ما السبيل إلى حياة أفضل؟

الأحد12 صفر 1435 الموافق 15 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

أ. د. مصطفى حلمي 

ما السبيل إلى حياة أفضل؟

توجيهات شيخ الإسلام ابن تيميَّة في تزكية النفس، وتحسين الأخلاق، وإصلاح المجتمع

الوحي الإلهي هو المنقذ؛ وليس الفكر الإنساني
الدين مصدر الإلزام الخلقي والأحكام الشرعية
النفس سعادتها وشقاؤها
أفضل النِّعَم التي تتم بها السعادة هي نعمة الإيمان
ضرورة الصدق وإخلاص النية في أعمال الدين والدنيا
أنواع الأعمال وكيف نختارها
محاسن الأخلاق

تمهيد:

بعد الانتهاء من شرح العقيدة الإسلامية، وبيان معالمها ومشتملاتها، يحسُن بنا سلوك الطريق العملي نحو الحياة الإسلامية، الجديرة بأن نحياها كمسلمين، نتحرَّى فيها الصدق مع النفس التزامًا بأوامر الله – تعالى – ونواهيه، باذلين الوُسع ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ سعيًا وراء الحياة الأفضل فالأفضل، لأنفسنا ولمجتمعاتنا، ولأمتنا.

وكنا قد أشرنا في مقدمة الطبعة الأولى إلى علة اهتمامنا بشيخ الإسلام؛ حيث يتميَّز بسلامة المنهج، ووضوح الأفكار، والاستناد إلى الحجج والأدلة، فضلاً عن إحاطته العميقة بتفسير القرآن الكريم، ودرايته الواسعة الدقيقة بالأحاديث النبوية، والاستناد في اجتهاداته وآرائه ومواقفه إلى النصوص الشرعية.

وما الاستفادة بتراث علمائنا إلا بإذاعتها، ونشرها على نطاق واسع، ووضعها موضع التنفيذ – لا فرق بين السابق والمعاصر – لأننا نَوَدُّ الاستفادة من آرائهم في حل مشكلاتنا المعاصرة؛ لأن البعث الحضاريَّ الإسلاميَّ يأتي أولاً بتغيير النفس وتزكيتها، ومعرفة ذاتيَّة الأُمَّة ودَوْرها، وما حيلتنا إذا كان القاسم المشترك الأعظم في حضارَتِنا الإسلاميَّة أنَّها نَشَأَتْ وتَرَعْرَعَتْ بين يديِ الدين؛ بعقيدته وشريعته وقيمه؟ وهي في إحيائها واستمرارها لن تقوم إلا وَفْق هذا القانون

أما العناية بالخِطط والمناهج والأهداف بغير تربية الإنسان وتعديل السلوك؛ فإنها جهود ضائعة تَذْرُوها الرياح..!! فهل نطمع في إقناع القادة والساسة وأصحاب الرأي والقلم بضرورة الاهتمام بفرعَيْ هذا الطريق معًا، وبنفس القدْر من العناية والاهتمام؟

ولا يَصدر رأينا هذا منَ استهانة بقدْر الخِطط والبرامج؛ بل نرى أنَّنا أشدُّ ما نكون حاجةً إلى التخطيط العلميّ، ومتابعة التنفيذ العمليّ بدقة وحزم، ونأمل أن نرى أُمتنا وفقًا لهذا التخطيط المحكَم، تتسابق مع غيرها في عصر الفضاء والكمبيوتر.

ولكن الإعداد النفسي والعلمي، ومخاطبة عقول الناس بالإقناع، وحَثُّهم على المنافسة في تحقيق الأهداف ـ: كل هذه الوسائل لا بد أن تكون ملازِمة ومصاحِبة للخِطَط النظريَّة؛ إذ ما جدواها بغير رجال مقتنعين بجدواها، ومؤمنين بأهدافها؟! بحيث تجمعهم عقيدة راسخة وإيمان قويٍّ؟!

