بلاغة القرآن

السبت12 محرم1435 الموافق16 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

منهج التفسير القديم وعلاقته بالشعر الجاهلي
علم تفسير القرآن كما أسسه القدماء لا يقوم على مقارنة الأساليب؛ اعتماداً على شعر الجاهلية أو شعر غير الجاهلية، وإذا اقتضتنا الحاجة أن ندخل تعديلاً على منهج التفسير القديم، فإنه عندئذ تعديل لا علاقة له البتة بالشعر الجاهلي، لا من قبل الشك في صحته، ولا من قبل مقارنة الأساليب الجاهلية بأسلوب القرآن.

وكل ما عند القدماء من ذكر الشعر الجاهلي في تفسيرهم؛ فهو أنهم يستدلون به على معنى حرف في القرآن، أو بيان خاصة من خصائص التعبير العربي، كالتقديم والتأخير والحذف وما إلى ذلك، وهذا أمر يصلح له شعر الجاهلية كما يصلح له شعر الإسلام.
وغاية علم تفسير القرآن كما ينبغي أن يُعلم، إنما هي بيان معاني ألفاظه مُفْردة، وجُملة مُجتمعة، ودلالة هذه الألفاظ والجمل على المباني، سواءٌ في ذلك: آيات الخبر والقصص، وآيات الأدب، وآيات الأحكام، وسائر ما اشتملت عليه معاني القرآن؛ وهو أمر عن «إعجاز القرآن» بمعزل.
أما الأمر المرتبط بالشعر الجاهلي، أو بقضايا الشعر جميعاً، والمتصل بأساليب الجاهلية وغير الجاهلية، وأساليب العربية وغير العربية ومقارنتها بأسلوب القرآن؛ فهو: علم «إعجاز القرآن»، ثم «علم البلاغة».

حقيقتين لدارس «إعجاز القرآن»

ولا مناص لمتكلم في «إعجاز القرآن» من أن يتبين حقيقتين عظيمتين قبل النظر في هذه المسألة، وأن يفصل بينهما فصلاً ظاهراً لا يلتبس، وأنْ يُميِّز أوضح التمييز بين الوجوه المشتركة التي تكون بينهما:
أوهما: أن «إعجاز القرآن» كما يدل عليه لفظه وتاريخه، وهو دليل النبي صلى الله عليه وسلم على صدق نُبوَّته، وعلى أنه رسول من الله يوحى إليه هذا القرآن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف «إعجاز القرآن» من الوجه الذي عَرَفَه منه سائر من آمن به من قومه العرب.
وأنَّ التحدي الذي تضمنته آيات التحدي من نحو قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنت صادقين فإن لم يستجبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا الله فهل أنتم مسلمون).
وقوله: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) إنما هو تَحَدٍّ بلفظ القرآن ونظمه وبيانه لا بشيء خارج عن ذلك، فما هو بتحد بالإخبار بالغيب المكنون، ولا بالغيب الذي يأتي تصديقه بعد دهر من تنزيله، ولا بعلم ما لا يدركه علم المخاطبين به من العرب، ولا بشيء من المعاني مما لا يتصل بالنظم والبيان.
ثانياً: أن إثبات دليل النبوة، وتصديق دليل الوحي، وأن القرآن تنزيل من عند الله، كما نزلت التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من كتب الله سبحانه، لا يكون منها شيء يدل على أن القرآن معجز.
ولا أظن أن قائلاً يستطيع أن يقول: «إن التوراة والإنجيل والزبور كتب معجزة بالمعنى المعروف في شأن إعجاز القرآن؛ من أجل أنها كتب منزلة من عند الله».
ومن البَيِّن أن العرب قد طُولبوا بأن يعرفوا دليل نبوة رسول الله، ودليل صدق الوحي الذي يأتيه بمجرد سماع القرآن نفسه، لا بما يجادلهم به حتى يُلْزمهم الحُجة في توحيد الله، أو تصديق نبوته، ولا بمعجزة كمعجزات إخوانه الأنبياء مما آمن على مثله البشر.
وقد بيَّن الله في غير آية من كتابه أن سماع القرآن يَقْتضيهم إدراك مُباينته لكلامهم، وأنه ليس من كلام بشر، بل هو كلام رب العالمين، وبهذا جاء الأمر في قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى «يسمع كلام الله» ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون).
فالقرآن المُعجز هو البرهان القاطع على صحة النبوة، أما صحة النبوة فليست برهاناً على إعجاز القرآن.
والخلط بين هاتين الحقيقتين، وإهمال الفصل بينهما في التطبيق والنظر، وفي دراسة «إعجاز القرآن»، قد أفضى إلى تَخْليط شديد في الدراسة قديماً وحديثاً، بل أدى هذا الخلط إلى تأخير علم «إعجاز القرآن» و»علم البلاغة» عن الغاية التي كان ينبغي أن ينتهيا إليها.

