول مكة المكرمة. وبدلا من ذلك، سمح للمسلمين بأن يأتوا في العام التالي لأداء العمرة، بشرط أن لا يمكثوا في مكة أكثر من ثلاثة أيام، وأن يحملوا سلاحا خفيفا للحماية الشخصية فقط دون إظهار قوة أو نية للقتال. وقد تعهّد قريش بأن يخرجوا من مكة خلال تلك الأيام الثلاثة، إتاحة للمسلمين لأداء مناسكهم في أمن وسلام.

الخامس: اتّفق الطرفان على عدم خيانة العهد وحفظ أمن كلّ من الجانبين، فلا يسمح بالغدر أو انتهاك الاتفاق أو تقديم العون لأيّ عدوّ من أيّ طرفٍ كان. وقد شكّلت هذه الالتزامات القائمة على الصدق والأمانة أساسا لانتشار الطمأنينة في أرجاء الجزيرة العربية بعد سنوات طويلة من الصراعات والحروب.

على الرغم من أنَّ الاتفاق بدا في ظاهره لصالح قريش، إلا أنّ رسول الله ﷺ قبل به بتوجيه من الله سبحانه وتعالى، ليظهر أنّ رسالة الشريعة الإسلامية ليست الحرب، بل السلام. كما أنّ نية رسول الله ﷺ كانت منذ البداية التوجه إلى مكة لأداء العمرة فقط، دون نية القتال.

وبالفعل، بعد عامين من إبرام الاتفاق، شهدت أعداد المسلمين زيادةً كبيرة. فقد أظهرت البيانات أنَّ عدد المسلمين الذين شاركوا في غزوة فتح مكة بلغ على الأقل 12,000 شخص، بينما كان عددهم قبل صلح الحديبية لا يتجاوز 2,000 شخص.

بل إنَّ العديد من كبار قريش دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية، مثل: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، وسهيل بن عمرو (الذي كان أحد مفاوضي قريش)، وأبو سفيان بن حرب، وغيرهم.

الحكمة من هذا الاتفاق كانت تمهيدا لفتح مكة، الذي يعد رمزا لانتصار الدعوة الإسلامية ورفع مكانة الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية.

وقد شرح الإمام ابن كثير رحمه الله أن الانتصار المذكور في الآية الكريمة ليس انتصارا في ساحة المعركة، بل هو انتصار في مجال الدعوة الإسلامية. من خلال صلح الحديبية، حصل رسول الله ﷺ على مساحة أمنة لنشر الإسلام بين القبائل العربية المختلفة دون مضايقات.

إن الفتح المبين لا يعني فقط غزو مدينة أو أمة، بل هو انتصار في الصبر والثبات. وقد علمنا رسول الله ﷺ أنّ في معركة الدعوة قد نحتاج أحيانا إلى التوقف مؤقتا، ليس ضعفا، بل لأن الله سبحانه وتعالى يهيئ لنا انتصارا أعظم.

الهدنة ليست نهاية المعاناة

كلما ذكر مصطلح الهدنة بين إسرائيل وفلسطين، يبدو أن العالم يَتنفس الصعداء. لكن خلف هذا الشعور، تكمن مخاوف عميقة مستمرة. فبالنسبة لشعب فلسطين، ليست الهدنة نهاية المعاناة، بل هي فقط فترة توقف مؤقتة من معاناة طويلة لا تنتهي.

كثيرا ما تستقبل الدول الدولية اتفاقيات الهدنة بالاحتفال والتفاؤل، إلا أن التاريخ يظهر أنَّ إسرائيل تكسر هذه الاتفاقات كلما أعلنت، حتى قبل أن تلتئم الجراح أو تزال الأنقاض من المباني المهدمة.

وهنا يكمن التناقض المأساوي المتكرر في فلسطين، أرض الأنبياء. اتفاقية سلام تخترق دائما من قبل الصهاينة الإسرائيليين، فيما يلتزم العالم الصمت التام. فلماذا لا يتصرف العالم كما فعل مع هتلر في ألمانيا واليابان خلال الحرب العالمية الثانية؟

إن اتفاق الهدنة الساري حاليا في قطاع غزة ليس الأول من نوعه، وربما لن يكون الأخير أيضا. فمنذ تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948، تم توقيع العديد من الاتفاقيات، بدءا من اتفاق أوسلو، ومادريد، وكامب ديفيد، وحتى الاتفاقيات التي توسطت فيها مصر وقطر. لكن جميع هذه الاتفاقيات لم تلتزم بها من قبَل الكيان الصهيوني.