وكانت كتابات الشيخ في أغلبها فتاوى واجتهاداتٍ؛ للرد على أسئلة واستفسارات المسلمين حينذاك، ومن ثَمَّ فإنَّ إجاباتِهِ توضح مشكلات عصره، مقترنةً بالتجارِب التي خاضها، وربما تُشبِه – في ملامحها العامَّة – ما نُعانيه الآن؛ إذ قام بتنقية الدين مما شابَهُ من البدع الاعتقاديَّة والعباديَّة، وحارب مظاهر الفساد والظلم المتفشية في المجتمع، وجاهد في سبيل الله لصَدّ الهجمات (الاستعمارية) التخريبية للتتار، وبرهن على عجز الفِكْر الفلسفي – في منابذته لحقائق الوحي الإلهيِّ – لتحقيق الحياة السعيدة للإنسان، فإنَّ شرع الله تعالى هو الكفيل وحدَهُ بتحقيق هذه الحياة؛ لأن الله تعالى هو خالق الإنسان، وهو الأعلم به.

ونعتقد أنَّنا إِزاءَ الاتِّجاهات الفلسفيَّة، وآثار القوانين الوضعية على الفرد والمجتمع، ومشكلات الحضارة المادية، والتَّنافُس على حياة الرفاهية، ونسيان الغرض الأصليّ الذي خلقنا من أجله، نعتقد أنَّ استنباطاتِهِ للنصوص تَكْفُل لنا الرؤية وسْطَ هذا الضباب القاتم.

وعملاً باستنباطاته للقرآن والحديث، فإنَّهُ يُوَجّهنا – نحن المعاصرين – لبداية القرن الخامسَ عَشَرَ الهجريَّ أيضًا – لكي نستمدّ منهما تصوراتِنا الصحيحةَ، فتَسْلَمَ عقيدتنا، ونأمل في حسن المصير من جهة، كما ترفعنا إلى قمم قلاع المقاومة؛ فنقف في وجه الطوفان المدمر للغزو، الذي بدأ منذ نحو قرن مضى، وما زال مستمرًّا.

إنه فعلاً طوفان مدمر بلا أدنى مبالغة، وإذا طالبَنا القارئُ بالدليل، فإليه رأي الفيلسوف المسلم “رجاء جارودي”، الذي يشفق على الشخصية الإنسانية أمام طغيان الأجهزة الحديثة، التي حوَّلت الإنسان إلى مجرد ألعوبة في يدها؛ تشكله كيف تشاء؛ إذ يقول: “إنَّ القوَّة المخيفة ليس فقط للوسائل الجماهيرية في نشر الثقافة؛ من صحافة وإعلان وإذاعة وتليفزيون وسينما؛ بل قوة الأجهزة التي تدير تلك الوسائل؛ بهدف إخضاع سلوك الأفراد لأغراض اقتصادية وأخلاقية وسياسية، خلقت وضعًا واقعيًّا، أصبح فيه أكثر جوانب سلوك الأفراد ظهورًا هو خضوعهم لمخططات بنيانية، وذلك ابتداء من المونتاج الإعلاني لردود الفعل المشروطة، حتى كليشيهات المناظر العاطفية، مارِّين بردود الفعل السياسية عند الجماهير، تلك الردود المتبلورة في صيغ، أعدت إعدادًا مسبقًا[1].

الوحي الإلهي هو المنقذ؛ وليس الفكر الإنساني:

كان نقد ابن تيميَّة يمثل أحد الأسلحة لحماية ذاتية الأمة في مواجهة الثقافة اليونانية، وصدها ومنع تسربها للمسلمين، وكان هذا دأب علماء السُّنة، وينبغي أن يستمر؛ كدور أساسي لعلمائنا في معركة الصراع بين الغرب الأوروبي والشرق الإسلامي، استمساكًا بمنبع الإسلام: الكتاب والسُّنة.

والمنهج لا يحتاج إلى إعادة شرح؛ فإن استدلال الشيخ بالكتاب والسُّنة من الوضوح بحيث يكاد يختفي هو نفسه وراء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي يستنبطها، كل ما فعله هو أنه يذكرنا بها؛ إذ قدمها لنا في صورة نسق متكامل، يتناول الإنسان: نفسه وإرادته ومصيره وما يسعده وما يشقيه، ولا يكتفي بالتفسير؛ بل يحرك الإنسان بتذكيره بالوعد والوعيد، ويحذر من المهالك على طريق الحياة، مبيِّنًا صلة الاعتقادات بالأعمال، ودور العبادات في إصلاح النفس، وكيف تحقق السعادة والطمأنينة النفسية، وإصلاح المجتمع بتطبيق شريعة الله، يظهر الصبغة العملية الواضحة في الإسلام: أنه دين (حركي ارتقائي)، يصعد بالإنسان قدمًا؛ ليصل إلى مرتبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

