حق المسلم على المسلم

السبت4 صفر 1435 الموافق 7 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

الشيخ عائض بن عبدالله القرني 

الخطبة الأولى

إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].

أما بعد:

فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

 أيها الناس:

إن من أعظم مقاصد الشريعة، ومن أَجَلِّ أهداف الإسلام، أن يؤلِّف بين القلوب، وأن يجمع بين الصفوف، وأن يوحِّد الكلمة، وأن يرأب الصدع، وأن يزيل أسباب الخلاف والتدابر والتقاطع، وإذا لم يتم ذلك في واقع المسلمين، وفي حياة الأمة؛ فيجب أن نعلم – جميعاً – أننا ما التزمنا بالإسلام، وما اهتدينا بنور القرآن، وما تشرفنا بالسير على هدي رسول الأنام – صلى الله عليه وسلم – يقول الله – تعالى – ممتنّاً على هذه الأمة: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] فسبحان من ألَّف بين هذه القلوب، وسبحان من وحد بين هذه الأجناس، وسبحان من جمَّع بين هذه الألوان واللغات والعادات.

جمع الله بين بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وعليٍّ القرشيِّ، في وحدة وألفة وترابط أخوي، لم يعرف التاريخ له مثيلاً.

والله – تبارك وتعالى – يأمرنا بالاعتصام بحبله جميعاً، وينهانا عن التفرُّق والتَّشرذم والتحزُّب، وعن موجبات ذلك من العصبية القبلية، أو التعصب للَّونِ، أو الجنس، أو اللغة، فكل هذه العصبيات موضوعة في الإسلام، قد جعلها النبي – صلى الله عليه وسلم – تحت قدميه.

فلماذا يبغض بعضنا بعضاً، ولماذا يحسد بعضنا بعضاً، ولماذا يغتب بعضنا بعضاً، ولماذا هَتْكُ الأعراض، والتقاطع والتدابر والتباغض، والله – عزَّ وجلَّ – يقول: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].

أيها المسلم:

اعلم: أنك لن تنال رضوان الله – عزَّ وجلَّ – ولا رحمة الله – تبارك وتعالى – وعفوه ومغفرته، إلا بمحبتك لأخيك المسلم، وبره ومساعدته؛ فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وإن رحمة الله – عزَّ وجلَّ – تتنزَّل بمساعدة الإخوان، وتقديم العون لهم، ومحاولة التيسير على المعسرين وأهل الحاجة؛ قال الله – تعالى -: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، مَنْ كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه بها كربة من كُربِ يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة))[1].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ سُلامى[2] من الناس عليه صدقة كلَّ يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة))[3].

ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أوَلاَ أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))[4].

وإفشاء السلام معناه التواضع لعباد الله، والمحبة لهم، ومسالمتهم، وعدم إضمار شيء في نفسه لهم، ويوم يتخلى الناس عن السلام، ويوم يستهينوا بهذه الشعيرة العظيمة من شعائر الدين، فيمر بعضهم على بعض بلا سلام ولا تحية، تظهر الضغائن، وينتشر الحقد والحسد والبغض بين الناس، وهذا من فساد ذات البين الذي حذر منه نبينا – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((إياكم وفسادُ ذات البين؛ فإن فساد ذات البين الحالقة؛ لا أقول تحلق الشعر وإنما تحلق الدين))[5].

فعليك أيها العبد المسلم أن تُخرج من قلبك كلَّ حقد، وكل حسد، وكل بغضاء تجدها لأحد من المسلمين، إذا طرحت نفسك على الفراش، ووكلت أمرك إلى خالقك فاسأل الله – عزَّ وجلَّ – أن ينزع من قلبك كل غشٍّ وضغينة، وحسد وبغضاء.

عباد الله:

أراد النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أن يبين لأصحابه فضل محبة المسلمين، وعدم إضمار شيء لهم، وسلامة الصدر تجاههم، فبينا هو جالسٌ مع أصحابه ذات مرة، إذ قال – صلى الله عليه وسلم – لهم: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة))؛ فطلع رجلٌ من الأنصار، يتساقط ماء الوضوء من لحيته، وقد علَّق نعليه في شماله، فلما كان من الغد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة))؛ فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما كان من الغد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة))؛ فطلع ذلك الرجل على مثل مرتبته الأولى، فلما قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال لذلك الرجل: إني خاصمت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاث ليالٍ، فإن رأيتَ أن تؤويني إليك حتى تحلَّ يميني فعلت، فقال: نعم؛ فكان عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث أنه بات معه ليلة – أو ثلاث ليالٍ – فلم يره يقوم من الليل بشيء، غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله وكبَّر حتى يقوم لصلاة الفجر، فيسبغ الوضوء، قال عبد الله: غير أني لا أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليال كدتُ أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، إنه لم يكن بيني وبين والدي غضب هجرة، ولكني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول لك ثلاث مرات في ثلاث مجالس: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة))؛ فطلعت أنت تلك الثلاث مرات، فأردتُ آوي إليك، فأنظر عملك، فلم أركَ تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيت. فانصرفتُ عنه، فلمَّا ولَّيْتُ دعاني؛ فقال: ما هو إلا ما رأيتَ، غير أني لا أجد في نفسي غِلاًّ لأحدٍ من المسلمين، ولا أحسده على خير أعطاه الله إيَّاه. قال عبد الله بن عمرو: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق [6].

اقرأ أيضا  لماذا أقرأ القرآن ( نيات قراءة القرآن )

 أيها المسلمون:

لينظر كلٌّ منَّا في قصة هذا الرجل، وليأخذ منها العبرة والعظة، ما الذي بلغ بهذا الرجل تلك المنزلة الرفيعة، ما الذي جعله من المشهود لهم بالجنة والفضل، وهو لا زال يعيش على ظهر هذه الدنيا؟ ما أعماله؟ ما عبادته؟ ما جهاده؟

إن الذي بلغ بهذا الرجل تلك المنزلة هو سلامة الصدر لإخوانه المسلمين، ينام وليس في قلبه غشٌّ ولا حسد ولا بغضاء لأحد، وهذا ليس بالأمر اليسير؛ ولذلك قال عبد الله بن عمرو: “هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق”.

إن من الناس من يتصدَّق ولكنه حقود، ومنهم من يدعو لكنه حسود، ومنهم من يقوم الليل ويقوم النهار، ولكنه يؤذي جيرانه، ويأكل لحوم إخوانه المسلمين، ويقع في أعراضهم.

مَاذَا التَّقَاطُعُ في الإسلامِ بَيْنَكُمُ        وأنتُمُ  يا   عباد   الله   إِخوانُ

إن اليهود والنصارى والشيوعيين وأهل الحداثة والعلمانيين يختلفون فيما بينهم؛ ولكنهم يتفقون على حرب الإسلام والمسلمين، أما أهل الإسلام فمشارب وأساليب وأهواء وجماعات وأحزاب، ولا نراهم يتفقون حتى على حرب أعدائهم من أهل الإلحاد وفرق الكفر والزندقة!!

الرسول – صلى الله عليه وسلم – يبين حق المسلم على المسلم، فيقول: ((المسلم أخو المسلم)) ولك أن تتصور حقوق أخيك عليك، وما يجب عليك تجاهه: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا)). ويشير إلى صدره ثلاث مرات، ((بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه))[7].

ما أعظم تلك الحقوق، وما أجلّ هذه التوجيهات، لا يظلم المسلم أخاه؛ لأن عاقبة الظلم وخيمة، ولذلك فإن الله – عزَّ وجلَّ – حرَّم الظلم على نفسه، ولا يخذل المسلم أخاه بأن يترك إعانته ونصره والدفاع عنه في موطن يستطيع أن ينصره فيه، ولا يحقر المسلم أخاه بأن يستهزئ به، ويستهين به، ويستقله ويستصغر شأنه، فهذا كله ليس من أخلاق المؤمنين.

فيا مَنْ يجلس في مجالس الغيبة والنميمة، ويا من يقضي وقته في هتك الأعراض والتفكُّه بالحرمات، أما تعرف أنك تحارب الله؟! أما تعرف أنك تعلن الحرب على جبار السماوات والأرض؟! أما تعرف أنك تهدم في صرح هذه الرسالة الخالدة؟! اتق الله في نفسك، اتق الله في مصيرك، واعلم بأننا أمة واحدة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، واعلم بأن الله – عزَّ وجلَّ – سوف يقتصُّ منك لا محالة، وسوف يأخذ من حسناتك؛ لتُجعل في موازين من اغتبت وظلمت وشتمت، حتى إذا فنيت حسناتك، أخذ من سيئاتهم؛ لتُجعل في ميزانك، حتى تُطرح في النار[8]: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].

