عداء الاتحاديين والكماليين للدين الإسلامي

الأربعاء 11 ذوالحجة1434 الموافق16 تشرين الأول / أكتوبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

أ. د. مصطفى حلمي 

عداء الاتحاديين والكماليين للدِّين الإسلامي[1]

النص المحقق من كتاب: “النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة” 

إني أنشدكم الله يا أهل الإسلام النائبين عن بلادنا، إن كنتم صحيحي المودَّة والعلاقة بدينكم ودين إخوانكم المسلمين فجِدُّوا في تمييز أعدائه مِن أوليائه، وهادميه مِن خادميه، ولا تغترُّوا بالظواهر، وابعثوا إلى بلادنا التي تَعتنون بشأنها أُمَناء عدلاً وعقلاً، ولا تبعثوهم كالوفد الرسمي تضيفهم الحكومة ولا يُقابِلون أو يماسون إلا رجالها أو تحت رقابة موظفيها، بل لا بدَّ لهم أن يتعمَّقوا فيما وراء ستائر الحكومة، ويتفحَّصوا عن أحوال أهليها المسلمين الخُلَّص، ويَستبطِنوهم حتى يتبيَّن لهم ما كابَدوا مِن الحكومة اللادينيَّة في دينهم ودنياهم، مَغبونين بشيء منهما كل يوم، وحتى يتبيَّن لكم أني صادق أو كاذب فيما ذكرته بين دفَّتي هذا الكتاب، ولعمري إن مَن رُزق فراسة المؤمن الذي يَنظر بنور الله لا يَخفى عليه ما بدأ بمبدأ الاتحاديين ثم امتدَّ حتى اشتدَّ وتفاقم بعد ظهور الكماليين مِن المؤامَرة ضدَّ الإسلام والمسلمين المُخلِصين.