نقده للفكر الفلسفي[2]:

تنبَّه شيخ الإسلام إلى عجز الفكر الفلسفي عن تحقيق السعادة للإنسان في حياته الراهنة، فضلاً عن الحياة الآخرة، وأظهر ما يتضمَّنه الكتاب والسُّنة من نصوص عن الإنسان وماهيته، وسعيه الحثيث إلى تحقيق المنافع والملذَّات، واجتنابه ما يجلب الأضرار والآلام.

وكان ابن تيميَّة معارضًا لآراء الفلاسفة العمليَّة الأخلاقية أيضًا، وخلاصة المآخذ التي وجَّهَها إلى الفلاسفة اليونان – ومَن تبعهم من المسلمين – أن ما ذكروه من العمل لا يخضع لقواعد ملزمة، وإنما متعلق بالندب، أي اختيارًا لا إلزامًا، كما أنهم لم يثبتوا خاصية للنفس، وهي محبة الله تعالى وتوحيده؛ بل لم يعرفوا كمال تلك النفس، أضف إلى ذلك أن علمهم بالله تعالى قليل، مشتمل على كثير من الباطل، بينما يتحقق كمال النفس في العلم والإرادة معًا؛ العلم بالله تعالى وإرادة مرضاته، وابتغاء وجهه عز وجل.

إنه بهذا التحليل لا يوجه نقده للفكر الفلسفي اليوناني فحسب؛ بل للفكر الفلسفي عامة؛ لأن ظواهر القصور في هذا الفكر ما زالت قائمة، ويسجلها الباحثون والكُتَّاب، ويلحظها الفلاسفة الغربيون أنفسهم.

يصف “كولن ولسن” النقطة التي وصل إليها تفكير القرن العشرين بقوله: “من المتوقع أن تصف الأجيال الآتية النصف الأول من هذا القرن بأنه عصر اللا معنى، ففِقْدان المعنى والهدف يجثم على أدبنا وفننا وفلسفتنا، هذا الشعور العامّ بأن التأكيدات التي يمنحها الدين قد ضاعت، ولا يُمْكِنُنا استبدالها، فتحليل العلم للمشكلات العلمية يَزيد في اتساع هوة الفراغ المؤلم، ومن خلال هذا تبدو الثقافة الغربية تعاني الانهيار والانتكاس لما لا يقلّ عن مائة سنة، إذ إن الأمر ليس إلا مسألة تفكير في معرفة المدة التي تستمر فيها قبل أن يلتهمها الإفلاس الماحق[3].

ولنَعُدْ لنقد شيخ الإسلام التفصيلي لفلاسفة اليونان، ومَن تبعهم:

إن القصور يرجع إلى ثلاثة أسباب:

الأول: أنَّ الحكمة النظرية – أو الفلسفة عندهم – وهي أصل العمل، لا تتضمن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو العلم الذي تهتدي به النفوس.

الثاني: أن الحكمة العملية لا تتضمن الأعمال، التي تسعد بها النفوس الإنسانية، وتنجو من عذاب الله تعالى.

الثالث: أن غاية الحدّ الأوسط – عند أرسطو ومَن سار على دربه – هو تعديل الشهوة والغضب بالعفَّة والحِلم؛ أي إن مقصودهم تركُ الإسراف فيهما، أضف إلى ذلك أنَّ الفلاسفة لم يضعوا حدًّا فاصلاً قاطعًا بين ما تَحصل به النجاة والسعادة، وما يسبب الشقاء والعذاب، بينما فعل ذلك الرسل والأنبياء؛ حيث بيَّنوه وأوضحوه، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 33].

ويظهر من هذه الآية التحريمُ المطلق بلا إباحة لأحد من الخلق بأي حال من الأحوال، بخلاف الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك؛ فإنه يحرم في حال ويباح في حال.