إن هناك من يتخذون أساليب في الدعوة والتربية تضر مسيرة الصحوة الإسلامية ضرراً بالغاً، إنهم يتحزَّبون ضد إخوانهم، ولا يتلمسون لغيرهم العذر، ويشكِّكون في مصداقية الدعاة ونيَّاتهم، مما يعمل على تفريق الأمة، وتمزيقها إلى جماعات وأحزاب متعادية.

كيف يتَّحد أهل الباطل ضدنا، ويكوِّنون صفّاً واحداً في حزبنا، مع أنهم أعداء فيما بينهم، ثم نتعادى نحن ونتقاتل ونتباغض؟!!

 فيا عباد الله:

لقد تشتَّتت الأسر في مجتمعاتنا، يوم أن قطعنا أرحامنا، وحصل الفساد فيما بيننا: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].

إن من الأرحام من يحقد على رحمه، ويتعرض له بالكيد والدسائس، ولذلك فقد قست القلوب، وجفَّت العيون، وقلَّت الأرزاق، وذهبت البركة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فأين نحن من قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فَشَمِّتْه، وإذا مرض فعُده، وإذا مات فاتَّبِعْه))[9].

فأين هذا من أناس جعلوا السلام على المعرفة والمكانة، فلا يسلِّم أحدهم إلا على الكبار، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إذا لقي أحدكم أخاه؛ فليسلِّم عليه))[10].

ويبين النبي – صلى الله عليه وسلم – أن السلام لا يكون على المعرفة، ولا يكون على المكانة، فروى عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رجلاً سأل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الإسلام خير؟ قال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف))[11].

فالسلام هو شعار المحبة والود الذي أقامه رسولنا – صلى الله عليه وسلم – وحثَّ على إرسائه وتثبيته في قلوب اتباعه وأمته من بعده، وعند البخاري موقوفاً على عمار بن ياسر، أنه قال: ((ثلاثٌ من جمعهنَّ فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار))[12].

وبذل السلام للعالم – هنا – يتضمن تواضع العبد، وأنه لا يتكبر على أحد؛ بل يبذل السلام للصغير والكبير، لمن عرف ومن لم يعرف.

ومن حق المسلم على أخيه أيضاً إجابة دعوته، ومن الدعوات ما تكون واجبة، ومنها ما تكون مستحبة، ومنها ما يحرم إجابتها، فأما التي هي واجبة فالدعوة إلى وليمة الزواج، ما لم يكن هناك منكر، وفي ذلك يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها))[13]. والوليمة هي وليمة العرس، وفي لفظ في الصحيح أيضاً: ((إذا دعى أحدكم أخاه فليجب، عرساً كان أو نحوه))[14].

اقرأ أيضا  تعظيم النبي ووجوب محبته وطاعته (1)

قال أهل العلم: هذا الأمر للوجوب، أي يجب عليك أن تجيب الداعي ما لم يكن هناك منكر، أو شيء يخالف الشرع.

عباد الله:

إن من الناس من يدعو إلى وليمته وطعامه عِلْيَة القوم، وكبار الشخصيات، ويترك الفقراء والمساكين – وهم أحقّ بالدعوة من هؤلاء – وفي ذلك يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((شرُّ الطعام طعام الوليمة؛ يُمنَعَها مَنْ يأتها، ويُدعى إليها مَنْ لم يأتها))[15].

فشرُّ الولائم التي للرياء والسمعة، يُدعى إليها الأغنياء، ويُمنع منها الفقراء.

وهناك من الناس أيضاً من لا يجيب الداعي إلا إذا علم أنه من الأغنياء، وأنه سوف يذبح كذا وكذا، وسوف يقدِّم كذا وكذا، فهذا – أيضاً – مخالفٌ لهدي الإسلام؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو خير البشر كان يقبل دعوة كل أحد، وكان يقول – صلى الله عليه وسلم -: ((لو دعيت إلى ذِرَاعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت، ولو أُهدي إليَّ ذراعٌ أو كُرَاعٌ لقبلت))[16].

ويقول – صلى الله عليه وسلم – أيضاً: ((يا نساء المسلمات، لاتَحْقِرَنَّ جارةٌ لجارتها ولو فرْسِن شاةٍ))[17].