اقرأ أيضا  وقفة مع آيتين من كتاب الله

سماع القرآن حُجَّة تُلْزم الإيمان به

حين فَجَأ الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء، وقال له: «اقرأ»، فقال: «ما أنا بقارئ»، ثم لم يزل به حتى قرأ: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)، رجع بها وهو يرجف فؤاده، فدخل على خديجة فقال: «زملوني زملوني»، فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوع؛ وذلك أنه قد أتاه أمر لا قِبَلَ له به، وسمع مقالاً لا عهد له بمثله، وكان رجلاً من العرب يَعْرف من كلامها ما تَعْرف، ويُنْكر منه ما تُنْكر.
كان هذا الرَّوع الذي أخذه أول إحساس في تاريخ البشر بمُبَاينة هذا الذي سمع، الذي كان يَسْمع من كلام قومه، والذي كان يَعْرف من كلام نفسه.
ثم حمى الوحي وتتابع، وأمره ربه أن يقرأ ما أنزل عليه على الناس على مُكْثٍ، فتتبع الأفراد من عشيرته وقومه يقرأ عليهم هذا الذي نزل إليه.
ولم يكن من بُرْهانه، ولا مما أُمر به أنْ يُلْزمهم الحُجة بالجدال حتى يؤمنوا أنما هو إله واحد، بل طالبهم بأن يؤمنوا بما دعاهم إليه، ويُقِرُّوا له بصدق نبوته بدليل واحد؛ هو هذا الذي يتلوه عليهم من قرآن يقرؤه.
ولا معنى لمثل هذه المطالبة بالإقرار لمجرد التلاوة، إلا أنَّ هذا المقروء عليهم كان هو في نفسه آية فيها أوضح الدليل على أنه ليس من كلامه هو، ولا من كلام بشر مثله، ثم أيضاً لا معنى لها البتة إلا أنَّ يكون كان في طاقة هؤلاء السامعين أنْ يُميزوا تمييزاً واضحاً، بين الكلام الذي هو من نَحْو كلام البشر، والكلام الذي ليس من نَحْو كلامهم.
وهذا دليل يقطع بأن هذا الكلام مُفارق لجنس كلام البشر من وجه واحد؛ هو وجه البيان والنظم، وإذا صح أن قليل القرآن وكثيره سواء من هذا الوجه، ثبت أن ما في القرآن جملة من حقائق الأخبار عن الأمم السالفة، ومن أنباء الغيب، ومن دقائق التشريع، ومن عجائب الدلالات على ما لم يعرفه البشر من أسرار الكون إلا بعد القرون المتطاولة من تنزيله، كل ذلك بمعزل عن الذي طُولب به العرب، وهو أن يَسْتبينوا في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم البشر وبيانهم، من وجه يحسم القضاء بأنه كلام رب العالمين.
فمن هذا الوجه كما ترى طُولب العرب بالإقرار والتسليم، ومن هذا الوجه تَحَيَّرت العرب فيما تسمع من كلام يتلوه عليهم رجل منهم، تجده من جنس كلامها؛ لأنه نزل بلسانهم لسان عربي مبين، ثم تجده مُبايناً لكلامها، فما تدري ما تقول فيه من طغيان اللدد والخصومة.