ولكي يتبين التفسير الصحيح لهذه الآية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. يقارن ابن تيميَّة بينها وبين آيات أخرى تتضمن لام التعليل؛ كقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}[البقرة: 185]، وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37]، وقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]، فهو سبحانه لم يرسله إلا ليطاع، ثم قد يطاع وقد يُعصى، وكذلك ما خلقهم إلا للعبادة، ثم قد يَعبدون أو لا يَعبدون، فلم يذكر سبحانه وتعالى أنه خلقهم ليجعلهم هم عابدين، ولكن ذكر أنه فعل:

الأول: أي الخلق؛ ليفعلوا هم.

الثَّاني: أي العبادة، فيكونون هم الفاعلين لها، فيحصل بفِعْلِهِمْ سَعَادَتُهم وما يُحِبُّه ويرضاه لهم؛ إِذْ إِنَّ كُلَّ ما خلقه وأَمَرَ بِهِ غايتُه محبوبةٌ لله ولعباده، وفيه حكمة له، وفيه رحمة لعباده[4].

الدين مصدر الإلزام الخلقي والأحكام الشرعية:

والتعليل للتحريم المطلق يرجع في رأي ابن تيميَّة إلى أن الفواحش متعلقة بالشهوة، والبغي بغير الحق يتصل بالغضب، والشرك بالله فساد في أصل العدل، فالشرك ظلم عظيم، وفساد العلم يرتبط بالقول على الله بغير علم، وهكذا حرَّم سبحانه وتعالى هذه الأربعة؛ (وهي فساد الشهوة والغضب، وفساد العدل والعلم)، ويظهر لنا مما تقدم أنه يهتم باستخراج القواعد الأخلاقية، التي تنظم سلوك الإنسان، وأنه يخضع هذا السلوك لنظام محدد، استخلصه من القرآن الحكيم.

إذا اخترنا تعريف (سدجويك) للأخلاق بأنها مجموعة قوانين شرعها للناس إلهٌ[5]، فإننا نجد هذا المفهوم أكثر دقة وتفصيلاً عند الشيخ السلفي؛ إذ أوضح أن رسالة الرسل والأنبياء جميعًا جاءت بأمر عبادة الله سبحانه وحدَهُ في مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقوله – لمَّا ذكر قَصص الأنبياء -: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 92 – 93]، وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

نفهم من هذه الآيات وغيرها، أن الغاية التي تتم بها سعادة البشر ونجاتهم، هي عبادة الله وحده؛ حيث أرسل الرسل والكتب لهذه الغاية، فلا تصلح النفوس وتزكو إلا بها، ويفسر ابن تيميَّة قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 – 7]، بأنهم لا يؤتون ما تزكو به نفوسهم من التوحيد والإيمان، ومن ثَمَّ فإنهم يستحقون العذاب؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء: 48]، وفي هذا الأمر تتفق رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – مع رسالتَيْ موسى وعيسى عليهما السلام؛ حيثُ وَرَدَتْ أوَّلَ الوصايا العشر، التي أنزلها الله على موسى، حيث قال له: ” أنا الله لا إله إلا أنا، إلهك الذي أخرجتك من أرض مصر”، وقد شهد المسيح – عليه السلام – أن هذه هي أعظم وصية في الناموس، وهكذا اتَّفقت كثير من الكتب الإلهية على عبادة الله وحده، فلا نجاة للنفس الإنسانية ولا سعادة ولا كمال إلا بأنْ يَكُونَ الله معبودَها ومحبوبَها، الذي لا أحبَّ إليها منه[6].

وقد أخبر الله تعالى في غير موضع من القرآن عن الرسول، أنه يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وتفسير هذه الآيات أنه بتلاوتها يحصل العلم؛ لأن الآيات هي الدَّلالات والعلامات؛ أي إنها تدلهم على المطلوب من تصديق الرسول فيما أخبر به “وأما التزكية فهي تحصل بطاعته فيما يأمرهم به؛ من عبادة الله وحده وطاعته، فالتزكية تكون بطاعة أمره[7].

مفهوم الدين إذن له شقان:

أحدهما: هو تزكية النفس بعبادة الله وحده.