ومِن شدائد المكايد التي جعلَت هذه العداوة المُضمَرة داءً عُضالاً وأغفَلت المسلمين إغفالاً أن أعداء الإسلام لا يزالون يتراءَون في صورة أعداء النصارى، ويتظاهرون بها وهم في الحقيقة أعداء الإسلام والنصرانيَّة معًا، وبالتعبير الوجيز أنهم ملاحدة أعداء الدين على إطلاقه – أي دين كان – لكنهم لدين الإسلام أشدُّ منهم خصومة لغيره؛ لِما أنهم يرون كثيرًا مِن أبناء جنسهم في أَسرِ هذا الدين، ومبدؤهم هدم عقيدة الدين وتخليص بني جنسِهم من ربقته، وما يُرى منهم من ترغيبهم الأتراك إلى دين جدِّهمزردشتالمجوسي، وتحويل صَلاتهم الإسلامية إلى صلاةالذئب الأبيضمعبود الطورانيِّين القديم، وقد اشتهر أمر إدخالهم إياها في الجيش؛ حيث حتَّموا عليه الاصطفاف والجهر بهذه الصلاة عند غروب كل يوم – على ما ذكرتْه جريدةالرأي العامالغراء في العدد 3442 – فإنما ذلك لتبعيد الأتراك عن دين الإسلام وإنسائهم إياه، وإقامة الشعور الجِنسي مقام الشعور الديني لإقامة دين المَجوس مقام دين الإسلام؛ لأنهم لادينيُّون يبغضون الأديان كلها – كما قُلْنا – ويرَون كلها مصنوع البشر، نعم؛ إن المجوسية عندهم أهون شرًّا مِن دين الإسلام؛ حيث لم تكن ربقتها أقوى بقدر ربقته، ومن وراء كل مبدأ لهم – بل قُدَّامه – مبدأ الاستنفاع بالمنافع الحيوية المادية كيفما تحصل لهم تلك المنافع، ولو في مضار البشر الذين يدَّعون إنقاذه مِن أَسرِ الدين؛ حتى إن منابت منافعهم لما رأوها تخصب عندما تخصب بإمطار الدماء وأنهارها فلم يألوا جهدًا، ولم يُهمِلوا وسيلة في تهييج البغضاء وإثارة الفتنة بين الفريقين – أعني المسلمين والنصارى – وكل خسارٍ يحلُّ بهما مِن ذلك فليس بخارج عن مقاصِدِهم ومطالبهم، لا سيما إذا تضمَّن ما يزيد في مكاسبهم، وقد ربحت تجارتهم في ديارنا منذ بضع سنين، ونجحَت مكايدهم في أشكال وصور مختلفة تُحيِّر العقول وتُدهِشها؛ حتى أخبرني ممَّن أثق بهم مِن أهل الأناضول المسلمين أن الحركة الكمالية – مع كون سياقها لإخراج اليونان من الأناضول – كانت في بادئ أمرها لا تؤيدها الأمة، ولا تُمدُّها بغاية وسعها لعدم رجاء الخير والصلاح منهم ومِن حركاتهم، وقد حصل للأمة عظيم النُّفور والانزعاج من حكومة الاتحاديين وما فعلوه أثناء الحرب الكبرى مما يُقلق العباد ويُخرب البلاد، ولم يسلم منه دينهم ودنياهم، وأسأمهم تمادي الحروب إلى ما لا نهاية له، مع أن اليونان كانت يومئذ تَرفُق بأهل البلاد التي احتلَّتْها وتُجامِلها، وتهتمُّ بتأسيس الأمن والانتظام بينهم، فدام الحال على ذلك المنوال تمتد وترتقي حركات اليونان في داخل الأناضول، ويتوالى تقهقُر الكماليين على مرِّ الشهور والأعوام، والأمة في كسل الملَل والسأم حتى بدا للكماليِّين أن يَعتدوا بالقتل والنهب على الأروام مِن سُكان المدن والقرى اللاتي يَنسحِبون منهنَّ ويتركونهنَّ إلى جنود اليونان ليطَّلعوا على ذلك ويَنتقِموا مِن المسلمين بأمثال ذلك الاعتداء، فكان كما عمدوا وعمَّت البلايا على المسلمين والنصارى مِن جنود الطرفين، واشتدَّ الخِصام بين الفريقَين، وانتشرت الأخبار المُفجِعة بما يملأ السامع من قريب أو بعيد، فأيقن المسلمون الهلَكَة ووخامة الحالة، وشمَّروا عن ساق الجدِّ وتمام الاهتمام حتى انهزَم جيش اليونان، والحرب خدعة، والناجح فيها صاحب بدعة، ولكن هذه البدعة والخدعة فجيعة جدًّا؛ بحيث لا تميل القلوب إلى تصديق وقوعها، ولا يُبالي الاتحاديون والكماليون أن بالَغوا في فتنة الناس ومكيدتهم حتى أتوا فيه بالعجَب العُجاب اتِّكالاً على أنها مهما ازدادت غرابة زادتْهم نجاحًا، ويستبعدها مَن سَمعِها مِن بعيد، وربما يُكذبها فتسهل البراءة مِن مسؤوليتها، بل تَنقلِب التُّهمة على القائل الناقد بدلاً مِن الفاعل الموجد، ولا سيما وعلى مُنتقديهم التُّهمة المجهَّزة دائمًا مِن موالاة النصارى؛ لكون أنفسهم أعداءها فيما يتراءى، وكثير مِن الناس مولعون ببناء الفاسد على الفاسد، وما سُوق الرئاء كسوق الحقيقة كاسد، ومما يَروق ظاهرُه كثيرًا مِن الناس أنه بعد غلبة الحركة الكمالية اضطرَّ غير المسلمين إلى الخروج مِن تركيا وتركوا أوطانهم[2]، وتقرَّر في مؤتمرلوزانمبادلة مَن بقي في الأناضول مِن الأروام بالمسلمين الساكنين في بلاد اليونان، فهذه الوقائع التي أدَّى إليها نجاح الكماليين في الحرب والمؤتمر تُنبئ ظواهرها عن خدمة العصبيَّة الإسلامية والحصول على وحدتها، لكن لهم في ذلك مقاصِد أخرى كتسليط “روم إيلي” المنتمين إليهم بعودتييهم وسلانيكييهم – وبينهم أقارب مصطفى كمال وخواص أعوانه – على أتراك الأناضول ليَكونوا عونًا لهم متمكِّنين ومُتوطِّنين في جميع أنحاء الأناضول، فيدوم نفوذهم وتَغلبهم عليهم إلى ما شاء الله[3].

