الدعوة الإسلامية ميدان الإصلاح الأول
الخميس10 محرم1435 الموافق14 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
1- الإصلاح في اللغة والقرآن والسنة:
الصلاح والإصلاح: ضد الفساد ونقيضه، وهي مصطلحات شرعية ربانيَّة، أوْرَدَها الله تعالى في كتابه المحكَم العزيز، وجاءتْ في القرآن على نحو كبيرٍ يربو على السبعين بعد المائة من آيات القرآن، ووصف بها العمل أحيانًا؛ كما قال تعالى: {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120]، وقال تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]، وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60]، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67]، إلى غير ذلك من آيات القرآن.
كما وصَف الله تعالى الداعين الناسَ إلى منهج الله وشرائعه، القائمين به دينًا وعملاً بـ(المصلحين)؛ أي: الساعين إلى الإصلاح فيما وقعتْ فيه البشرية من الانحراف والبُعد عن صراط الله المستقيم وشرائعه؛ كما قال تعالى عن نبيه شُعيب – عليه السلام -: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
وكذلك الحال لَما استخلف نبي الله موسى أخاه هارون – عليه السلام – في قومه أوصاه بقوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] ، وكذلك أخبر الله عن حال قومه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170] ، وقال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116، 117].
والمتأمِّل لهذه المادة (مادة: صلح، يصلح)، وما خرج منها؛ (كأصلح، يصلح، صالحين، مصلحين، يصلحون، صالحات، وغيرها)، كما جاءت في كُتُب المعاجم واللغة؛ كـ“اللسان“، و“الصحاح” وغيرهما، يجد أنها تعود في جُملتها إلى استقامة الشيء وصلاحه، واستقامة الإنسان والنفس على المكارم والأخلاق الفاضلة، وإلى النَّهْي عن ضده من الانحراف والفساد في الأرض، ونفي الشحناء والبغضاء من القلوب؛ كما قال تعالى مُبَينًا ذلك في آياته المنزلة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39]، ويقول: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146]، ويقول: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119].
وكذلك في النهي عن الفساد في الأرض قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
وكذلك الإصلاح بين المتخاصمين أو المتنازعين في الأمر؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]، وقال تعالى أيضًا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]، وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا} [الحجرات: 9] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، وقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
أما السُّنَّة النبوية ففيها من هذا الباب في الإصلاح والاستقامة والدعوة إلى الخير وإقامة الحق الشيءُ الكثير أيضًا، فمن ذلك ما جاء في صحيحي الإمامين البخاري ومسلم – رحمهما الله تعالى – عن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها -: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم – فقال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبْره مسْجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)).
وعن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله))، فقيل: كيف يستعمله يا رسول اللّه؟ قال: ((يوفقه لعمل صالح قبل الموت))؛ أخرجه الترمذي والبغوي في “شرح السنة“.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))؛ رواه مسلم.
وعن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ منَ الناس، فمَن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحتْ صلح الجسدُ كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلْب))؛ رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما -: أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزءٌ من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة))؛ رواه أبو داود وأحمد بسند حسن، وصححه الألباني.
وعن عبدالله بن عمرو – رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة))؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((قال الله – عز وجل -: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، مصداق ذلك في كتاب الله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِي لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يعْمَلُونَ} [السجدة: 17]))؛ رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر))، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء))؛ رواه البخاري والترمذي.
وعن مرداس الأسلمي – رضي الله عنه – قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير – أو التمر – لا يباليهم الله بالة))؛ رواه البخاري.
وجاء في صفة أهل الغُربة في هذه الأمة في آخر الزمان عدة نصوص وأحاديث؛ منها هذا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء))، وهو حديث صحيح ثابت عن رسول الله – عليه الصلاة والسلام – ورواه أحمد من حديث ابن مسعود وفيه: ومَن الغرباء؟ قال: ((نزاع منَ القبائل))، وفي رواية: ((الغُرَباء الذين يصلحون إذا فسد الناس))، وللترمذي من حديث كثير بن عبدالله عن أبيه عن جده: ((طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس مِن سُنتي ))، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لنا ذات يوم ونحن عنده: ((ماذا للغرباء؟))، فقيل: مَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ((أناس صالحون في أناس سوء كثير، مَن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم))؛ رواه أحمد والطبراني بسند صحيح.