والثاني: الطاعة فيما أمر به الله سبحانه، فجِماع الدين أمر ونَهْي[8]، وقد وردت الآيات التي تصف محمدًا – صلى الله عليه وسلم – بأنه {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}[الأعراف: 157]، ومنها يظهر كمال رسالته؛ “فإنه – صلى الله عليه وسلم – هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف، ونهى عن كل منكر، وأحل كل طيب، وحرم كل خبيث[9]. وجاءت الحدود والعقوبات داعية إلى فعل الواجبات وترك الحرمات، ولم تفسد أمور كثيرة من الناس إلا بسبب تعطيل الحدود الشرعية[10].

وساق ابن تيميَّة الحديثَيْنِ الدالَّيْنِ على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم:

أحدهما: ((إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق)).

والثاني: ((مَثَلي ومَثَل الأنبياء كمَثَل رجل بنى دارًا فأتمها وأكملها إلا موضع لَبِنَة، فكان الناس يطوفون بها ويعجبون من حسنها، ويقولون لولا موضع اللَّبِنَة؟! فأنا تلك اللَّبِنَة)).

أما الرسل قبله، فقد كان الله تعالى يُحرِّم على أممهم بعض الطيِّبات؛ كما قال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، وكما قال: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93]، فربما لم يُحرِّم عليهم جميع الخبائث، وقد أكمل الله تعالى الدين للأمة الإسلامية بقوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: 3] وجعل ميزة هذه الأُمَّة الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فوصفها بما وصف بها نبيها؛ إذ لم يتم الأمر بجميع المعروف والنهي عن كل منكر؛ إلا بوساطة الرسول “الذي تمَّم الله به مكارم الأخلاق المتدرّجة في المعروف[11].

ويهتم ابن تيميَّة بتفاصيل العقوبات الشرعية؛ إذ لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بها، فيوضح الحدود التي يقيمها ولاة الأمور؛ لأنَّ الله يَزَعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن[12].

إنَّ تطبيق شرع الله تعالى إذن هو ضرورة أخلاقية، وضرورة اجتماعيَّة، ويتَّضح من كلّ ما تقدَّم أنَّ مجموعة الأحكام الشرعية المتدرِّجة تحت مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لها صفة الإلزام، ولهذا فَقَدْ شُرِعتِ العقوباتُ داعيةً إلى فِعْلِ الواجبات، وتَرْكِ المُحَرَّمات[13].

اقرأ أيضا  الحج من محاسن الإسلام

ولئنْ كان الثوابُ والعقابُ من جنس العمل في قَدَر الله، فإنَّ من عَدْلِه سبحانه الذي تقوم به السماء والأرض أن يكون ذلك في شَرْعِه أيضًا “ولهذا شرع قطع يد المحارب ورِجْله، وشرع القصاص في الدماء والأموال[14]؛ بل إنَّه ينْبَغِي حسْمُ مادَّة الشَّرّ والمعصية وسدُّ ذريعته، مثال ذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يخلُوَنَّ الرجل بامرأة، فإنَّ الشيطانَ ثالِثُهما))، وَنَهى عنِ الخلوة بأجنبيّة، والسفرِ بها؛ لأنَّه ذريعةٌ إلى الشَّرّ، وقد تقيَّد الخلفاء الراشدون بهذه القواعد وطبَّقوها[15].

ونرى أنَّ ابنَ تيميَّة يتَّخذ موقفا سليمًا في رده الإلزام في القوانين الأخلاقية إلى إرادة الله وأحكامه المطلقة، ودور العقوبات الشرعية في إصلاح المجتمعات.

الإنسان بين رغباته الحسيَّة وإِرَادَتِه:

يُعَرّف ابن تيميَّة الإنسانَ بأنَّهُ: “حيٌّ، حسَّاس، متحرّك بالإرادة[16] فله إرادة دائمًا، أمَّا الغاية من هذه الإرادة فَهِيَ: إمَّا المال، وإمَّا الجاه، وإمَّا محبَّة الرجل للمرأة، وإما محبتها للرجل، وإما غير ذلك من الأمور المطلوبة في الدنيا، أمَّا كمال الإنسان فيتحقق في أن يكون مراده هو اللهَ سبحانه، فيصبح منتهى حبه فتتحقق له العزة؛ لأنَّ من لم يكن عبدًا لله، فلا بد من أن يصبح عبدًا لغيره من أنواع المحبوبات التي تستعبده[17].

