دعوات المؤمنين
الإثنين14 محرم1435 الموافق18 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
الموضع الثامن: دعاء الذاكرين المتفكرين المذكور في آخر سورة آل عمران ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 190-194].
وفي هذا الدعاء العظيم مسائل:
المسألة الأولى: أن التفكر في خلق الكون وما فيه من أجل العبادات، وهو سبب لتعظيم الله تعالى والخشوع له وكثرة دعائه، وأنه ينبغي للمتفكر حال تفكره أن يلهج بهذا الدعاء القرآني ويكرره ﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191] وذلك أن الله تعالى لما أثنى على أولي الألباب المتفكرين ذكر أنهم يقولون ذلك حال تفكرهم.وتواطؤهم عليه مع ثناء الله تعالى عليهم به يدل على أنه دعاء فاضل. ومن فضائل هذا الدعاء أن فيه إثبات حكمة الله تعالى في خلقه، ونفي العبث عنه سبحانه.
المسألة الثانية: أن قوله تعالى ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [آل عمران: 192] تعليل لدعائهم ﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ وهو دليل على ما ذكرناه في مقالة سابقه من جواز تعليل الدعاء وتفصيله؛ فالداعي له أن يذكر لم دعا بدعائه، فكأن هؤلاء المتفكرين يقولون: قنا عذاب النار فإن من أدخلته إياها فقد أهنته وأذللته.
المسألة الثالثة: أن قوله تعالى ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا ﴾ [آل عمران: 193] فيه التوسل إلى الله تعالى في الدعاء بالإيمان، فهم توسلوا إليه بالإيمان ثم سألوه مسائلهم فقالوا: ﴿ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193].
المسألة الرابعة: أن للداعي أن يدعو بهذا الدعاء ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا ﴾ [آل عمران: 193]ولو كان لم يدرك النبي عليه الصلاة والسلام ولم يسمع منه؛ لأن من سمع القرآن فكأنما لقي النبي عليه الصلاة والسلام وسمع منه. [ينظر: تفسير القرطبي: 4/317].
المسألة الخامسة: أن دعاءهم ﴿ رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 194]، يتضمن وعد الله تعالى في الدنيا بالعاقبة لهم والنصر على أعدائهم، كما يتضمن وعده سبحانه في الآخرة بالرضا عنهم ودخولهم الجنة، وهذا من الدعاء الجامع الذي يجمع حظي الدنيا والآخرة.
المسألة السادسة: أنهم سألوا الله تعالى ما وعدهم على ألسنة رسله عليهم السلام مع يقينهم بأن الله تعالى لا يخلف الميعاد؛ ولذا نحا بعض المفسرين إلى أن هذا السؤال تعبد محض. وهذا غلط. فإن وعد الله تعالى معلق بشرط الإيمان والعمل الصالح.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الوعد معلق بشروط منها الرغبة إليه سبحانه وتعالى وسؤاله أن ينجزه لهم كما أنه معلق بالإيمان وموافاتهم به وأن لا يلحقه ما يحبطه، فإذا سألوه سبحانه أن ينجز لهم ما وعدهم تضمن ذلك توفيقهم وتثبيتهم وإعانتهم على الأسباب التي ينجز لهم بها وعده كان هذا الدعاء من أهم الأدعية وأنفعها وهم أحوج إليه من كثير من الأدعية. [حادي الأرواح:90].
المسألة السابعة: انتظم في هذا الدعاء العظيم طلب جميع الخير، وصرف كل الشر.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الشر المستعاذ منه نوعان:
أحدهما موجود يطلب رفعه، والثاني: معدوم يطلب بقاؤه على العدم وأن لا يوجد. كما أن الخير المطلق نوعان أحدهما: موجود فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه، والثاني: معدوم فيطلب وجوده وحصوله، فهذه أربعة هي أمهات مطالب السائلين من رب العالمين، وعليها مدار طلباتهم، وقد جاءت هذه المطالب الأربعة في قوله تعالى حكاية عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا ﴾ [آل عمران: 193] فهذا الطلب لدفع الشر الموجود؛ فإن الذنوب والسيئات شر، ثم قال: ﴿ وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ﴾ فهذا طلب لدوام الخير الموجود وهو الإيمان حتى يتوفاهم عليه. فهذان قسمان ثم قال: ﴿ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ ﴾ فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه ثم قال: ﴿ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشر المعدوم وهو خزي يوم القيامة، فانتظمت الآيتان للمطالب الأربعة أحسن انتظام، مرتبة أحسن ترتيب، قدم فيها النوعان اللذان في الدنيا وهما: المغفرة ودوام الإسلام إلى الموت، ثم اتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة وهما أن يعطوا ما وعدوه على ألسنة رسله، وأن لا يخزيهم يوم القيامة. [بدائع الفوائد: 2/207-208].
