سيادة الدين وسيادة الأمة
الجمعة25 محرم1435 الموافق29 تشرين الثاني / نوفمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
تركي الظفيري
“سيادة” “أمة” كلمتان تكررتا كثيراً هذه الأيام، ونقاش فكري يصل إلى مرحلة الصراع والتصادم والتلويح بكفر فكرة معينة من ناحية، وتوجيه الاتهام بالتشدد والتطرف وعدم فقه الواقع من ناحية أخرى، وهذا النقاش والحوار قد يصل بنا إلى رؤية متوازنة تتوافق مع ديننا إذا تم دون استفزاز وتخوين واتهام، وهذه مساهمة في الحوار بين الإخوان ومناقشة سريعة لفكرة سيادة الدين أم سيادة الأمة.
الحديث عن سيادة الأمة وتطبيق الشريعة ينبغي فيه تحديد هذه المصطلحات حتى نوجه الفكرة إلى طريقها الصحيح، فسيادة الأمة قد يعني سيادة شعب في دولة معينة وبهذا يقيد المعنى بأمة في مكان معين،فلو كان هذا هو المراد لكان استخدام “سيادة الشعب” أدل على المعنى. وقد يقصد بالأمة هي أمة الإسلام أو الأمة العربية دون الالتفات لمسميات الدول الحالية وحدودها، وهذا المعنى المطلق يشعرنا أن الهدف هو سيادة الأمة الإسلامية أو العربية على مقدراتها ومواردها وحكمها، وهنا يرد تساؤل:هل المقصود بذلك السيادة الداخلية أم السيادة الخارجية على الأمم الأخرى؟ إن عدم تحديد المصطلح عند الزملاء والأصدقاء الذي خاضوا في هذه المسألة جعل النقاش تارة يقترب وأخرى يبتعد عن مراد الآخر.
وكذلك مصطلح “الشريعة” هل يقصد منه الدين بشريعته وعقيدته؟ أم المراد فقط نقاش تطبيق الأحكام الشرعية العملية؟ وفي تقديري أن اختيار “تطبيق الدين” كان أولى من الفصل بين الشريعة والاعتقاد، وقد اخترت في العنوان “سيادة الدين” في مقابل “سيادة الأمة” لأن كثيراً من المؤيدين لأسبقية سيادة الأمة على تطبيق الشريعة في معرض حديثهم يقابلون بين سيادة الأمة و سيادة الشريعة، فهل السيادة للأمة وهي تختار ما تريد من قوانين أم السيادة للدين هو الذي يحدد القوانين؟ وبهذا يتضح حساسية الموضوع وخطورته على عقيدة المسلم.
إذن عدم تحديد المصطلحات أوقعنا في عشوائية الحوار، وكذلك عيش اللحظة الراهنة وعدم قدرة البعض الانفصال عنها حتى يمكن التعرف على الموضوع بتوسع وشمولية، وسيأتي نقاش هذه المسألة عند النظر في تفكيك الوضع الراهن.
عندما نناقش موضوع السيادة لمن: الدين أم الأمة؟ يحسن بنا الرجوع إلى المنهج النبوي في بناء الدولة الإسلامية التي استطاعت في سنوات قليلة أن تسود داخلياً وخارجياً، وانتقلت من أن تكون تابعة للأمم القوية إلى أن تسقط أقوى إمبراطوريتين في ذلك الوقت فارس والروم.
