الشريعة الإسلامية وفضائلها الأخلاقية
السبت11 صفر 1435 الموافق 14 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
أ. د. مصطفى حلمي
وفقًا لما توصلنا إليه من نتائج في دراستنا لهذه الأمور بموضوعية كاملة نستطيع البرهنة على ضرورة الاستمساك بشريعتنا الإلهية التي تتصف ضمن ما تتصف به بالأخلاقيات والاتجاه بالإنسان إلى تحقيق (خلافة) الله تعالى في الأرض بتنفيذ مكارم الشريعة. يقول الأصفهاني: “ومكارم الشريعة هي الحكمة والقيام بالعدالة بين الناس والحلم والإحساس والفضل والقصد منها أن تبلغ إلى جنة المأوى وجوار رب العزة تعالى“[1].
والشريعة في هذا المجال لها دوران:
دور الردع والإلزام كما يرى ابن حزم حيث تكف الناس عن القتل الذي فيه فناء الخلق وعن الزنا الذي فيه فساد النسل وخراب المواريث، وعن الظلم الذي فيه الضرر على الأنفس والأموال وخراب الأرض، وعن الراذئل من البغي والحسد والكذب والجبن والبخل والنميمة والغش والخيانة وسائر الرذائل[2].
دور الحث على الاتصاف بمكارم الأخلاق كقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ [النحل: 90]، قوله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الأنعام: 151] إلى انقضاء تلك الخصال في سورة الأنعام من الآية 151 وما بعدها).
والآيات كثيرة في هذا الغرض حيث تحقق الأخلاق الفاضلة بحيث تجعلنا نؤيد الرأي القائل بأن “الشريعة إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق“[3].
كذلك يتضح سمو شريعتنا بمقارنتها إجمالًا بالشرائع السابقة عليها فإن الشرائع الثلاث -كما يفصلها شيخ الإسلام ابن تيمية- شريعة عدل فقط، وشريعة فضل فقط، وشريعة تجمع بين العدل والفضل، فتوجب العدل وتندب إلى الفضل، وهذه أكمل الشرائع الثلاث، وهي شريعة القرآن الذي يجمع فيه بين العدل والفضل، مع أننا لا ننكر أن يكون موسى عليه السلام أوجب العدل وندب إلى الفضل، وكذلك المسيح عليه السلام أيضًا أوجب العدل وندب إلى الفضل… إلخ.
والقرآن بين أن السعداء أهل الجنة، فهم أولياء الله نوعان: أبرار مقتصدون، ومقربون سابقون. فالدرجة الأولى تحصل بالعدل وهي أداء الواجبات وترك المحرمات، والثانية لا تحصل إلا بالفضل وهي: أداء الواجبات والمستحبات وترك المحرمات والمكروهات، فالشريعة الكاملة تجمع العدل والفضل كقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280] فهذا عدل واجب، من خرج عنه استحق العقوبة في الدنيا والآخرة، ثم قال: ﴿ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280] فهذا فضل مستحب مندوب إليه، من فعله أثابه الله ورفع درجاته، ومن تركه لم يعاقبه.
وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ﴾ [النساء: 92]. فهذا عدل، ثم قال: ﴿ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ﴾ [النساء: 92] فهذا فضل. وقال تعالى: ﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ [المائدة: 45] فهذا عدل، ثم قال: ﴿ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ﴾ [المائدة: 45] فهذا فضل.
وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [النحل: 126] فهذا عدل، ثم قال: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126] فهذا فضل.
وقال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40] فهذا عدل، ثم قال: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40] فهذا فضل.
وهو سبحانه دائما يحرم الظلم ويوجب العدل ويندب إلى الفضل والآيات أيضًا كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 40 – 43]، وقال: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾ [الحج: 60].
وهذا من أحسن الكلام وأعدله وأفضله، حيث يشرع العدل فقال: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40]، ثم ندب إلى الفضل فقال: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40][4].
فهذا أحسن شرع وأجمله، يرغب في الصبر والعفو والإصلاح بغاية الترغيب ويذكر ما فيه من الفضائل والمحاسن وحميد العاقبة، ويرفع عن المنتصف من ظلمه الملام والعذل، ويبين أنه لا حرج عليه ولا سبيل إذا انتصر بعد ما ظلم[5].
وإن كانت العقيدة للمسلم بمثابة الجذور للشجرة فإن الثمار هي الأخلاق وسياجها الشريعة التي تحيط هذه الأخلاق الفاضلة فتمنع عنها الريح العاصفة وتهيئ لها النمو والوفرة، ومن ثم فإننا لا نتصور أن تزكو الأخلاق بالمفهوم الإسلامي وسط أحراش من القوانين الوضعية التي قد تعرقل جهود المسلم نحو سلوك الحد الأدنى للرقى الأخلاقي، ونعنى بذلك الالتزام بالحلال والانتهاء عن الحرام، بينما تحيط به قوانين تبيح شرب الخمر وصناعته ولا تحرم الزنا وتقنن التعامل بالربا وغير ذلك من “كبائر” في شريعة الإسلام.
