المذهبية الإسلامية: إشكاليات التعصب، وضرورات التسامح

الأحد- 8 ذوالحجة1434 الموافق13 تشرين الأول / أكتوبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

نايف عبوش 

لا جرم أن الإسلام هو بحق دين الرحمة، والاستقامة، والتسامح بين الناس؛ لذلك كان لا بد للسلوك المسلم في الحياة من أن يكون رحيمًا، ومستقيمًا، ولينًا مع الجميع، بانعكاس متجسد يقترب عمليًّا من قاعدة: ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه))، عند التعامل مع الغير، كسبيل سويٍّ للَمِّ الشمل المسلم على منهج: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159]؛ لأن مراد الله في تطبيق الدين في المجتمع المسلم قائمٌ أصلاً على مبدأ وحدة الأمة، كأسبقية مطلقة على غيره من كيفيات الحال الأخرى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]؛ فكان الرفق المقترن بالتيسير حاجةَ تسامح عامة، تهم جميع أفراد الأمة، بقصد زجِّ طاقتها الجمعية في بوتقة واحدة؛ لتحقيق هذا المبدأ، فكانت رحمة الإسلام شاملة، في إطار حرص الإسلام على حشد الطاقات، وتفادي هدر الاستخدام، بجانب المقتضيات العقدية للرحمة؛ ولذلك لم تقتصر سماحة الإسلام ورحمته على عالم الإنسان فقط، بل إنها جاءت مطلقةً وشاملة لكل العوالم في الحياة، ولم تنحصر بجنس أو لون أو مذهب، مصداقًا لقول الله -عز وجل- في هذا الصدد: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]؛ لكي يتم التمكن من تسخير كل الموارد البشرية والمادية المتاحة للأمة، بأعلى كفاءة أداء لها؛ لرفعة الإسلام والمسلمين، سواء تجسد استثمار الرحمة كوعاء احتواء لتلك العوالم بطريق الهداية إلى توحيد الله في العبادة، أو أنها تجسدت بأسلوب تحقيق العدالة بين الناس في الأرض، أو تجاوزت ذلك المجال إلى الرأفة بما دبَّ على الأرض من مخلوقات؛ ليكون الإسلام بهذا الوصف الرشيد بيئةَ تسامح حقيقية، للتعايش بين العالمين، بعيدًا عن كل حُيُودات منحرفة عن مسلك التسامح تحت أي ذريعة، والتي لا تؤدي بالنتيجة إلا إلى الانزلاق نحو التطرف، والغلو، والكراهية، التي لا طائل منها سوى الفُرقة والضلال، وهي التداعيات التي أشار إليه القانون الإلهي في معرِض النهي عن الوقوع في مثل هذا الحال الفاسد: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153].

 

ولذلك كله؛ فقد استحقتظاهرة التسامحفي الإسلام بإيجابيَّاتها المعهودة، أن توصف من قِبَل أحد الفقهاء المعاصرين بأنهاصناعة إسلامية؛ كناية عن أنها ابتكار إسلامي خالص، وحقيقة إسلامية محضة، وليست ظاهرة مستوردة، أو مستنسخة على الإطلاق؛ مما يستوجب أن يسعى الجميع بإخلاص لتفعيلها، والتوعية بمردوداتها الحميدة على الأمة، في تكوين مجتمع فاضل خالٍ من الغل والضغينة، مقابل المخاطر والنكبات والمساوئ التي ترتبت على التطرف والغلو اللذين لازما حركة مسيرة الأمة في فترات النكوص، وما زالا يفتكان بقدراتها، ويبددانها من دون طائل.

اقرأ أيضا  قوة الأخلاق

 

ولعل الملاحظ اليوم -للأسف- أن البعض من الدعاة، والبعض من الفقهاء، بل وحتى البعض من المتدينين من عوامِّ المسلمين؛ أخذوا يتجاوزون هذا المنهج القويم، بإثارة نزعات الحقد، والكراهية، والفرقة بين المسلمين، بترويج سلع كاسدة كالطائفية والمذهبية؛ حيث يجدون لبضاعتهم سوقًا بائرة في بعض أوساط المجتمعات الإسلامية، من خلال نفخهم في كثير من العصبيات المذهبية، عن طريق إثارتهم المستمرة لنقاط الاختلاف المذهبية الإسلامية، والتعارضات الهامشية، عندما يقومون بمهمة وعظ الناس في أي مناسبة، فيُثِيرون مشاعر الكراهية، ويؤجِّجون الأحقاد بين المسلمين، ولا سيما عندما يتعاطون مع التاريخ بأطروحات متطرفة، تركز على مسائل خلاف لا موجب لها في خطابهم الديني الموجَّه للجماهير، والذي ينتمي للماضي حدثًا ورؤية، سواء عندما يتناولون قضية خلاف ماضية، أو عندما يسعَون لعلاج قضية معاصرة، دون أن يَحرِصوا على أن ينتمي خطابهم للحاضر، إلا من خلال إسقاط ذلك الماضي بكل تداعياته عليه، بعيدًا عن أية مراعاة للظروف، وما يحصل من تغيرات بين المرحلتين بعامل الزمن، ويتشبَّثون بالخلافات المذهبية والدينية بإصرار غريب، يُذكي الفتنَ، ويشعل نيرانَ التعصب، ويشغل المجتمعَ المسلم بما يضره ولا ينفعه.