المسألة الثامنة: في تكرارهم نداء ربهم سبحانه وتعالى (ربنا) في أول دعائهم وأثنائه خمس مرات، مشروعية ذلك، وأنه من الإلحاح المطلوب في الدعاء؛ لما فيه من الإقبال على الله تعالى، وإظهار الفاقة له سبحانه.
الموضع التاسع: دعاء المستضعفين، قال الله تعالى ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 75].
نزلت هذه الآية في المستضعفين من المؤمنين في مكة ممن لم يستطيعوا الهجرة إلى المدينة، ومنهم ابن عباس وأمه رضي الله عنهم، فكانوا يدعون بهذا الدعاء، فاستجاب الله تعالى لهم فمنهم من هاجر بعد ذلك، ومنهم من بقي فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ولى عليهم عتاب بن أسيد وجعله الله لهم نصيرا ينصف المظلومين من الظالمين. وهي دعوة صالحة لكل من يُمنع من دينه، ويؤذى بسببه أن يدعو بهذا الدعاء.
الموضع العاشر: دعاء بني إسرائيل لما تابوا من عبادة العجل، قال الله تعالى ﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف:149] أي: ندموا على عبادة العجل، تقول العرب لكل نادم على أمر: قد سقط في يديه…وكان هذا الندم والاستغفار منهم بعد رجوع موسى إليهم. [تفسير البغوي: 3 / 283].
وهو يشبه دعاء آدم وحواء لما أكلا من الشجرة ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23] ويشبه دعاء نوح عليه السلام لما عاتبه الله تعالى بسؤاله نجاة ابنه الكافر ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47] وهذا الدعاء نوع من أنواع الاستغفار فيحسن بالمؤمن أن يحفظه ويدعو به، ولا سيما عند التوبة من الذنب.
وقريب منه دعاء ملكة سبأ ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44].
الموضع الحادي عشر: دعاء أصحاب موسى عليه السلام ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [يونس: 84 – 86].
فهذا الدعاء ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ من أنفع الدعاء في الوقاية من فتنة الظالمين وتسلط الكافرين.
وفي قوله: ﴿ لَا تَجْعَلْنَا ﴾ ثلاثة أقوال:
أحدها: لا تهلكنا بعذاب على أيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من قِبَلِك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم.
والثاني: لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
والثالث: لا تسلطهم علينا فيفتتنون بنا، لظنهم أنهم على حق. [زاد المسير: 2/344].
والآية تحتمل كل هذه المعاني، ولو قصدها الداعي جميعا لكان قصده صحيحا.
وفي هذا الدعاء حرص المؤمنين على هداية الخلق أجمعين، وذلك بدعائهم أن لا يكونوا فتنة لأعدائهم بما يظنون أنهم على حق وهم على باطل. ففيه دعاء للمؤمن ودعاء للظالم أو الكافر المتسلط أن لا يفتتن بسبب تسليطه، فيا لله العظيم ما أعظم نفع الإيمان للمؤمن! وما أعظم نفع المؤمن لغيره!
وقد دعا بنحو هذا الدعاء الخليل ومن آمن معه فقالوا ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾ [الممتحنة: 5].
الموضع الثاني عشر: دعوة فتية الكهف رحمهم الله تعالى، قال تعالى ﴿إِذْ أَوَى الفِتْيَةُ إِلَى الكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10]، وهو دعاء نافع لمن فرَّ من الفتنة في الدين.
والرشد: هو إصابة الحق والنفع والصلاح، والعبد محتاج إلى الرشد في كل أحواله، إلا أن حاجته إليه أشد في أحوال الفتن واختلاط الأمر، حتى لا يختار أمرًا إلا ويكون فيه صلاحه ونفعه وثباته على دينه. ومن فقد الرشد وقع فيما يهلكه ويفتنه ويذهب دينه.