إن المصادر الأساسية للدولة الإسلامية كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وللدولة الإسلامية أن تستفيد من التجارب البشرية التي لا تخالف هذين المصدرين، وبالعودة إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نجد هناك عدة تعاملات مع السياسة الداخلية، في مكة كانت السيادة للكفار والأقلية المسلمة كانت تُعذب وتُهمش وتُدفع الجوائز لاغتيال القادة كما فُعل مع الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء هجرته للمدينة، لم يتجه الرسول صلى الله عليه وسلم في العهد المكي إلى فرض الدين وتطبيق الشريعة لعدم قدرته على ذلك، بل كان يؤدي العبادات، والأصنام حول الكعبة فلم يدعُ إلى تحطيمها لأن المفسدة أعظم، لكنه لما تمكن وفتح مكة حطمها وأرسل الصحابة رضي الله عنهم لتدمير الوثنيات الأخرى، إذن نستفيد من المرحلة المكية: أن على الأقلية المسلمة في دولة كافرة أن تتقي الله على حسب استطاعتها كما قال تعالى: ((فاتقوا الله ما استطعتم))، في هذه المرحلة ظل الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث له عن مكان يتقبل دعوته لينطلق منه فاتجه إلى القبائل في أوقات الحج يعرض نفسه عليهم، وذهب إلى الطائف لكنه أُخرج منها، ومع وفود المدينة وجد ضالته، وبعد اتفاقي العقبة الأولى والثانية، بدأت الهجرة إلى المدينة، وبدأت مرحلة جديدة في تأسيس الدولة الإسلامية، وكان من أوائل الأعمال التي قام بها صلى الله عليه وسلم بناء المسجد ليبين أهمية المسجد في بناء الدولة الإسلامية وقام بالمؤآخاة بين المهاجرين والأنصار ليوحد الجبهة الداخلية وينمي في المسلم حب أخيه المسلم ونسيان الحروب والثارات القديمة فأصبحت الأوس والخزرج بعد عداء طويل قبيلة واحدة هي “الأنصار”، وتعامل تعاملاً راقياً مع الأقلية الكافرة والمتمثلة بيهود المدينة، وكانت بينهم عهود ومواثيق وتعاون في حماية المدينة من أي اعتداء خارجي، لكن اليهود عندما حاولوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم وتعاونوا مع المقاتلين الذي يحاصرون المدينة في الخندق نقضوا العهد فكانت العقوبة من جنس الخيانة.
في العهد المدني بدأ تطبيق الدين بشريعته وعقيدته لأن الظروف مناسبة لذلك، ونستطيع تقسيم العهد المدني ما قبل يوم الأحزاب وما بعده، ففي المرحلة الأولى من العهد المدني لم يؤمر صلى الله عليه وسلم بالمبادرة بالقتال يقول تعالى في سورة البقرة: ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم))، أما المرحلة الثانية فقد بدأت عند قوله صلى الله عليه وسلم: ” الآن نغزوهم ولا يغزوننا” قال تعالى في سورة التوبة (( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ))، وابن القيم له كلام جميل حول مراحل تشريع الجهاد في المجلد الثالث من كتابه زاد المعاد. إن طبيعة الدول إذا قويت فإنها تفرض سيطرتها بقوة السلاح والمال على الدول الضعيفة، فأمريكا -على سبيل المثال- دخلت قواتها عدداً من الدول للسيطرة على ثرواتها ولتغيير دينها وثقافتها في بعض الحالات، مع الفرق الكبير بين جشع هؤلاء وبين الهدف السامي للإسلام في إدخال الناس إلى الدين وتقليل سيطرة الحاكم الذي يصدهم عن الحق ولذلك جاء تخييرهم بين الإسلام أو الجزية أو القتال.
يقول ابن تيمية رحمه الله في الصارم المسلول:” فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذى الله ورسوله من الذين أوتو الكتاب والمشركين ، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين ، وبآية قتال الذين أوتو الكتاب حتى يعطوه الجزية عن يد وهم صاغرون”، إذن على المسلمين أن يتعاملوا في فرض الدين بحسب استطاعتهم وقدرتهم.