 

الأمر الذي يقود بالمحصلة إلى تشظية الرأي العام المسلم، ومن ثَمَّ فهم بذلك المسلك الناكب يستنزفون بدعواهم تلك قوى الخير في وجدان الناس، ويذرونهم غلاةً متطرفين، بلا رصيد عاطفي؛ فيحرمونهم من فرصة الانجذاب نحو مودة أخيهم الآخر، حيث يفترض بأبناء المجتمع المسلم الواحد أن يتقبَّل بعضهم بعضًا، بغض النظر عن المذهب، أو النِّحلة، أو الطائفة؛ وبذلك فهم يتحملون الوزر الأكبر من مسؤولية شق وحدة الصف المسلم، وتبديد طاقات الأمة، وإلحاق الضرر بهيبتها، رغم أن الدين الحنيف ينبذ كل أسباب التشرذم والفرقة، التي لا تؤدي إلا إلى الضعف والوهن والضياع، وبالتالي فهم يمنحون أعداء الأمة فرصة الطعن في الإسلام، والنَّيل من المسلمين مجانًا، خلافًا لقاعدة لَمِّ الشمل: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، والتي ينبغي أن تعتمد كاستراتيجية عمل ثابتة، في التعاطي مع قضايا وحدة كيان الأمة المصيرية.

 

والملاحظ أن الكثير من القنوات الفضائية، ومواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت -للأسف الشديد- تتبنى تلك التوجهات المتطرفة في تغريدات عوالمها الافتراضية؛ لإثارة الفتنة المذهبية، وتصعيد الكراهية للآخر عن عمد، وتأجيج الصراع بين أبناء المجتمع الواحد، وبشكل مقصود، لا سيما وأن الموروث الحضاري، والتراكمات الفكرية والتاريخية الإسلامية المُثقَلة بإرهاصات الصراع المذهبي؛ تمثِّل أحد الأسباب الرئيسة التي تقف وراء بيئة التعصب المذهبي الراهن، والذي يتم تناقله من جيل إلى آخر، عن طريق هؤلاء الفقهاء والدعاة، ومواقع التواصل الاجتماعي في واقعها الافتراضي الماكر؛ حيث تبدأ الفتنة بالتفاعل السلبي، من قلب الفضاء الإسلامي، ومحافله العامة، لتغذيها بعض الوسائل الإعلامية، والفضائيات المشبوهة عن عمد، قبل أن تَهُبَّ عليها عواصف التعصب من الخارج، التي لا تزال حتى الآن تعمل في هذا السياق، على قاعدة: “فرِّق تَسُد؛ إمعانًا في إلحاق الضرر بالإسلام والمسلمين.

اقرأ أيضا  الإسلام المفترى عليه!!

 

وللأسف فإن هناك البعض من الكتاب والأدباء والمفكرين من المحسوبين على الثقافة العربية الإسلامية، مَن يسعى لتقديم البحوث والدراسات المغذية للكراهية تحت غطاء التخصص، والحاجة إلى التثقيف في المِلل والنِّحل والمذاهب، وهي في حقيقتها أغطية ثقافية خصبة للتعصب المذهبي المقيت، المنهي عنه قرآنيًّا، ليس للمسلمين فقط، بل حتى لأصحاب الشرائع الأخرى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ [المائدة: 77].

 

ومع أن التعصب المذهبي حقيقة قائمة في واقعنا الإسلامي، وهو ليس وليد الساعة، إلا أن الحوار بين المذاهب الإسلامية المختلفة، وحتى مع كون البعض مقتنعًا بأن الحقيقة الدينية المطلقة عنده وحده فقط، وأن غيره على باطل يقينًا، فإن الحوار يظل ضرورة ملحة، وحاجة قائمة تقتضيها مصلحةُ الأمة، تمشيًا مع التوجيه الرباني في إشارته الواضحة إلى تقرير حقيقة واقع هذا الحال في قول الله -تعالى-: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48].

 

وهذا يعني تقريرًا صريحًا، وتأصيلاً واضحًا لحقيقة حياتية، مفادها: أن الأصل في طبع المجتمع البشري، هو التباين والاختلاف، وأن السعي لصبغه بلون واحد -من خلال إرغامه على توحيد مشاربه على رأي واحد- هو ضرب من المستحيلات ليس إلا.

 

فالاختلاف والتنازع البشري طبيعة إنسانية، وظاهرة اجتماعية متأصلة في المجتمع لا مناص منها، وبالتالي فإن مَن يحاول حمل الناس على رأي واحد، هو في الحقيقة كناطح صخرة، أو نافخ في وادٍ.