 عباد الله:

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله المعروف بالإِحسان المحمود بكل لسان، الرحمن، علم القرآن، خلق الإِنسان، علمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والصلاة والسلام على رسول السلام على رسول الإسلام، وهادي الأنام، أفضل من صلى وصام، وطاف بالبيت الحرام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: 

عباد الله:

ومن حقوق المسلم على أخيه أداء النصيحة إليه، فالنصيحة واجبة عند أهل العلم، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: ((الدين النصيحة، قالوا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم))[18].

والنصيحة من نصرة المسلم لأخيه وعدم خذلانه، وقد قال، – صلى الله عليه وسلم -: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قلنا يا رسول الله ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: ترده عن الباطل، فإن ذلك نصره))[19].

فالواجب علينا أن نتناصح فيما بيننا، والإِنسان لا يسلم من الخطأ والنسيان، ونحن جميعاً يعترينا الخطأ في كثير من تصرفاتنا، فالواجب على الأخ الناصح إذا رأى أخاه قد أخطأ في قضية أو مسألة أو اجتهاد أو تصرف، أن يذهب إليه وينصحه، ولن يجد من أخيه إلا الحب والدعاء والبشر والاستقبال الحسن.

أما أن ينتقد إخوانه وينال منهم في المجالس، ويتعرض لأعراضهم، ثم يهرب من أداء النصيحة إليهم في وجوههم؛ فإن هذا من الغش لله ولرسوله – صلى الله عليه وسلم – وللمؤمنين.

ومن علامة المؤمن، أنه يتلطَّف في نصحه، فيذهب إلى أخيه، ويأخذه على انفراد، ويُسِرُّ إليه بالنصيحة، ولا يُشَهِّر به أمام الناس، لأنه لا يبغي من وراء ذلك إلا رضا الله – عزَّ وجلَّ.

وللنصيحة آداب منها: الإخلاص، ومنها الصدق في أدائها، ومنها الإسرار بها، واختيار الأسلوب اللين، الذي لا يجرح شعوراً، ولا يسبِّب ضغينة.

فالإِسرار بالنصيحة من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – لأن النصيحة على رؤوس الأشهاد فضيحة وتشهير.

ومما يروى عن الشافعي – رضي الله عنه – قوله:

تَعَمَّدْنِي بِنُصْحِكَ  فِي  انْفِرَادٍ        وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ فِي الْجَمَاعَهْ
فَإِنَّ  النُّصْحَ  بَيْنَ  النَّاسِ  نَوْعٌ        مِنَ التَّوْبِيخِ لا أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ
فَإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ  أَمْرِي        فَلا تَجْزَعْ إِذَا لَمْ  تُعْطَ  طَاعَهْ

عباد الله:

ومن حق المسلم على أخيه أن يشمِّته إذا عطس؛ فقد ورد في الحديث: ((إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه: يرحمك الله، فإذا قال: يرحمك الله، فليقل: يهديك الله ويصلح بالك))[20].

وعن أنس: أنه عطس عنده رجلان، فشمَّت أحدهما، ولم يشمِّت الآخر، فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمَّتَّهُ، وعطستُ فلم تُشَمِّتني، فقال: هذا حَمِدَ الله، وأنت لم تحمد الله))[21].

وروى أبو موسى الأشعري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه))[22]. فإذا قال العاطس: الحمد لله؛ فواجب علينا أن نقول له: يرحمك الله، وإذا سكت فلم يحمد الله؛ فليس علينا أن نقول له يرحمك الله، عملاً بهذا الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم.

أيها المسلمون:

ومن حق المسلم على أخيه عيادته إذا مرض، وعيادة المرضى من الأمور التي تزرع المحبة والألفة بين المسلمين، ولذلك فقد جاءت الأحاديث الصحيحة مُبينة فضل زيارة المرضى منها ما رواه مسلم عن ثوبان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من عاد مريضاً لم يزل في خُرْفة الجنة حتى يرجع))[23].

وقد عاد عليه الصلاة والسلام أصحابه ودعا لهم؛ منهم: سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – عاده – صلى الله عليه وسلم – ودعا له[24].

وعاد – عليه الصلاة والسلام – جابرَ بن عبد الله – رضي الله عنه – فوجده مُغْمى عليه فتوضأ – عليه الصلاة والسلام – وصبَّ عليه الماء؛ فاستفاق[25].

وعاد عليه الصلاة والسلام أعرابياً جافياً ودعا له فأبى[26].