اقرأ أيضا  البلاغة في آيات خلق الجبال وخاصية التربة في الإنبات

البلاغُ القاطع الذي لا مُعقِّب له

وظل الوحي يتتابع وهو يتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ثم بعشر سور مثله مفتريات، فلما انقطعت قواهم قَطَع الله عليهم وعلى الثقلين جميعاً مَنَافذ اللَّدد والعناد، فقال: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).
وكذلك كان؛ فكان هذا البلاغ القاطع الذي لا مُعقِّب له هو الغاية التي انتهى إليها أمر هذا القرآن، وأمر النزاع فيه، لا بين رسول الله وبين قومه من العرب فحسب، بل بينه وبين البشر جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، لا بل بينه وبين الإنس والجن مُجْتمعين متظاهرين، وهذا البلاغ الحق الذي لا معقب له من بين يديه ولا من خلفه، هو الذي اصطلحنا عليه فيما بعد وسميناه «إعجاز القرآن»، وإنه ليكشف عن أمور لا غنى لدارس عن دراستها:
الأول: أنَّ قليل القرآن وكثيره في شأن «الإعجاز» سواء.
الثاني: أنَّ «الإعجاز» كائنٌ في رَصْف القرآن وبيانه ونظمه، ومُباينة خصائصه للمعهود من خصائص كل نَظْم وبيان في لغة العرب، ثم في سائر لغات البشر، ثم في بيان الثقلين جميعاً إنسهم وجنهم مُتظاهرين.
الثالث: أنَّ الذين تَحَدَّاهم بهذا القرآن، قد أُوتوا القدرة على الفصل بين الذي هو من كلام البشر، وبين الذي هو ليس من كلامهم.
الرابع: أنَّ الذين تَحَدَّاهم به، كانوا يُدركون أنَّ ما طُولبوا به من الإتيان بمثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، هو هذا الضَرْبُ من البيان الذي يجدون في أنفسهم أنه خارجٌ من جنس بيان البشر.
الخامس: أنَّ هذا التحدي لم يُقصد به الإتيان بمثله مُطابقاً لمعانيه، بل أنْ يأتوا بما يستطيعون افتراءه واختلاقه من كل معنى أو غَرَض، مما يعتلج في نفوس البشر.
السادس: أنَّ هذا التحدي للثقلين جميعاً إنسهم وجنهم متظاهرين، تَحَدٍّ مستمر قائم إلى يوم الدين.
السابع: أنَّ ما في القرآن من مكنون الغيب، ومن دقائق التشريع، ومن عجائب آيات الله في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المُفْضي إلى الإعجاز، وإنْ كان ما فيه من ذلك كُلِّه يُعد دليلاً على أنه من عند الله، ولكنه لا يدل على أنَّ نَظْمه وبيانه مُبَاينٌ لنظم كلام البشر وبيانهم، وأنه بهذه المُباينة كلام رب العالمين، لا كلام بشر مثلهم.

اقرأ أيضا  حب المخلوق للخالق جل جلاله

فيما يجب دراسته في «الشعر الجاهلي»

ولا تظنن أنَّ الشأن في دراسة «الشعر الجاهلي» هو شأن المعاني التي تناولها، والأغراض التي قيل فيها، والصور التي انطوى عليها، واللغة التي استخدمها من حيث الفصاحة والعذوبة وما يجري مجراهما، بل لشأن أبعد وأعمق؛ إنه:
تَمْييز القدرة على البيان.
وتَجْريد ضُروب هذا البيان على اختلافها.
واستخلاص الخصائص التي أتاحت للغتهم أنْ تكون مَعْدناً للسمو؛ بالإبانة عن جوهر إحساسهم، سُمُواً يجعل للكلام حياة كنفخ الروح في الجسد القائم، وكقوة الإبصار في العين الجامدة، وكسجية النطق في البَضْعة المتجلجلة المُسماة باللسان.
ولكن غاب عنا أعظم ما بقي له الشعر، وهو أنْ يكون مادةً لدراسة البيان المَفطور في طبائع البشر، مُقارناً بهذا «البيان» الذي فات طاقة بُلغاء الجاهلية، وكانت له خصائص ظاهرة تَجْعل كل مُقْتدر بليغ مُبِين، وكل مُتذوق للبلاغة والبيان لا يَمْلك إلا الإقرار له بأنه من غير جنس ما يَعْهده سَمْعه وذَوْقه، وأنَّ مُبلِّغه إلى الناس نبي مرسل، وأنه لا يُطيق أنْ يَخْتلقه أو يَفْتريه؛ لأنه بشرٌ لا يدخل في طَوْقه إلا ما يدخل مثله في طَوْق البشر، وأنه إنْ تَقوَّل غير ما أُمر بتبليغه وتلاوته بَانَ للبشر كَذبه.

الشعر الجاهلي زاد المُتفقه في معرفة معاني القرآن

وحين نزل أهل الجاهلية الذين أسلموا، نزل معهم الذكر الحكيم، ونزل شعر الجاهلية وتدارسوه وتناشدوه، وقَوَّموا به لسان الذين أسلموا من غير العرب، وأصبح زاد المُتفقه في معرفة معاني كتاب ربهم هو مدارسة الشعر الجاهلي؛ لأنه لا يَسْتقل أحد بفهم القرآن حتى يَسْتقل بفهمه.
وامتزجت العرب من الصحابة والتابعين وأبنائهم بأهل الألسنة غير العربية، فنشأ من امتزاج ذلك كله بيان جديد ظل ينتقل ويتغير ويتبدل جيلاً بعد جيل، ولكن بقي أهله –أي العرب- بعد ذلك كُلِّه مُحتفظين بقدرة عتيدة حاضرة هي تذوق البيان تذوقاً عليماً، يُعينهم على تَمْييز بيان البشر كما تَعْهده سلائقهم وفطرهم، وبيان القرآن الذي يُفارق خصائص بيانهم من كل وجه، وعَجَّت نواحي الأرض بالقرآن وباللسان العربي، لا فَرْقَ بين ديار العرب كانت وديار العجم.
عن «مداخل إعجاز القرآن» للعلامة محمود شاكر 

 

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.