اقرأ أيضا  ضرورة العناية بأساليب ومنهجية النصرة لله ولكتابه ولرسوله عليه الصلاة والسلام

 

ومِن أعظم المقاصد أن سوق مكاسبهم طالما تنفق وتفيض مِن هذه المبادلات التي تَشتمِل على مبادلة الإنسان والأوطان بلا اختيار المُبدلين أنفسهم، ولا بأس عليهم إن ماتت مئات وألوف مِن الطرفين المُبدلين بنسوتهم وأطفالهم وشيوخهم وضعفائهم – مِن بَردِ الشتاء وتأثير المجاعة والأمراض المتولدة مِن سوء القيام بأمورهم، وعدم الانتظام، وطول المكث في الطرقات لنقصان المراكب ورداءتها، وفقدان الآلات والوسائط، وفي جريدةالوطنالتركية بعددها 302 نشرت شكوى مِنبروسةلأحد مِن المهاجرين المستبدلين بأوطانهم، يقول فيها: “إن في بروسة “2000” منازل منتظمة للأروام المهاجِرين، لكن موظفي الحكومة شغلوهم لأنفسهم، وأحلَّ المهاجرون بالمنازل الخَرِبة لا أبواب لبيوتها، ولا زجاج في نوافذها، وفي كل يوم يموت من المهاجِرين ثلاثون نسمة فصاعدًا، وقِس على بروسة عدد مَن يموت في غيرها مِن البلاد؛ فهذه الوفيات التي تطالعنا بها – على كثرتها الهائلة – صحُف الأستانة إنما يكون تأثيرها في قلب الحكومة الكمالية كما وقع مِن التأثير في قلب المرحوم “خواجة نصر الدين”، لما تعهد أن يُجاوز بنفر مِن العميان نهرًا على أن يأخذ لكلِّ نفْس منهم فلسًا فسقط أحدهم عند العبور بهم في النهر فصاح رفاقه، فقال “خواجه”: لا تجزعوا وانتقصوا مِن الأجرة فلسًا.

اقرأ أيضا  - فضل صلة الرحم

 

وناهيك[4] دليلاً على أن عُمدتهم في مثل تلك الأفعال والحركات غير الفِكرة الإسلامية وخدمتها أنه لو كان كذلك لما تهكَّموا في تبعيد العناصر غير المُسلمة عن ساحة الأمة، وهم كانوا يَعتذرون مِن قبل عن إهمالهم بكثير مِن الأحكام الشرعية في إجراءات الحكومة ومفاوضات البرهان، قائلين بأن الحكومة تحت يدها عناصر مختلفة، وإن مجلس الأمة الذي ينظم فيه قوانينها مؤلَّف مِن النواب المسلمين وغيرهم، فها هو ذا الآن مجلس المسلمين، والديار ديارهم بعد إخراج غيرهم منها، فكانت فرصة لأن تنصبغ الحكومة بالصبغة الإسلامية، لا فرصة لأن تنسلخ منها، فهل كان وجود حكومة الخلافة في أرضِنا للتبعة غير المسلمة حتى ذهبَت بذهابهم، أو كانت المَحاكم الشرعية موضوعة لهم حتى استُغني عنها بعدهم، فحُووِل إلغاؤها، وهل واجب المسلمين ألا يأذنوا لإقامة النصارى في أرضهم أو إقامة أحكام الإسلام فيها؟ وماذا يضرُّهم الكفار عندما اختاروا لأنفسهم الكفر بعد الإسلام، نعم؛ إن الكفر المختار عندهم الإلحاد لا النصرانيَّة، وإن القيود مِن هذه المُبادلات مع ما ذكرنا مِن المقاصد المضمرة عبارة عن التصفية الجِنسية “الترك” لا التصفية الإسلامية، ولهم في التصفية الجنسية غايتان: الافتراق عن الإسلام وعن الأقوام المسلمين، وربما يَحصُل لهم بها اقتراب إلى الأمم الأوربائية.

 


[1] مقال الأهرام يوم 3 من أكتوبر 1923م.