وقولهم ﴿ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ [الكهف: 10] أي: رحمة من خزائن رحمتك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء، وفي (لدن) معنى العندية والانتساب إليه، فذلك أبلغ مما لو قالوا: آتنا رحمة؛ لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة؛ ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألما، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين. ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالا تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق، والنجاة من مناوأة المشركين. فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء ﴿ وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا ﴾ أي: الذي نحن عليه من مفارقة الكفار ﴿ رَشَدًا ﴾ حتى نكون بسببه راشدين مهتدين. [ينظر: تفسير النسفي: 2/287، وتفسير ابن عاشور: 15/266].
الموضع الثالث عشر: دعاء عباد الرحمن المذكور في صفاتهم في آخر الفرقان، فقد ذكر الله تعالى لهم دعوتين أثنى بهما عليهم:
الدعوة الأولى: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان: 65، 66] وقد مضى الكلام على هذا الدعاء في مقالة: (تفصيل الدعاء وتعليله).
الدعوة الثانية: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74] وهذه الدعوة العظيمة تضمنت أمرين:
1- سؤال قرة العين في الزوجة والولد، وهم إذا كانوا قرة عين للرجل سعد سعادة لا توصف، وإذا لم يجعلهم الله تعالى قرة عين له شقي ولو ملك الجاه الكبير، والمال الكثير. وسعادة الرجل الحقيقية في الدنيا هي سعادته في بيته بأهله وولده. سئل الْحَسَن البصري عن قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ [الفرقان: 74] أَفِي الدُّنْيَا أَمْ فِي الْآخِرَةِ؟ قَالَ: لَا بَلْ فِي الدُّنْيَا قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: الْمُؤْمِنُ يَرَى زَوْجَتَهُ وَوَلَدَهُ مُطِيعِينَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَقَرُّ لَعَيْنِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَرَى زَوْجَتَهُ وَوَلَدَهُ يُطِيعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرُهُ. [رواه ابن أبي الدنيا في العيال: 435].
2- سؤال الإمامة في الدين، وهي لا تكون إلا للمتقين الذين جمعوا بين الصبر واليقين بدليل قول الله تعالى ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة:124] وقوله تعالى ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة:24].
قال ابن عاشور: وهذا يقتضي أنهم يسألون لأنفسهم بلوغ الدرجات العظيمة من التقوى فإن القدوة يجب أن يكون بالغا أقصى غاية العمل الذي يرغب المهتمون به الكمال فيه. وهذا يقتضي أيضا أنهم يسألون أن يكونوا دعاة للدخول في الإسلام وأن يهتدي الناس إليه بواسطتهم. [التحرير والتنوير: 19/83].
فتضمنت هذه الدعوة المباركة سؤال التقوى والصبر واليقين بطريق اللزوم؛ لأن الإمامة لا تكون إلا بها، مع إمامة المتقين، ومن آثار الإمامة أن لصاحبها أجر من تبعه في الدين من دون أن ينقص من أجور التابعين له شيئا، وفي هذا من الفضل ما لا يخفى، فكانت هذه الدعوة جامعة لخير الدنيا وسعادتها وراحتها وجاهها مع الفوز يوم القيامة بالأجور العظيمة؛ فينبغي للمؤمن الإكثار منها.
الموضع الرابع عشر: دعاء من بلغ الأربعين: ﴿ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15].
وفي هذا الدعاء المبارك مسائل عدة:
المسألة الأولى: أنشكر الله تعالى على نِعَمِهِ هدايةٌ وتوفيق من الله تعالى للعبد، وعليه فلا بد أن يسأل الله تعالى توفيقه لذلك، وإلهامه إياه. وأوزعني معناها: ألهمني. وطلب إلهام الشكر لا بد أن يستحضر فيه العبد نِعَمَ الدين والدنيا؛ فإن كثيرا من الناس في شكره أو دعائه يستحضر نعم الدنيا من الأمن والرزق والعافية والمال والولد ونحوها، وينسى نعم الدين وهي أعظم وأكثر.
المسألة الثانية: أن هذا الدعاء القرآني يتأكد في حق من بلغ الأربعين، وإن كان مشروعا فيمن هو دونه؛ فإن نعم الله تعالى على العبد تبدأ معه قبل الحمل به، وتتابع عليه بعد ولادته وطفولته وشبابه وكهولته وهرمه.قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله، عز وجل، ويعزم عليها…. قال مسروق: إذا بلغت الأربعين فخذ حذرك.[7/281].
المسألة الثالثة: نقل عدد من المفسرين أن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وأنه كان يدعو بهذا الدعاء فلحقته بركته، واستجيب له في والديه وذريته فأسلموا جميعا.[ينظر: تفسير البغوي: 7/257].