وهناك آداب لعيادة المرضى ينبغي على المسلم مراعاتها، منها عدم إطالة الجلوس عند المريض، وقد ذكر الذهبي في ترجمة سليمان بن مهران الملقب ((بالأعمش)) أنه مرض مرضاً مزمناً، فدخل عليه الناس، وترددوا عليه كثيراً حتى أزعجوه، فكان من أمره أن كتب وَصْفَ مرضه، وما يعانيه في ورقةٍ، ووضعها تحت وسادته التي ينام عليها، فكان كلما سأله أحدٌ عن مرضه أخرج هذه الورقة، وقال له: اقرأ!! فلما كثر الناس عليه، قفز، فأخذ المخدة، وجعلها تحت إبطه، ووقف وقال للناس: شافى الله مريضكم!!

فعلى المسلم أن يراعي حال المريض في الزيارة، وعليه – أيضاً – أن يتحرَّى وقت العيادة؛ بحيث يكون مناسباً للمريض، فلا يكون عند نومه، ولا عند طعامه، ولا عند صلاته، بل يجتهد في معرفة الوقت المناسب للعيادة.

كذلك ومن آداب العيادة، تهوين أمر المرض على المريض، وذلك باختيار الكلمات المناسبة التي تُدخل عليه الفرح والسرور، وليس كما يفعل بعض الناس – هداهم الله – فإنهم يُشعرون المريض بأن مرضه خطير، وحاله سيئة، وأنه يجب عليه أن يوصي بماله، وأن يوزِّع تركته، وكأن ملك الموت ينتظره عند الباب. 
وهذا خطأٌ جسيمٌ، فالحالة النفسية لها دورها في تعجيل الشفاء، ولذلك فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان إذا عاد مريضاً قال له: ((لا بأس، طهور إن شاء الله))[27] كما فعل مع الأعرابي.

اقرأ أيضا  الوفاء بالوعد وأثره على الرزق

ولكن قال بعض أهل العلم: إذا وجدت رجلاً قد اشتد مرضه، وظهرت عليه علامات الموت، وأصبح قريباً من الآخرة، فحسِّن ظنَّه بالله، وبشِّره بالجنة، وحسِّن رجاءه في الله.

 أيها المسلمون:

إن حقوق المسلمين على إخوانهم لا تنقطع ولا تنتهي حتى بعد الموت، فللمسلم حقوقٌ على إخوانه حتى بعد أن يصبح جثماناً، وتصعد روحه إلى بارئها.

فمن حقوقه بعد وفاته: اتباع جنازته، والصلاة عليها، ومواصلته بالدعاء بالمغفرة والرحمة، فهذه هي أخوة الإسلام، وهذا هو ميثاق الإيمان، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: ((من شهد الجنازة حتى يصلِّي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان))، قيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين))[28]. وانظر إلى عظم الأجر وجزيل الثواب مع أن العمل هينٌ والمشقة محدودة.

 أيها الناس:

إن حقوق المسلمين كثيرة، لا نستطيع في هذه الدقائق أن نستوعبها، وإذا لم يستطع أحد منا أن يقوم بكل ما عليه تجاه أخيه من حقوق، فعليه أن يكفَّ شرّه عن عباد الله، فلا يغتاب أحداً، ولا ينال من عرض أحد، قال تعالى: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات: 12].

وقد بلغ الحسن البصري أن رجلاً قد اغتابه، فأتى بطبق، ووضع فيه رطباً، ثم قال لخادمه: اذهب إليه وقل له: أهدى لنا حسناته، وأهدينا له رطباً!!

وأتى رجل إلى جعفر الصادق، فسبَّ رجلاً من المسلمين في مجلسه، فقال له جعفر الصادق: أيها الرجل .. أقاتلت الروم؟ قال: لا. فقال له: أقاتلت فارس؟ قال: لا. قال: أجاهدت الكفار؟ قال: لا. فقال: سبحان الله!! يسلم منك الروم وفارس واليهود والنصارى، ولا يسلم منك المسلمون!!

فاتق الله أيها المسلم في أعراض المسلمين، فعِرْض المسلم أمره عظيم، وشأنه خطير، فكيف يزين لك الشيطان أن تتحدث في أعراض إخوانك، فتعدِّل هذا، وتجرِّح ذاك، وتشتم هذا، وتسب هذا، وقد يكون هذا الذي سببتَ وشتمت أفضل منك وأتقى منك لله – عزَّ وجلَّ.

