صناعة العزة والكرامة

الجمعة- 21 ذوالقعدة 1434 الموافق27 أيلول / سبتمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

د. طارق محمد حامد 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد:

فإن الأمم التي تجيد صناعة العِزة والكرامة لهي الأمم المنتصرة، وذلك إذا ما تحلَّتْ بالإيمان الراسخ والعقيدة السليمة، ووعتْ طبيعة المرحلة وحقيقة الصراع المنطلق من العقيدة، والذي يرتكز على العمل المضْنِي، والجهاد المحرِّر للنفوس والأمم من وَطْأَةِ الأهواء والذُّل والتخاذُل الشائن.

 

والأمم التي تتأبَّى على مشاريع التغريب، والتمييع وتركيع الأمم واستدراجها لتبعية بغيضة – هي الأمم الراسخة رسوخ الجبال، والتي تبدو كالمنارة في سماء العِزة والكرامة.

 

ومَن يقرأ تاريخ أُمَّتنا الإسلامية بعينٍ متفحصة، يلمس ذلك دون أدنى جُهدٍ وعناء في استنباط هذا الأمر جيِّدًا، وذلك على أساس الركائز التالية:

1- التمسُّك الراسخ بالعقيدة الإسلامية والاعتصام بها، وذلك واضح من خلال كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – وتمسكه بهذه العقيدة، وتلك الدعوة الغرَّاء وتبليغها للعالمين، مهما كلَّفه ذلك من مشقَّة وعَنَاء وعَنَت، ولقد كان هذا جَليًّا حينما عَرَضَ عليه مشركومكةَالْمُلْك، أو المال، أو الطب إن كان به مَسٌّ من جِنّ على أن يترك تبليغ هذه الدعوة، فكان ردُّ النبي – صلى الله عليه وسلم – عليهم أبلغَ ردٍّ لكلِّ متشككٍ متردِّدٍ، ولكلِّ متقاعسٍ قعيدٍ يأبى العمل لدين الله – عز وجل – والأخذ بأسباب النُّصرة للإسلام والمسلمين، قالها – صلى الله عليه وسلم – مُدوِّيَة غُرَّة على جَبين التاريخ: ((والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، لن أتركه حتى يظهره الله، أو أهلك دونه)).

 

وموقف سعد بن معاذ – رضي الله عنه – معغطفانيَقْطُر عِزة وكرامة من صحابي جليل ملأ الإيمان قلبه، وملأت قضية الإسلام والمسلمين عليه قلبه وروحه وجوارحه، أرادتغطفانمصالحة المسلمين على ثُلث ثمارالمدينةعلى أن يرجعوا عن المدينة فيغزوة الأحزاب، قال: يا رسول الله، لقد كُنَّا على الشرك، وكانتغطفانلا تطمع في تمرةٍ منالمدينة، أبعد أن أعزَّنا الله بالإسلام، وأكرمنا بك نعطيهم ثمارنا؟! والله ليس عندنا لهم إلا السيف.

 

وقول عمر بن الخطاب: نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام، فإن نحن ابتغينا العِزة في غيره، أذلنا الله.

 

ويُروى في العصر الحديث أنْ تَعرَّض أحدُ الشُّبَّان المسلمين العاملين في حقل السياسة لرئيسة وزراء العدو الصِّهْيَونيجولدا مائير، في ستينيات القرن العشرين وقال لها: سوف ننتصر عليكم، فقالت: ستنتصرون نعم يوم أن تكونوا أنتم أنتم، ونحن نحن، وما أشبه الليلةَ بالبارحة! وصدق الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -: ((توشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أَمِن قِلَّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوَهَن، قالوا: ما الوهن؟ قال: حُب الدنيا وكراهية الموت)).

اقرأ أيضا  الوصية على أبواب الفتن

 

فالانغماس في تَرَف الدنيا، وضَعف الإيمان، وترك الجهاد، والمسارعة في العدو خشية الضرر المتوقع – من العوامل الباعثة على الذِّلة والمهانة ونزع المهابة من قلوب أعدائنا مِنَّا.

 

وفي فترات الدولة الإسلامية نجد أن عِزة وكرامة المسلمين واضحة جَليَّة، حال تمسُّك المسلمين بعقيدتهم وشريعتهم الغَرَّاء، والتمسُّك بثوابت هذا الدين الحنيف، وذلك لا يخفى على كلِّ ذي لبٍّ، أو ألقى السمع وهو شهيد.

 

2- وحْدة الصف الداخلي للأمة: فوحدة الصف هي بمثابة الرِّباط والأساس الداخلي الذي تنبني عليه قوة الأمة، وأول هذه القوة قوة الإيمان والعقيدة، ثم قوة الوحدة والارتباط، ثم القوة المادية بشتَّى صُوَرِها.