ولهذا كان المَثَل الأعلى الذي ينبغِي أن يسير بمقتضاه سلوك الإنسان المؤمن، أن يكون مراده هو الإلهَ “الذي يستحق أن يكون محبوبًا لذاته، وهذا هو العلة الغائية، الذي هو علةٌ فاعلة للعلة الفاعلة[18] إنَّنا نراه هُنَا يردّ أخلاقيَّة الفعل إلى النتائج والآثار، وإلى البواعث أيضًا، فالنفوس في حاجة إلى الله؛ من حيثُ هو معبودُها ومحبوبها ومنتهى مرادها، ومن حيث هو ربها وخالقها[19]؛ فالباعث على السلوك هو محبة الله جل شأنه، أما الهدف فهو أن يُراد بالأعمال وجه الله، وقد جاء الحديث يؤيد هذا المعنى في قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((إن أوَّل ثلاثة تُسجر بهم جهنم: رجل طلب العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن وأقرأه؛ ليقول الناس هو عالم وقارئ، ورجل قاتَلَ وجاهَدَ؛ ليقول الناس هو شجاع وجريء، ورجل تصدَّق وأعطى؛ ليقول الناس هو جواد سخي))، إن هؤلاء الثلاثة الذين يبتغون الرياء والسمعة، يقِفون على طرف النقيض من أولئك الذين جعلوا أعمالهم ابتغاء مرضاة الله وحده، فكانوا على القِمَّة من حيث الأفعالُ الأخلاقيَّةُ كما يريدها الإسلام، حيث أوردهم الله سبحانه بعد النبيين في المرتبة، وهم الصديقون والشهداء والصالحون “فإنَّ مَن تعلَّم العلم الذي بعث اللهُ به رسلَه، وعلَّمه لوجه الله كان صدِّيقًا، ومَن قاتَلَ لتكون كلمة الله هي العليا، وقُتل كان شهيدًا، ومَن تصدق يبتغي بذلك وجه الله كان صالحًا[20].

فالإنسان إذن له إرادة، وعَمَل بهذه الإرادة، وإذا كان يستهدف بإرادته طَلَبَ اللذَّة في المأكولات والمشروبات، وما تشتهيه الأنفس بما أحلَّ الله، فهذه كلها من قبيل نِعَم الله على عباده، فقد تعرَّف الله سبحانه إلى عبده بالنِّعَم؛ ليَشْكُرَه منذ ولادته طفلاً، فالحياة نعمة، وإدراك اللذات نعمة “وأما الإيمان فهو أعظم النِّعم، وبه تتم النِّعم[21].

وإذا كان لفظ العبودية يتضمن كمال الذل والحب، فإن حب العبد لربه يحرك إرادة القلب، وبقدر هذه المحبة يقدم الإنسان على فِعْل ما يُرضي الله “فإذا كانت المحبة تامة، استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات[22]:

ويضرب ابن تيميَّة على ذلك مَثَلاً بالجهاد؛ الذي هو بذل ما في وسع المؤمن وقدرته في تنفيذ ما يحبه الله، ودفع ما يكرهه، والمحب لله ولرسوله يحتمل أكثر من غيره ممن يطلبون أغراضًا أخرى؛ كطلب الرياسة أو المال أو أمور أخرى، قد تجلب لهم ضررًا، ويسلكون طرقًا متعددة للحصول على مطلوباتهم، ومن ثَمَّ يخضعون لهذه الرغبات والأهواء، بينما المؤمن أشد حبًّا لله؛ كما وصفه الله تعالى بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وهنا يقول ابن تيميَّة: “إذا تبيَّن هذا، فكلما ازداد القلب حبًّا لله، ازداد له عبودية وحريَّة عما سواه، وكلما ازداد له عبودية، ازداد له حبًّا وحرية عما سواه[23].

ولكنه يضع شرطًا لهذه المحبة؛ حتى يصبح سلوك الفرد بما يَرضى اللهُ؛ لأنه إذا ضَعُف العقل، وقلَّ العلم بالدين، وفي النفس محبة انبسطت النفس بحقها؛ فتقع في الرذائل[24]، ولهذا فإنَّه يقرن نجاة من عقاب، مستشْهِدًا بِقَوْلِ مَن قال مِن السلف: “مَن عَبَدَ الله بِالحُبّ وحده فهو زنديق، ومَن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومَن عبَده بالخوف وحده فهو حروري – أي كالخوارج – ومَن عَبَدَه بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن[25].