الإيمان بالقدر في الإسلام لا يتنافى مع إطلاق حرية الإنسان في العمل والسلوك:
ونأتي إلى أهم عامل له صلة وثيقة بالمشكلة الأخلاقية وهي إطلاق الحرية للإرادة وتحميل الإنسان المسئولية عن أفعاله حيث التبس الأمر بين الإيمان بالقدر وبين الاعتقاد في حرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله. حدث هذا بين المسلمين أنفسهم فظهرت فرقة تسمى بـ (الجبرية)، وربما امتدت العدوى إلى غيرها من المسلمين – لا سيما في العصور الأخيرة عندما فشى الجهل بعقائد الإسلام الصحيحة إلا بين القلائل الذين لا يخلو منهم عصر من العصور.
ولكن المؤكد أن المسلمين الأوائل وفي العصور الزاهرة كانوا يعملون ويجتهدون تحت مظلة الإيمان بالقدر، ولم يمنعهم هذا الإيمان من السعي والنشاط، وما توقفت حركة الحضارة الإسلامية إلا في ظل الاعتقاد المنحرف الذي أدى بهم إلى الجبرية المعطلة عن العمل، والبحث والسير قدمًا نحو الأفضل والأرقى.
وهنا نحن نوضح المسألة بالاسترشاد بفهم السلف، فإن تاريخنا لا يعني فقط قرونًا مضت وانقضت، ولكنه يحمل في طياته النموذج الذي تحقق في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والخلفاء الراشدين ومن تبعهم، هذا النموذج يظل حيًا شامخًا أيضًا في جانبيه التشريعي والأخلاقي.
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- على وعي كامل بالأحاديث التي قيلت لهم في هذا الصدد بحيث فهموا منها أن “القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه بل يوجب الجد والاجتهاد، ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك الحديث الخاص بالقدر قال: ما كنت أشد اجتهادًا منى الآن، وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقة أفهامهم وصحة علومهم“[6].
ويضرب ابن القيم الأمثلة على أن سعي الإنسان إلى تحقيق أغراضه في الدنيا لا يتم إلا بالسعي والاجتهاد في العمل: كطلاب العلم، والمتطلع إلى تكثير النسل بالزواج، والباحث عن زيادة الزرع بالغرس والعناية والحصد إلى غير ذلك من أعمال الإنسان العادية التي يسعى بإرادته لتحقيقها كالأكل والشرب واللبس وغيرها، إلى أن يختم كل ذلك بقوله “وهذا شأن أمور المعاش والمعاد، فمن عطل العمل اتكالًا على القدر السابق فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالًا على ما قدر له، وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي بها مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية، بل فطر الله على ذلك سائر الحيوانات..
فالقدر السابق معين على الأعمال وما يحث عليها ومقتض لها، لا أنه مناف لها. وصاد عنها… فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أرشد الأمة في القدر إلى أمرين هما سببا السعادة: الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره وذلك نظم الشرع“[7].
وبعد، فإننا نقدم هذا الكتاب لطلابنا ومثقفينا إسهامًا منا في إقناعهم بأن من حقنا وواجبنا الاستمساك بتراثنا الثقافي ذي النظام التشريعي والأخلاقي المتميز بحيث يغنينا عن الدوران في فلك أي نظام ثقافي آخر، غربيًا كان أو شرقيًا.
وإذا كان الفكر الفلسفي قد أصاب النظام الأخلاقي بما يشبه الفوضى، فإن نظامنا الأخلاقي ما زال في قمته لأنه مستمد من الوحي الإلهي، وشرح تفاصيله علماؤنا وحكماؤها عن دراية وفهم. ونقلوه إلينا عبر الأجيال.
صحيح أننا لم نعد نعبر عنه في أوضاعنا العامة -اللهم إلا القلة منا– ولكنه يظل مرتفعًا شامخًا لكي يساعدنا على قياس مدى انحدارنا عنه ويظل حافزًا للارتقاء إليه. ومن الحق أيضًا القول في النهاية بأن اقتحام الغرب العسكري والاقتصادي والسياسي والثقافي لأمتنا قد أسهم إسهامًا كبيرًا في تدهورنا.
والله تعالى المسئول أن يأخذ بأيدينا إلى ما يحب ويرضى من مكارم الأخلاق ومعاليها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
[1] الذريعة إلى مكارم الشريعة، الراغب الأصفهاني ص 91 تحقيق الدكتور أبو اليزيد العجمي ط دار الوفاء للطاعة والنشر 1405هـ- 1958م.
[2] الفصل في الملل والأهواء والنحل: ابن حزم ج1 ص 79- 80 ط صبيح 1347هـ.
[3] تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل ج1 ص 90 تصحيح محمد فؤاد عبد الباقي ط عيابي الحلبي 1376هـ- 1957م.
[4] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: ابن تيمية- ج 3 ص 229- 230 مطبعة مدني بدون تاريخ.
[5] نفسه ص 257،258.
[6] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل: ابن القيم ص 25، مكتبة الرياض الحديثة- مصورة عن طبعة الخانجي 1323هـ.
أما الحديث فقد أوردنا نصه بالكتاب عند عرض آراء ابن القيم، ولا بأس من ذكر بعض ألفاظه هنا للاستئناس حيث قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – “ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة أو النار وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، فقال رجل يا رسول الله: أفلا نتكل وندع العمل.. قال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: اعملوا فكل ميسر لما خلق له.. ثم قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 – 10].
[7] شفاء العليل، ص 26.
المصدر:الألوكة