[2] يُعلِّق شكيب أرسلان على ذلك بقوله: “ولقد كانت في السلطنة العثمانية عشرات ملايين مِن المسيحيين يعيشون وافرين مُترفِّهين كاسبين متمتِّعين بامتيازات كثيرة مدة عمل الأتراك بالشرع الإسلامي، فلما جاءت الجمهورية التركية الحاضرة وبطَلَ العمل بالشرع وأخَذ الترك بأوضاع الإفرنج وقلَّدوهم في كل شيء، وتحوَّلوا إلى سياسة “التمغرُب” لم يبقَ في جميع الأناضول إلا فئة قليلة جدًّا مِن المسيحيِّين، وهذا برهان ساطع على سماحة الشرع الإسلامي، وإمكان تساكن المسلم والمسيحي واليهودي في ظله بالأمان والاطمئنان، وعدم سماحة الطريقة الأوربية التي أخذ بها الترك”؛ “حاضر العام الإسلامي” (3: 328)، وكأن الأمير شكيب – رحمه الله تعالى – يقدِّم هذه الحجة المستندة إلى التاريخ بوقائعه المجربة إلى أولئك الذين يعترضون الآن على تطبيق الشريعة بحُجَّة الأقليات.

اقرأ أيضا  الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. رؤية جديدة

[3] وهذه إحدى خطط مصطفى كمال التي كشَف عنها المؤلف، ولا نظنُّ أن معاصريه تنبهوا إليها؛ إنهم كانوا بمثابة “الطابور الخامس” في أنحاء الدولة العثمانية، فيزداد الأمر وضوحًا إذا عرفنا أن كثيرًا من الأجانب نساءً ورجالاً، دخلوا البلاد وغيَّروا أسماءهم بأسماء إسلامية، ووصَلوا إلى أعلى المناصب في الدولة، وأطلعوا أعداءها على أسرارها، وعملوا على تدميرها.

مصطفى كامل: المسألة الشرقية (ص: 11)، مطبعة الآداب بمصر سنة 1898م.

[4] وإحداث المَشاغل والغوائل والفِتَن، والتفرقة بين الأمم، وإثارة العداوة، وإيقاد نيرانها بين المسلمين وغير المسلمين حرفة وتِجارة لهم، أي الفريقَين يظفر أو يخسر، فإن لهم مغانم ومكاسب في تلك الحركات والتحريكات، وهم يدعون عصبية الإسلام، ثم يُريدون أن تكون الحكومة والحاكمية لهم لا للدين؛ فلهذا فرَّقوا بين الخلافة والحكومة، وصرَّحوا بقَطعِ تدخُّل الدين في الشؤون الدُّنيوية والسياسية؛ فهم مع دعوى الغيرة الإسلامية يُزاحمون دين الإسلام في الحكم والنفوذ ومقاومة الحقوق السياسية، ويعادونه لذلك، وكيف تجتمع المحبة والعصبية للمسلمين مع المنافسة والخصومة لدين الإسلام واغتصاب الحكم والنفوذ من يده؟ مع أن محبة المسلمين يجب أن تكون لدِينهم لا لأنفسهم، ولا بد للمسلمين أن يُمعنوا النظر في هذه النقطة الدقيقة – [وهي النقطة التي تعدل الشغل الشاغل لشيخِنا؛ فقد بُحَّ صوته من كثرة ما ردد لتنبيه المسلمين إلى بدعة ما استحدثه الكماليون حينما فصَلوا بين الخلافة والسلطنَة، وجرَّدوا الخليفة مِن سلطاته، ونزعوا من الإسلام الحاكمية والهيمَنة على شؤون الحياة المدنية والسياسية، وإذا نظرنا إلى أحوال المسلمين اليوم لوجدْنا أن نجاح الغرب في تحويل الأمة الإسلامية عن عقيدتها يقوم على هذه النقطة الدقيقة، ولا يقيس مدى نجاحه أو فشله في حركة التغريب، وها نحن نرى الشيخ مصطفى يؤكِّد حاكمية الدين عمن سواه] – حتى يتبيَّن عندهم الصادق والكاذب في دعوى المحبَّة؛ فالاتحاديون الكماليون مهما طلبوا المجد والاستقلال فإنما طلبوهما لإعزاز أنفسهم بجلب المنافع الدنيوية المحضة لا لإعزاز الدين وإعلاء كلمة الله، بل قصدوا بعد ذلك إهانتهما، فغايتهم أن تكون لهم العزة والقوة ولدين الله الفشل والهوان، فإذًا ماذا يصل إليَّ وماذا يصل إلى الله من نجاحهم، والله تعالى يقول: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر: 10]. (م. ص).

المصدر : الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.