فأين نحن من أبي الدرداء الذي كان يدعو في السحر لسبعين من أصحابه، وأين نحن من الإمام أحمد وقد رأى ابن الشافعي فقال له: أبوك من الذين أدعو لهم كل يوم!!

وأين نحن من الإمام الشافعي يوم عاتبه بعض الحاقدين في زيارته للإمام أحمد، وقالوا له: كيف تزوره وأنت أكبر منه سنّاً؟ فرد عليهم قائلاً:

قَالُوا   يَزُورُكَ   أَحْمَدٌ   وَتَزُورُهُ        قُلْتُ  الْفَضَائِلُ  لا  تُغَادِرُ  مَنْزِلَهْ
إِنْ  زَارَنِي   فَلِفَضْلِهِ   أَوْ   زُرْتُهُ        فَلِفَضْلِهِ فَالْفَضْلُ فِي الْحَالَيْنِ لَهْ!

فاللهَ اللهَ في الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، والله الله في حفظ عورات المسلمين وأعراضهم، والله الله في التناصح والتآلف والتآزر.

عباد الله:

وصلوا وسلموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].

وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً))[29].

فاللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد – صلى الله عليه وسلم – واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة يا رب العالمين.



[1]   أخرجه البخاري (3/98) كتاب المظالم باب (3). ومسلم (4/1996) كتاب البر والصلة رقم (58).

[2]   ((السُّلامى)) أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في سائر عظام البدن ومفاصله.

[3]   أخرجه البخاري (3/224) كتاب الجهاد باب (72، 128). ومسلم (2/699) كتاب الزكاة رقم (56).

[4]   أخرجه مسلم (1/74) كتاب الإيمان، رقم (93).

[5]   أخرجه الترمذي (4/572) كتاب صفة القيامة، رقم (2508) قال أبو عيسى: حديث صحيح غريب. وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (2683).

[6]   أخرجه أحمد (166، 356) والنسائي في اليوم والليلة رقم (863) وابن السني في اليوم والليلة رقم (754). قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (3/187): رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين.

[7]   أخرجه مسلم (4/1986) كتاب البر والصلة، رقم (32).

[8]   ورد بذلك الحديث الصحيح. انظر صحيح مسلم (4/1997) كتاب البر والصلة رقم (59).

[9]   أخرجه مسلم (4/1705) رقم (2162).

[10]   أخرجه أبو داود (4/351) رقم (5200) قال الألباني: رواه بإسنادين أحدهما صحيح كما في المشكاة رقم (4650).

[11]   أخرجه البخاري (1/13)، ومسلم (1/65) رقم (39).

[12]   أخرجه البخاري (1/12) معلقاً، وقد وصله عبد الرازق في المصنف رقم (19439).

[13]   أخرجه البخاري (6/143)، ومسلم (2/1052) رقم (1429).

[14]   صحيح مسلم (2/1053) رقم (1429).

[15]   أخرجه البخاري (6/144)، ومسلم (2/1054) رقم (1432).

[16]   أخرجه البخاري (3/129).

[17]   أخرجه البخاري (3/129)، ومسلم (2/714) رقم (90) والفرسن: عظم قليل اللحم وموضع الحافر في الإبل.

[18]   أخرجه مسلم (1/74) رقم (55).

[19]   أخرجه البخاري (3/98) من حديث أنس واللفظ له، ومسلم (4/1998) رقم (2584) من حديث جابر رضي الله عنه.

[20]   أخرجه البخاري (7/125) وأحمد (2/353).

[21]   أخرجه البخاري (7/125)، ومسلم (4/2292)، رقم (2991)، والترمذي (5/78) رقم (2742)، وابن ماجه (2/1223) رقم (3713).

[22]   أخرجه مسلم (4/2992) رقم (2992)، وأحمد (4/412).

[23]   صحيح مسلم (4/1989) رقم (2568) وخرفة الجنة: بساتينها.

[24]   انظر: صحيح البخاري (7/6)، ومسلم (3/1253) رقم (1628).

[25]   انظر صحيح البخاري (8/149)، وصحيح مسلم (3/1234) رقم (5-7).

[26]   أخرجه البخاري (7/7).

[27]   أخرجه البخاري (2/90)، ومسلم (2/652) رقم: (945).

[28]   متفق عليه.

[29]   أخرجه مسلم (1/288) رقم: (384).

المصدر:الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.