وبالنظر للتحدي الخارجي كانت فارس والروم أقوى دولتين وتشكلان ضغط على الدولة الإسلامية الحديثة، ودارت معارك حتى كُسرتا وانتصر المسلمون عليهما، وتعتبر معركة مؤتة أولى المعارك مع الروم لن أقف كثيراً عند تفاصيلها، ولكن سأتأمل تصرف خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد مقتل القادة الثلاثة قبله وكيف أخرج المجاهدين من مذبحة كادت تهلكهم جميعاً، واستقبلهم الناس بغضب وقالوا لهم: أنتم “الفرارون”، فلما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم بل أنتم “الكرارون”، ويدل هذا الفعل أن المسلمين إذا خشوا على نفسهم الهلكة فإنهم يدافعون عن أنفسهم بكل الوسائل المشروعة حتى لا يقضى على الدعوة الإسلامية وإن اتهموا بالضعف أو قيل لهم: أنتم “الفرارون”، فإن فروا ضرورة وخشية على دينهم وأنفسهم فهم “الكرارون” فالمعارك السياسية لا تقل أهمية للدولة عن المعارك العسكرية بل قد تكون أهم في بعض الأحيان.
ونلاحظ أن رسولنا صلى الله عليه وسلم في كل مراحل دعوته لم يترك البلاغ أو يتساهل في توضيح الأحكام والوعظ وإصلاح دنيا الناس وآخرتهم، بعكس ما تفعله بعض المدارس الإسلامية من تجاهل هذا الأمر خشية الاتهام بالتطرف والتشدد، ولا يشترط أن يكون السياسي هو الواعظ بل لا بد أن يكون له مشروعه الدعوي يقوم به المؤهلون، وهذا لفتة لا بد منها وأكاد أفتقدها عند كثير من ينادي بالإصلاح السياسي وعند تأمل كتاباته أو مشروعه لا يؤكد على هذا المبدأ الإسلامي العظيم؛ الدعوة إلى دين الله تعالى.
وفي تعامل الصديق رضي الله عنه مع المرتدين فائدة يحسن الالتفات لها، جماعة من المرتدين رفضوا دفع الزكاة فقالتهم أبو بكر رضي الله عنه وأقسم على مقاتلة من يفرق بين الصلاة والزكاة، إذن هذا قسم جديد داخل الدولة الإسلامية: أن يعترض جماعة من المسلمين على فعل أمر شرعي ويخالفون الإمام والسواد الأعظم من المؤمنين، ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت السياسة الداخلية متماسكة ولا يستطيع أحد مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم، ولكن لما مات صلى الله عليه وسلم انشق نفر من المسلمين وارتدوا عن الإسلام بالكلية وآخرون رفضوا دفع الزكاة، فأبو بكر رضي الله عنه إمام المسلمين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقادر على تطبيق شرع الله والإلزام به حتى لو وصل الأمر إلى القتال وسفك الدماء، ولكن ذلك منوط بالقدرة والنظر في المصالح والمفاسد لذلك كان التعامل مع المرتدين محل نظر وحوار بين كبار الصحابة رضي الله عنهم. ونستفيد من هذا أن الإلزام بتطبيق دين الله تعالى هو الأصل إذا كان المسلمون قادرين على هذا بعد دراسة متأنية للمصالح والمفاسد في ذلك.
بعد هذا العرض التاريخي الهام في تأصيل الموضوع وقبل أن نتأمل في واقعنا الحالي يحسن بنا أن نفكر بعيداً عن الضغوط الخارجية والداخلية وأن ننظر بشمولية وموضوعية، فالوضع السياسي الذي نعيشه أكثر تعقيداً وصعوبة مما كان عليه قبل ألف وأربعمائة سنة، فهناك أحزاباً مختلفة في الدولة الواحدة وحتى الأحزاب الإسلامية بينها من الاختلاف ما قد يصل إلى حد التناقض فضلاً عن الأحزاب الليبرالية والقومية والنصرانية وغيرها، وهناك مصالح خارجية ودول إمبريالية تقاتل جاهدة للسيطرة على هذه الدولة أو تلك وتنافس دولي عنيف لضم الدول إلى أحلافها والاستفادة من ثرواتها وقد زرعوا أشخاصاً يدينون لهم بالولاء نظير صفقات دبرت بليل، فالوضع الحالي معقد جداً ونستطيع أن نقول كل دولة لها خصوصيتها من حيث سيادة الدين في حياتها.