لهذا السبب، يرى العديد من الشخصيات والمراقبين الدوليين بشك كبير في الهدنة الحالية. ففي الواقع، يواصل الصهاينة محاولة السيطرة على الحدود، وتقييد المساعدات الإنسانية، واستمرار حصار غزة.

ومع ذلك، خلف هذه الهشاشة، هناك جانب آخر للهدنة غالبا ما يغفل عنه. فالهدنة تفتح الباب أمام دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. وتعطي أملا للأطفال الذين فقدوا عائلاتهم، وللسكان لزيارة أنقاض منازلهم، وللمستشفيات لمواصلة خدماتها رغم كل الصعوبات.

أما بالنسبة للمجاهدين الفلسطينيين، فإنهم يدركون أن المقاومة لا تعني بالضرورة استمرار القتال بالسلاح فقط، بل أيضا انتظار الوقت المناسب. ففي هذه الحرب الطويلة والمرهقة، كل فترة هدوء هي فرصة لإعادة ترتيب أنفاس النضال.

ولكن الأهم من ذلك، أن الهدنة مهما كانت هشة تمنح العالم فرصة للتفكير والتأمل بأن الصهاينة الإسرائيليين هم مصدر العديد من الأزمات في العالم، وخاصة في فلسطين.

من الحديبية إلى غزة: الحكمة وراء الاتفاق

على المسلمين أن ينظروا إلى كل حدث ليس فقط من ظاهره، بل من الحكمة الخفية التي تختبئ خلفه. وفي هذا السياق، قد تفهم الهدنة بين الصهاينة الإسرائيليين والفلسطينيين مثل صلح الحديبية، الذي بدا في ظاهره خسارة للمسلمين، لكنه كان بابا لتحقيق نصرعظيم.

في الآية الكريمة، يؤكد الله تعالى أن صلح الحديبية ليس هزيمة، بل هو نصر تمثل في فتح الطريق للدعوة، وانتشار رسالة الإسلام بالسلام، وازدحام الناس لدخول الإسلام. وهذا هو النصر الحقيقي الذي لا يُرى إلا بعين الإيمان.

هذه العبرة ينبغي أن نتأملها في واقع غزة اليوم. قد يرى البعض أن اتفاق الهدنة هو تنازل يضعف روح المقاومة، ولكننا نأمل أن يكون في هذا التوقف إعداد من الله تعالى لنصر أعظم نصر لا يولد من السلاح فقط، بل من الثبات والصبر والحكمة.

يمكن أن تكون الهدنة فرصة للتأمل للمسلمين في كل مكان عندما لا توجد هجمات، تتاح الفرصة لتعزيز التضامن، وإعادة بناء شبكات العمل الإنساني، وتوحيد رؤية النضال، وترتيب الاستراتيجيات الدبلوماسية. لأن النصر لا يُقاس فقط بالقوة العسكرية، بل بالقوة المعنوية ووحدة الأمة.

وكذلك بالنسبة لشعب فلسطين، فإن اتفاق الهدنة هذه رغم مرارته وظلمه يُرجى أن يكون جزءًا من خطة إلهية أوسع. الله سبحانه وتعالى يمتحن من يثبت على الصبر ومن يستسلم للمرارة.

هذه الهدنة في غزة، مهما كانت هشة ومليئة بالشكوك، تظل تحمل معنى عميقًا. تذكر العالم أنه خلف كل توقف للحرب، هناك بشر يحاولون البقاء على قيد الحياة، وهناك دعوات تُرفع، وهناك أمهات يحتضنّ أطفالهن، ويحلمون باليوم الذي تصبح فيه سماء غزة صافية من الطائرات الحربية والصواريخ القاتلة.

ومن هذه الهدنة الحالية، نأمل أن تثمر حكمة مثل حكمة صلح الحديبية، الذي جاء بنصر باهر للمسلمين. ونرجو أن تكون هذه الاتفاقية محطة مهمة نحو حرية فلسطين وفتح المسجد الأقصى المبارك (فتح الأقصى) الكامل.

وكالة مينا للأنباء