 

وإذا كنت تبني أُمَّةً بأسرها تتمتع بكل السيادة والأستاذية والعِزة، فيجب أن يتناسب الأساس مع حجم وارتفاع البناء، ولقد كان ذلك واضحًا في تربية النبي – صلى الله عليه وسلم – للمؤمنين ثلاث عشرة سنة فقط على الإيمان والعقيدة، ثم كانت الأمة العظيمة أستاذة الدنيا كلها لقرون طوال.

 

ثم كان غرس وحدة الصف الداخلي للأمة فيالمدينة، وذلك من خلال المفردات التالية:

أ- الإخاء بين أبناء الأمة الإسلاميةوتمَّ ذلك بين المهاجرين والأنصار، وإنه ليتراءى لي الموقف الرائع في الإيثار لسعد بن الربيع، ورد الفعل القِمَّة في التعفُّف لعبدالرحمن بن عوف – رضي الله عنهما.

 

سعد بن الربيع لعبدالرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً ولي زوجتان وبيتان، فأَقْسِمُ مالي بيني وبينك نصفين، واخترْ أيَّ البيتين، واخترْ أجملَ الزوجتين، فأُطَلِّقُها فتنقضي عدتها، ثم تتزوجها، فقال عبدالرحمن لسعد: بارك الله لك في مالك وأهلك، دُلَّني على السوق.

 

ما أجمل هذه اللوحةَ التي سطَّرها النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته – رضوان الله عليهم – جميعًافهذه اللُّحْمَة التي بين أفراد الصف المؤمن تبعث على القوة في مواجهة أيِّ عدوٍّ خارجي؛ حيث أَمَّنَ الصف الداخلي من الفرقة والشتات الباعِثَينِ على الفشل.

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: 4].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 45- 46].

 

فهذه اللُّحْمَة هي التي تقي الأمة من أن يعصفَ بها التنازع والفشل ثم الاندثار، فضلاً عن فوات النصر والتهاوي والسقوط والانزواء في ثنايا التاريخ، فحينما نشبت الفتنة الكُبرى بين كبار الصحابة، توقَّفت الفتوحات الإسلامية، ولما تشتتِ الأمة الإسلامية إلى دويلات، ضَعفت الأمة وتنكبت لها الحضارة، وتخلَّفت عِلميًّا، وغفلت عن الدور المنوط بها، واحتلت ذيل الأمم بجدارة تُحْسد عليها.

اقرأ أيضا  اخي المسلم اجعل كل عباداتك لله رب العالمين

 

وهذا ما أخبر الله – عز وجل – به عن اليهود في القرآن: ﴿ لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [الحشر: 14].

 

وهذه اللُّحْمَة ووحدة الصف تتبنَّى النظام الاجتماعي التكافلي بين طبقات الأمة، ويحمل أفرادها على كفالة بعضهم بعضًا؛ مما يبثُّ الثقة بين أفراد هذه الأمة، وبحرارة الإيمان والأخوَّة والوحدة تذوب الأحقاد والأضغان، ويكون المجتمع وحدة واحدة، يسعى بذمَّتهم أدناهم، وهم يدٌ على مَن سواهم.

 

ولله درُّسيد” – رحمه الله – لقوله فيتفسيره“: “إن الأسرة ليست آباءً وأبناءً وأحفادًا، إنما هي هؤلاء حين تجمعهم عقيدة واحدة، وإن الأمة ليست مجموعة أجيالٍ متتابعة مِن جنس معين، إنما هي مجموعة من المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم، وهذا هو التصوُّر الإيماني الذي ينبثق من خلال هذا البيان الرَّباني، وماسلمان الفارسي” – رضي الله عنه – وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، ومصعب بن عمير القرشيعنَّا ببعيدٍ، كلُّهم يربطهم رباطٌ واحدٌ ووشيجة واحدة، وهي وشيجة العقيدة والعمل، وتسقط جميع الروابط والاعتبارات ما لم تتصل بعروة العقيدة والعمل”؛ظلال القرآن، ج (1)، ص (113).

 

3- استشعار التبعة لنشر الدعوة وأمانة التبليغ:

وقف عقبة بن نافع ممتطيًا صَهوة فرسه على شاطئ المحيط الأطلسي قائلاً:

والله لو أني أعلم أُناسًا وراء هذا البحر، لخضت إليهم بفرسي هذا؛ لأبلِّغهم رسالة الإسلام“.

 

فهذا القائد المسلم بقوله هذا الذي يَقطر عِزة، قد أعذر إلى الله في تبليغ دعوة الله، ولا يتهيَّب خوض بحر وُصِفَ ببحر الظُّلمات، ربَّما يَلقى الله فيه شهيدًا؛ وذلك لأَجْل إنقاذ رِقاب أناسٍ من النار.