فمِن كل هذه النصوص الواردة في القرآن والسنة، والتي مدارها على الصلاح والإصلاح، يستبين لنا أن هذا الباب يجب أن يكونَ محل البحث والنظر والاهتمام؛ لأنه من الأبواب الكبيرة والجليلة التي احتوتْها كثير من النصوص والأدلة كما سبق.
والمتأمِّل في هذا أيضًا يدرك – من خلال تنوُّع النصوص واستخدام مادة الصلح والإصلاح فيها – يدرك أن الإصلاح ميدانٌ كبير وواسع، يتعلق بكثير من شؤون الإنسان؛ من حيث استقامتُه مع الله تعالى، ومع الخلْق، ومن حيث استقامةُ عمله وعبادته، وكذلك استقامة وصحة اتجاهه ومنهجه، وعقيدته وأخلاقه، وإلا تحوَّل كلُّ ذلك إلى نوعٍ من الانحراف عن الهدى والصراط المستقيم، ونوع من أنواع الفساد في الأرض وفي المنْهج والمعتقد.
وواقع المسلمين اليوم يُنبئ عن وجود حاجةٍ وضرورة ماسَّة وملحَّة إلى هذا الإصلاح، حيث تجاذب الاتجاهات الكثيرة، والفرَق والأحزاب وغيرها إلى ميدان الإصلاح، وما يتعلق به من قواعد ومناهج ووسائل، ولا ريب أن هذه الاتجاهات كلها لديها من المسوغات والاستدلالات ما تُؤَكِّد به على حتميَّة وُجُود الإصلاح في شتى ميادين الدِّين والدنيا، سواء كان ما تملكه من هذه القواعد والمناهج فيه حق بيِّن واضح، أو فيه ألوان وصور من التخبُّط والانحراف الجارف.
وإن أوْلى المناهج والدعوات والاتجاهات المعاصرة اليوم بهذا الإصلاح المرتقب: أهلُ الدعوة والحق، المستمسكون به، الداعون إليه، الراجون ثوابه وثمرته، وأعني بهم: الدعاة إلى منهج الله تعالى، والاعتصام بهدْي الكتاب والسنة بما كان عليه سلَف الأمة من قبلُ، كما دلتْ على ذلك الأدلة والنصوص.
2- مدارس إصلاحية متناقضة:
والمنادون اليوم بالإصلاح وضرورته يعلمون جيدًا أن ميادين الإصلاح كثيرة وواسعة، تبدأ من إصلاح الفرد، وتنتهي بإصلاح المجتمع والأمة، ويشمل الإصلاح ما يتعلق بالفرد والمجتمع والاقتصاد والسياسة وغيرها، ولا يقوم به اليوم فرد من أفراد الأمة الإسلامية بذاته، بل إن الحاجة إلى التعاون والاجتماع فيه أمرٌ واجبٌ ومُلحٌّ، استوجبتْه ضرورات الواقع الإسلامي اليوم.
ولكن في ذات الوقت تتجاذَب هذا المصطلحَ القرآنيَّ والنبويَّ أيدٍ خفيةٌ ماكرة، وتلهو بالأمة من خلاله، ويقعون في صور من الانحراف والتخبط عما زعموه من الإصلاح، بل ويتفقون ويتعاونون فيما بينهم على ذلك، من أمثال العلمانيين، والليبراليين، والشيوعيين، والحداثيين وأذنابهم؛ كما جاء به القرآن:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12].
وهذه الفئات تزعم أنها تريد إصلاح المجتمعات، وبناء الأمة، وتخليصها مما شابها منَ التخلُّف الحضاري والتقني وغير ذلك، وترى أن التحرُّر – المزعوم – من الدِّين، والانفلات مِنْ قُيُوده، هو الباب الأَوْحد لهذا الإصلاح الحضاري المرتقب، ولا ريب أن هؤلاء واهمون متهافتون.
لأن تاريخ الأمم الغابر من أمثال الحضارات البائدة؛ كقوم عاد، وثمود، وفراعنة مصْر، وغيرهم، لما خالفوا دعوة التوحيد والعبوديَّة، ودعوة الإصلاح المنزلة من السماء، على أيدي الأنبياء والرسل – عليهم السلام – ما أغنى عنهم ما زعموه من حضارة أو تقدم، والقرآن دليل واضح البرهان في هذا؛ كما قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ *فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 15، 16]، فهذا حديث القرآن في شأن قوْم عاد، وما آل بهم من كبر وبطش واستعلاء بغير الحق، حتى حقَّ عليهم وعيدُ الله تعالى وعقابه، وكذلك قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ *وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 6 – 14].