ومع هذا تبقى المحبة أصلاً لكل عمل ديني؛ حيث يرجع إليها الخوف والرجاء، والدليل على ذلك الآيات القرآنية، التي تتناول الرجاء والخوف: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] فإنَّ “الراجيَ الطامع إنَّما يطمع فيما يحبه؛ لا فيما يبغضه، والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب[26].

النفس سعادتها وشقاؤها:

للنفس قوَّتان: القوَّة العلمية، والقوة العملية[27]، كما أنَّ لها نوعين من الحياة: إحداهما: طبيعيَّة كحياة البهائم، وهِيَ ليْسَتِ الحياةَ الكاملة النافعة التي خُلق لأجلها الإنسانُ، والثانية: الحياة الكاملة النافعة، أي ما ينتفع به الحيُّ؛ لأنَّهُ لا بدَّ له من لذَّة يريدها، أو أَلَمٍ يَتَجَنَّبُه.

والنَّفْسُ بطبيعتها متحوِّلة، فهي حية، والإرادة والحركة الإرادية من لوازم الحياة، والإرادة والعمل من لوازم ذاتها “فإذا هداها الله علَّمَها ما ينفعها وما يضرها، فأرادت ما ينفعها، وتركت ما يضرها[28].

وقد تفضل الله سبحانه على بني آدم بأمرين هما أصل السعادة: الفطرة، والهداية العامة.

ففيما يتعلق بالفطرة يأتي ابن تيميَّة بتفسيره للآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، وقوله – تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30].

وكذلك الحديثانِ:

قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه)).

وقوله: ((يقول الله – تعالى -: خلقتُ عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرَّمتْ عليهِمْ ما أَحْلَلْتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا))[29].

ويستخلص ابْنُ تيميَّة من ذلك أن النفس إذا تُركتْ بفطرتها كانت مُقِرَّة لله بالألوهية، مُحِبَّةً له، تعبد إياه لا تشرك به شيئًا؛ ولكن سبب فسادها أن شياطين الإنس والجن يفسدونها بما يوحي بعضهم إلى بعض من الباطل[30].

وأمَّا الهداية فهي هداية الله سبحانه بما جعل في بني البشر بالفطرة من المعرفة وأسباب العلم، وبما أنزل من الكتب وأرسل من الرسل؛ إذ يتَّضح من قصص الأنبياء اشتراكُ نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس المكذِّبين للرسل، ولم يكن بالبشر حاجة إلى الاعتبار بمن لا يشبههم؛ ولكن الأمر كما قال تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]، وقوله – عز وجل -: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 30]، وتظهر الحُجَّة؛ لأنه لولا “أن في نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس المكذِّبين للرسل – فرعونَ ومَن قبله – لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط[31].

ولذلك تتمثل الهداية العامة للناس فيما جَعَل الله فيهم بالفطرة من المعرفة وأساليب العلم، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق: 1 – 5]، وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 – 4]، وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 – 3]، وقال – عز وجل -: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].

وأفضل النِّعَم التي تتم بها السعادة هي نعمة الإيمان:

وقد خُلقتِ النفس الإنسانية متحركةً بالطبع، حركةً لا بد فيها من الشر، لحكمة بالغة، ورحمة سابغة، وإذا لم تخلقْ بهذا الوجه لكانت لخلقٍ آخَرَ غير الإنسان، وهذا هو الاستفسار الذي ورد على لسان الملائكة في قوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30][32].

والذنب من لوازم نفس الإنسان، ولذا فهو يحتاج إلى الهُدى في كل لحظة؛ بل إنه إلى الهُدى أحوج منه إلى المأكل والمشرب، وطلب الهُدى في دعاء الفاتحة يعني أنَّ العبد فقير إلى ربه – عزَّ وجلَّ – وهو في حاجة دائمًا إلى تعليم ربه، “فالقرآن والسُّنة إنما تذكر فيهما الأمور العامة الكليَّة… لا يذكر ما يُخَصّ به كل عبد، ولهذا أمر الإنسان في مثل هذا بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم، يتناول هذا كله؛ يتناول التعريف بما جاء به الرسول مُفَصَّلاً، ويتناول التعريف بما يدخل في أوامره الكليات، ويتناول إلهام العمل بعلمه[33] فالإنسان في حاجة دائمة إلى هداية ربه في العلم والعمل.