ومن الترف الفكري أن نقول هذه الدولة لا تطبق شرع الله لأن حاكمها كان عائقا أمام هذا التطبيق، والشعب فقد إرادته وخياره، فهذا الواقع يقرؤه الأمي والعالم، والناس لا يكلفون بما لا يستطيعون (( لا يكلف الله نفساً إلى وسعها)) فإذا خشوا على أنفسهم فإنهم يطبقوا ما يستطيعون من الدين وإثمهم على من منعهم.
وإذا تحررت البلاد الإسلامية من سلطة المستبد كان الأصل فيهم أن يتنادوا إلى سيادة الدين في دولتهم، فتطبيق دين الله تعالى جعل الأمة الإسلامية الأمة العظمى لقرون ذهبية كانت مظلمة في أوروبا، وإن تعثر الدعوة لسيادة الدين على حياة الشعب لضغوط داخلية وخارجية فكل دول تتقي الله حسب استطاعتها.
ومن مصادر الخلط في مسألة تطبيق الشريعة وسيادة الأمة عدم وجود التقسيم الذي يميز متى لا يُلزم بتطبيق الشريعة ومتى يلزم ؟ ولهذا لا بد تفكيك الأمر حتى يتضح من الناحية الشرعية:
فإذا كانت الدولة الإسلامية تعلن سيادة دين الله تعالى وتطبيق شرعه، وفيها استبداد أو فساد أو مشاكل داخلية، فالأولى المسارعة إلى المحافظة على هذا المكتسب العزيز والمسارعة في توجيه البوصلة إلى العدل بين أفراد شعبها وإعلان الحرب على الفساد الديني والأخلاقي والمالي، وتوفير البيئة الملائمة للحوار الفقهي دون ضغوط سياسية أو اجتماعية، فمن الواضح أن هناك خارطة جديدة تتشكل في البلاد العربية، فإما مواكبة هذه التغيرات والإحسان إلى الشعوب أو أن التغيير قد يفرض من الداخل أو الخارج، والذي نتمناه أن يبدأ التغيير من قناعة الحاكم بأهميته وضرورة الإسراع فيه.
أما الدول الإسلامية التي تحررت من سلطة حكام مستبدين وظالمين فعلينا تأمل واقعهم، فنلحظ في ليبيا ارتفاع الصوت الإسلامي وتضحياته من أجل التحرير فلا يستغرب من مصطفى عبدالجليل إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية، والعجب كل العجب أن يأتي “إسلامي” ينكر على عبدالجليل والمجلس الانتقالي فعلهم!!، وعند النظر في حال مصر والتعددية فيها وتقارب التضحيات بين أحزابها في ثورتهم، نلمس صعوبة تطبيق الشريعة على كافة أفرادها، مع الاستناد على تاريخ الأزهر وتجربة الإخوان المسلمين نرى وضوح الصوت الإسلامي مما قد يسمح بالتحرك بلياقة جيدة، وعندما نتأمل حال تونس وما حل بها من تجفيف للمنابع، نعرف أن التحرك الإسلامي قد يسير ببطء نحو سيادة الدين.
إن الذي أردت قوله بوضوح: إن إطلاق جملة “سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة” فيها استعجال كبير مع إحسان الظن بمن قالها فهي ليست قاعدة بل استثناء في بعض الممارسات، فلم تقم للأمة قائمة حتى ساد الدين في حياتها فهذا هو الأصل، ولنا أن نقول: إن سيادة الأمة نتيجة حتمية لسيادة الدين في حياتها.
المصدر : رؤى فكرية