ولكن على الجانب الآخر يظهر لنا مدرسة جديدة تنادي بالإصلاح والتغيير والبناء والعطاء، لما أَلَمَّ بالأمة الإسلامية من ضعْف وركون، ولِمَا أصابها من تخلُّف وانحراف عن المنهج الصحيح الواضح، ولكنهم يريدون ذلك الإصلاح المنشود وفْق ما تأثروا به وأُعْجِبُوا من واقع الغرب الحديث، أو ما تأثروا به من فرَق الكلام؛ كالمعتزلة، والأشاعرة، وأول رُواد هذا المدرسة الحديثة السيد أحمد خان الهندي المتوفَّى في 1897م، ثم تبعه جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني، وتبعه كذلك شيخ الأزهر الأسبق الإمام محمد عبده، ثم مَن سار على هذا الدرْب، من أمثال: محمد مصطفى المراغي، ومحمود شلتوت، ومحمد فريد وجدي، وغيرهم كثير.
ولكن ثَم حاجة مُلحة إلى عملٍ إصلاحي كبير، ينهض بالأمة مِن رقادها، ويشد من عزْمها نحو الإسلام من جديد، فكانتْ دعوة الشيخ حسن البنا – رحمه الله تعالى – في هذا الميدان من أبرز ما ظهر، حيث أنشأ جماعة الإخوان المسلمين، والتي قامتْ في مصر بجهود متعددة ومنوعة في هذا الاتجاه نحو الإصلاح، لكن دعوة الشيخ البنا كانتْ متأثِّرة بدعوة محمد عبده والأفغاني، إلى كونها متأثرة من جانب آخر ببعض الفرَق التي شابها الغلوُّ والانحراف في مدرسة التصوُّف والأحزاب السياسية، مع رفض الشيخ لما عليه المتصوفة من غلوٍّ وانحراف، ثم تأثر الجماعة أيضًا بواقع الأحزاب السياسية، مما أدخلها في طريق ابتعد بها كثيرًا عن ميادين التغيير والإصلاح، ومن ثَم تعددتْ جماعات أخرى، كل وفق ما تصور وأراد، مع تنوُّعها في سائر البلاد، من أمثال مشروع مالك بن نبي المفَكِّر الجزائري المعروف.
لكن يبقى هنا أن الله تعالى لا يسلم الناس إلى الشر المحض، ولا إلى أهْل الأهواء والانْحرافات؛ لأنَّ الحق وأهله قائمون به في هذه الأمة؛ كما جاء في الحديث: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة بالحق ظاهرين))… الحديث.
3- الدعوة ميدان الإصلاح الأول:
ومع تعدد ميادين الإصلاح وتنوُّعها ما بين دينية واجتماعية، وسياسية واقتصادية، إلا أنه لا يقوم بكل ذلك في آن واحد أو يجمعها جمعًا رفيقًا صحيحًا إلا دعوة الحق والإسلام؛ {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]؛ لأن جُلَّ هذه الميادين والقائمين عليها، سرعان ما تهوي وتنحدر بهم نحو الفناء؛ لأنها قائمة على غير منْهج منَ الله تعالى، وعلى غير بصيرة بشريعته ودينه، ولعلَّ واقع الأمة اليوم خير شاهِد على هذه الحقيقة الواضحة.
فالذين ينادون بالإصلاح لا يجعلونه عامًّا وشاملاً، وإنما يقفون منه موْقفًا تجزيئيًّا؛ حيث إنهم لا يلتفتون إلى كلِّ ميادين ومجالات الإصلاح الصحيح، فترى منهم من قاعدة انطلاقه المجالات الاجتماعية والاقتصادية، والتكافُل فيها، من رعاية الفقراء والأيتام، والأرامل والمساكين، وإقامة الجمعيات الخيريَّة والتعاونيَّة، ومحارَبة البطالة والفقر، وصناديق الاستثمار وغيرها، وهذا واجب ولا ريب، لكنه لا يعدو أن يكونَ طريقًا واحدًا في هذا الميدان الكبير.