 

وما دام الاختلاف والتنازع من صميم طبيعة البشر التي فطر الله الناس عليها؛ فإن كل طرف من هذا المنطلق يرى أن الحق بجانبه، ومن ثَمَّ فإنه لا يستسيغ أن يشكِّك في مذهبه أحدٌ من الطرف الآخر، ولا يتقبل أن يسيء إليه الآخرون، وعلينا ابتداء أن نعترف بهذا الواقع على حقيقته من دون تردُّد، وأن نفهم أن الآخرين يغضبون عندما تُمس معتقداتهم، كما نغضب نحن إذا أسيء إلى معتقداتنا ومبادئنا، وبالتالي فإن أية أدلة أو براهين نريد إقناع الآخر بها -مهما كانت منطقيتها وعقلانيتها- لا يمكن لها أن تُقنع إلا أتباعَ ذلك المذهب نفسه، وهذا هو ما ينبغي أن يكون عليه منطلق الحوار والتقارب في ساحة الأمة؛ ليقوم على قاعدة تناول نقاط الخلاف بالتي هي أحسن في كل الأحوال، تمشيًا مع قاعدة الحوار: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]؛ منعًا من تبديد طاقاتها الكامنة تحت أي ذريعة، وحرصًا على صيانة وحدة صف الأمة، الذي شرذمتْه التشظيةُ الطائفية المزمنة، ومزقتْه المذهبيةُ المتزمتة، ففوتت عليها فرصة التقدم، وفرضت عليها مغادرة ساحة التأثير، منذ أن فقدت خيريَّتها بين الناس، بعدما تخلت عن وظيفة الأمر بالمعروف، ومنه بالطبع الحرص على وحدتها، والنهي عن المنكر، ومنه بلا أدنى شك التشرذم بشق وحدة صفها المسلم.

اقرأ أيضا  في الحث على حفظ القرآن وتعلمه

 

فإذا أدركنا حقيقة أن الاختلاف بين الناس أمرٌ طبيعي، ولا مفر منه بتاتًا، فعند ذاك يجب أن تكون هناك بيئة اجتماعية إسلامية عامة، تعترف بهذا الاختلافِ بشكل صريح، وتتقبله بمعايير قياسية برحابة صدر، وتستلهم بصدده الأصول والثوابت في الدين، وتتمسك بالمشتركات في الفرعيات منه، وترفض المغالاة في التأويل المغرِض، وتستنكر التطرف من أي طرف كان، وتحت أي ذريعة، على قاعدة: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143].

 

فالصالح العامُّ أن المسلم بحاجة ماسة اليوم إلى تبني فكرة: “أن الناس اليوم هم أبناء الحاضر، وليسوا أبناء تاريخ الصراع المذهبي المسقط على حاضرهم”؛ مما ينبغي معه أن تكون استراتيجية لَمِّ الشمل المسلم فوق أي اعتبارات ذاتية أو مذهبية؛ تقريرًا للحقيقة القرآنية التي ميزت الحال، وحصرت المسؤولية بما كسبه كل حال، على قاعدة: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة: 134]؛ قطعًا لدابر جريان الفتنة في الصف المسلم، وتدفقها عليهم مع الزمن.

 

وإذا كان من المستحيل جمعُ الناس على مذهب واحد، فإن من المهم إذًا أن نحرص جميعًا على أن تكون هناك استراتيجيات عامة، تهدف إلى مواجهة التعصب الذي بدأ يستشري في ثنايا المجتمع المسلم مؤخرًا، وينخر جسده؛ وذلك بقصد الحد من التطرف، ومحاصرته ما أمكن ذلك، بحيث لا يسبب التعصب ضررًا للمجتمعات الإسلامية التي بدأ ينتشر فيها، والعمل على تركيز النظر الجمعي المسلم، على المصالح المشتركة في معرِض الاجتهاد، والبت بالأمور الحساسة، والمبادرة إلى التوعية بمخاطر مثل هذه الظواهر المتطرفة، على أن يتم ذلك عن طريق مؤسساتية فقهية رصينة، ومراكز دينية متخصصة، مثل مركز الحوار بين المذاهب، ومجالس الإفتاء الإسلامية، ومراكز البحوث الشرعية وغيرها، فنتجاوز بذلك سلبياتِ الفتاوى الفردية، والاجتهادات الشخصية، وهو ما تتطلبه على نحو عاجل مقتضياتُ الوضع الراهن المثقل بالتحديات، وتستوجبه ضروراتُ آفاق التطور مستقبلاً؛ لتصب نتائجها في اتجاه احتضان كامل طاقة الأمة، وليس جزءًا منها وحسب، وإيقاف تبديدها؛ استلهامًا لقاعدة: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة: 148]؛ وذلك حرصًا على صيانة وحدة الصف المسلم، والارتقاء بالحال نحو الأفضل، وتفويت الفرصة على كل من يتربص بالإسلام والمسلمين والأوطانِ الدوائرَ.


المصدر : الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.