المسألة الرابعة: أن تصدير الآية بوصية الولد أن يحسن لوالديه دليل على أهمية بر الوالدين، وأن التوفيق لبرهما نعمة تتطلب سؤال الله تعالى إلهام شكره عليها، وأن الدعاء للوالدين في حياتهما وبعد موتهما هو من برهما، وأنه إذا بلغ الأربعين فلا ينشغل بالأهل والولد عن برهما والدعاء لهما.فإذا عُلم ذلك علمت أهمية هذا الدعاء لمن بلغ الأربعين.
المسألة الخامسة: أن مما تدخله النيابة في عمل الولد عن والده مع الحج والصدقة: شكر النعم. فشكر الولد نعم الله تعالى على أبويه يصل نفعه لهما. قال ابن عاشور رخمه الله تعالى: وما شكر الولد ربه على النعمة التي أنعمها الله على والديه إلا من باب نيابته عنهما في هذا الشكر، وهو من جملة العمل الذي يؤديه الولد عن والديه. [26/32].
المسألة السادسة: أن الدعاء بصلاح الأولاد يعود نفعه للداعي نفسه، بدليل اللام في قوله (وأصلح لي في ذريتي)، وهي لام العلة، أي: أصلح في ذريتي لأجلي ومنفعتي …كأنه يقول: كما ابتدأتني بنعمتك وابتدأت والدي بنعمتك ومتعتهما بتوفيقي إلى برهما، كمل إنعامك بإصلاح ذريتي فإن إصلاحهم لي. [ينظر: التحرير والتنوير: 26/34].
المسألة السابعة: أن هذا الدعاء هو من أنفع الأدعية لصلاح الذرية، واستقامتهم على أمر الله تعالى، فينبغي لكل أب وأم كثرة الدعاء به. عن مالك بن مغول، قال: شكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، فقال: استعن عليه بهذه الآية ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ﴾ [الأحقاف: 15].
الموضع الخامس عشر: دعاء التابعين وأتباعهم: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10] أثنى الله تعالى قبل هذه الآية على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم ثم أثنى على أتباعهم إلى يوم القيامة بهذا الدعاء المبارك.
وفيه مسائل عدة:
المسألة الأولى: قال ابن أبي ليلى: الناس ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم. فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل. [تفسير القرطبي: 18/31].
والمراد بدعاء اللاحق للسابق، والخلف للسلف، أنهم متبعون لهم، أو هو تعليم لهم بأن يدعوا لمن قبلهم، ويذكروهم بالخير. [تفسير القاسمي: 9/189].
المسألة الثانية: أن هذا الدعاء المبارك تضمن الاستغفار لمن سبق بالإيمان، وتطهير القلب من الغل على المؤمنين، وحري بالمؤمن أن يكثر من الدعاء به؛ ليكون قلبه نظيفا على المؤمنين. قال السعدي رحمه الله تعالى: وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضا.[852].
المسألة الثالثة: أن في هذا الدعاء المبارك تزكية للصحابة رضي الله عنهم، وسلامة لصدور المؤمنين وألسنتهم عليهم، وإغاظة لمبغضيهم من المبتدعة والمنافقين، وهذا من أصول أهل السنة والجماعة كما ذكر الإمام ابن تيمية في الواسطية وغيرها. قالت عائشة رضي الله عنها: أمروا أن يستغفروا لهم، فسبوهم! ثم قرأت هذه الآية: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10] الآية [رواه ابن أبي حاتم: 18856].
الموضع السادس عشر: دعاء امرأة فرعون ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11].
فهذا دعاء امرأة من النساء الكاملات؛ كما قَالَ الرَسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ…» [رواه البخاري: 3411، ومسلم: 2431].
ولعلها حين دعت ببيت في الجنة لأنها تعيش في قصر فرعون، فلم ينسها ما هي فيه أن ما في الجنة خير مما هي فيه وإن كانت الأنهار تجري من تحته.
وفيه الدعاء بالنجاة من القوم الظالمين سواء من مشاركتهم في ظلمهم أو إقرارهم عليه؛ لأنها كانت تحت فرعون، أو من تسليطهم عليه فيناله شيء من ظلمهم.
وفي قولها: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ﴾ [التحريم: 11] قال العلماء: اختارت الجار قبل الدار. [تفسير ابن كثير: 8/172].
المصدر: الألوكة