ونرى من قاعدة انطلاقه من المجالات السياسية، فينطلق يؤسِّس أحزابًا ووطنيات وقوميات، ويخوض الصراع الكبير مع أصحاب السياسات والأهواء في غالب أحوالهم، ويمتد الصراع إلى أمدٍ طال أو قصر، حتى يؤولَ الأمر إلى تفرُّق وتشرْذُم، وعصبيَّة جاهليَّة بغيضة، لا تُغَيِّر واقعًا، ولا تبْنِي مصيرًا، ولا تصلح خرابًا، ولا تهدي مَن ضلَّ عن سواء السبيل؛ لأن هؤلاء أرادوا إصلاحًا، لكن منَ القمة لا منَ القاعدة الراسخة.
لقد عُرض على النبي – صلى الله عليه وسلم – الملك والسلطان، والمال والسيادة أول أمره ودعوته، لكنه أعرض عن كل هذا، واتجه نحو البناء والتغيير للنفس البشرية مباشرة، دون تدخُّل واسطة ليس لها في النفس شأن ولا بنيان، وصمد حتى أذن له بالهجرة المباركة إلى المدينة، فكانت هناك السيادة والملك والسلطان، ولكن بأهل العقيدة الراسخة، والأنفس الزكية الطاهرة، التي أرادت الحق وبذلتْ له أرواحها وأموالها، وكل ما لديها من مقومات الحياة.
ولا سبيل إلى حقيقة الإصلاح والنهوض اليوم في كل مجالات الحياة الإسلامية وصورها، إلا أن تقوم جماعة – أعني: فريقًا من الأمة بالمعنى الشرعي – تحمل على عاتقها أمانة العودة والتغيير والإصلاح على منهاج النبوة الأول، ولا يتأتَّى ذلك إلا بالأصْل الأصيل، والطريق القويم – الدعوة إلى الله تعالى على منْهج السلَف الصالح – مع كمال الاستقامة عليه؛ {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
والواقف بعين البصيرة مع السيرة النبويَّة المباركة يتجلَّى له بوُضُوح هذه الحقيقة الكبيرة، حقيقة إقامة الحياة الإسلامية بمنْهج الدَّعْوة إلى الله تعالى.
فبَعْثة النبي – صلى الله عليه وسلم – كانت في جزيرة العرب التي حلتْ بها كثيرٌ من البلايا والرزايا في الاعتقادات والمعامَلات، والأخلاق والسلوكيات، مع وجود بقايا لا تنكر من المروءة والأخلاق، لكن حياتهم ساد فيها صور وألوان من الترَدِّي في العقل والمعتقد مما جعلهم يعبدون حجرًا لا يسمع ولا يبصر من دون الله تعالى، بل وتعددت الآلهة بتعدُّد أصحابها حتى سخروا من النبي – صلى الله عليه وسلم – وقالوا:{أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
وكذلك أكلهم الرِّبا، والظلم الاجتماعي، وانتشار الفواحش والمنكرات المعلَنة بلا حياء أو خجل أو خوف مِن عقوبة، فاستلزم ذلك بعثة ربانيَّة تعيد البشريَّة إلى مسارها، وتقوّم ما اعْوَجَّ مِن دينها، وما فسد من أخلاقها ومعاملاتها، وما انحرفت فيه بأفهامها، فكانت دعوة التغيير والإصلاح، ودعوة البناء والهداية، ودعوة الخير والرشاد دعوة الإسلام؛ {وَبِالْحَق أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء: 105].
فقام النبي – صلى الله عليه وسلم – معلنًا عبودية الله تعالى وحده من دون الآلهة الباطلة، وصبر وثبت وأوذي كثيرًا، وظلَّ في دعوته ومنهجه، يدعو الناس، ويعلم الناس، ويذكر الناس، حتى قامت دعوتُه خير قيام على ثرى المدينة المنورة، وما شرع الجهاد في سبيل الله تعالى، إلا بعد هذا الميدان الكبير من الدعوة الخالصة، والصبْر على عنت أهْل الكُفر وضلالهم.
والمشككون في هذا الطريق اليوم ليسوا على شيء؛ لأنَّ التاريخ خير شاهِد، والقرآن والسنة خير دليل، والواقع الأليم اليوم يثبت كل ذلك، فلا سبيل اليوم إلا طريق المصلحين السابقين من الأنبياء والمرسلين، وفي مُقَدّمتهم النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه – رضي الله عنهم.
المصدر:الألوكة