 

وهذا رِبْعِي بن عامر – رضي الله عنه – يردُّ علىرُسْتُمقائد الفُرْس أَبْلَغَ ردٍّ على سؤالهما أتى بكم إلينا؟ قال: “إن الله ابتعثنا لنخرج مَن شاء من العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضِيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة“.

 

وهذاهارون الرشيدكان يحجُّ عامًا، ويجاهد عامًا، وهو القائل مخاطبًا السحابةَ: “أمطري حيث شئتِ؛ فإنَّ خراجك سوف يأتيني“.

 

فما أروع هذه العِزة! وما أروع هذا الفَهم!

 

وعبدالله بن المبارك يرى أن الجهاد لنشر دين الله هو أفضل عند الله مِن عابد زاهد معتكفٍ في المسجد الحرام، وذلك في أبيات من الشعر قد نظمها بدمائه وبنبضات قلبه وبنسمات روحه:

اقرأ أيضا  لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول

يَا عَابِدَ الْحَرَمَيْنِ لَوْ أَبْصَرْتَنَا 

لَعَلِمْتَ أَنَّكَ فِي الْعِبَادَةِ تَلْعَبُ 

مَنْ كَانَ يَخْضِبُ جِيدَهُ بِدِمُوعِهِ 

فَنُحُورُنَا بِدِمَائِنَا تَتَخَضَّبُ 

أَوْ كَانَ يُتْعِبُ خَيْلَهُ فِي بَاطِلٍ 

فَخُيُولُنَا يَوْمَ الْكَرِيهَةِ تَتْعَبُ 

رِيحُ الْعَبِيرِ لَكُمْ وَنَحْنُ عَبِيرُنَا 

رَهَجُ السَّنَابِكِ وَالْغُبَارُ الأَطْيَبُ 

وَلَقَدْ أَتَانَا مِنْ مَقَالِ نَبِيِّنَا 

قَوْلٌ صَحِيحٌ صَادِقٌ لاَ يُكْذَبُ 

لاَ يَسْتَوِي غُبَّارُ خَيْلِ اللهِ في 

أَنْفِ امْرِئٍ وَدُخَانُ نَارٍ تَلْهَبُ 

هَذَا كِتَابُ اللهِ يَنْطِقُ بَيْنَنَا 

لَيْسَ الشَّهِيدُ بِمَيِّتٍ لاَ يَكْذِبُ 

وهذا ابن تيميَّة – رحمه الله – الإمام العابد الزاهد المجاهد يفسِّر قول الله – عز وجل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر:1 – 2]، فيقول: فواجب على الأمة أن يبلِّغوا ما أُنزل إليهم، وينذروا كما أنذر.

 

وفي العصر الحديث الشيخ ابن عبدالوهاب ورشيد رضا، وحسن البنَّا يعصف بِمُهَجِهم الألم، وتعتصر قلوبهم الحسرة على حال الأمة الإسلامية، فما غمض لهم جفن، ولا ذاقوا لذة الراحة والدعة، حتى بثُّوا في الأمة صحوة المارد المسلم مرة أخرى؛ حتى شعرنا بنسمات التجديد والتغيير والإصلاح تلفُّ أرجاء الأمة الإسلامية مرة أخرى، وما نحن ولا أنتم ممن يغار على الإسلام، إلا ثمرة من ثمار هذه الصحوة، وبصمات إخلاصٍ وعمل وجُهد مُضني في سبيل بعث الأمة من جديد.

 

وإن الحصيف الذي يطالع نصوص الإسلام وسيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – ومواقف الصحابة الكرام – يلمس بثَّ روح العِزة على أساس العقيدة الدينية الصحيحة، كما تستهدف خَلْقَ الأمل في النجاح مكان اليأس، وتوثيق الصِّلات بين الشعوب الإسلامية كلها”؛معركة المصحف؛ للغزالي، ص (10)، بتصرُّف.

 

ونأمل أن يرزقنا الله – عز وجل – بِهِمَّة أُمة تجوس خلال الديار، فتحييها بالقرآن، والتمسُّك بثوابتنا الإسلامية، وعقيدتنا السمحة، ووحدة الصف المؤمن، واستشعار التبعة الملقاة على عواتقنا؛ من تبليغ الدعوة، والدراية بطبيعة الحرب الدائرة على الإسلام، حرب العقيدة من الغرب المتبجِّح على ثوابتنا الإسلامية، فالعزة لا تكون لقوم هَمَلٍ شَتَات، كلٌّ يعمل على شاكلته، بل تكون العِزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فاهجروا الذُّل لعزٍّ، واعملوا قبل المقال:

 

فَمَنْ لَمْ يَعِشْ لِمَجْدِ دِينِه 

فَمَا عَاشَ إلاَّ فِي السَّرَابِ 

وصلى الله على سيدنا محمدٍ، والحمد لله ربِّ العالمين.


المصدر : الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.