ولئن كان الذنب شرًّا بالإضافة إلى العبد، فإن الحكمة منه تتضح في الحالتين:

الأولى: أن الذنب يوجب ذل العبد لربه – سبحانه وتعالى – فيحصل للمؤمن بسبب ذنبه من الحسنات ما لم يكن يحصل له بدونها، كذلك فإنَّه إمَّا أن يتوب، فيصبح من التَّوَّابين الذين يحبهم الله، وإما أن يكفِّر الله عنه بالمصائب، يصبِرُ عليها فترتفع درجاته[34].

والثانية: أنَّ الإنسان يظلّ حذرًا من نفسه، ولا يركن إليها؛ لأنها مصدر الشر، فيستعيذ بالله من شرورها ومن سيئات أعماله، سائلاً الله – عز وجل – إعانته على الطاعة، “فبذلك يحصل له كل خير ويندفع عنه كل شر[35].

عِلَّةُ السَّيّئات: اجتماع الجهل مع الهوى:

ولكن، كيف يُحَذِّرنا الشَّيْخُ منَ الوُقُوع في الذنوب والسيئات، ويَحُثّنا على فعل الحسنات، إنه يرى أنَّ مِنْ خصائِصِ العقل أن يسعى الإنسان لِجلب ما يفيده ودفْع ما يضُرُّه، فإذا اجتمع العقل والعلم، رَدَعَ العبدُ نفسَه عنِ السيئات؛ لأنَّ العالِم هو الذي يخشى الله، كما قال السلف، وذلك تفسيرًا لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وذلك “يقتضي أنَّ كُلَّ مَن خَشِيَ الله فهو عالم[36]، والعلم بما أَنْذَرَتْ بِهِ الرُّسُل يوجب الخشية الدافعة إلى فعل الحسنات وترْك السيئات، وعلى العكس؛ فإنَّ كل عاصٍ هو جاهل ليس بتامِّ العلم[37].

وفِعْلُ السيّئاتِ يرجع إلى اجتماع الجهل مع الهوى؛ فإنَّ الغواية إمَّا أن يعرفَها الإنسانُ معرفةً مؤكّدة؛ فيتجنَّب إتيانَها، وإمَّا أن يجزم بضررٍ مرجوح، فلا يفعل السيئة؛ لأنَّ مرتكب الذنوب لن يُقْدِم على فعلها إذا عَلِم أنَّه سيعاقب، فإن عدم الجزم أو العجز عن الترجيح فربما بسبب الغفلة، “والغفلة من أضداد العلم[38].

أما أعظم السيئات فهي جحود الخالق – جل شأنه – والشرك به، كما فَعَلَ إبليس وفرعون، فالأول يريد أن يُعبَد ويُطاع من دون الله، وأن يصرف الإنسان عن عبادة الله وطاعته، والثاني ادَّعى الألوهية بقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النازعات: 24]، وقوله لموسى – عليه السلام -: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]، ويرى ابن تيميَّة أن في سائر النفوس شُعْبَةً من ظُلم وجهل هذين الجاحدين فإن لم “يُعِنِ الله العبد ويهديَهُ، وقع في بعض ما وقع فيه إبليس وفرعون بحَسَب الإمكان[39]؛ لأنه في تخيله للنفس البشرية يلاحظ أنها مشحونة بحب العلو والرياسة[40].

يضاف إلى ذلك أنَّ النَّفس لا تحمل داعيَ الظلم لغيرها بالعلوّ عليه، والحسد له، والتعدي عليه في حقه فَحَسْب؛ بل إنَّ فيها أيضًا داعيَ الظلم لنفسِها بتناوُلِ الشهوات القبيحة؛ كالزنا وأكل الخبائث، ولذا يقسم الناس ثلاثة أقسام:

الأول: مَن يرضى إذا أعطي مِمَّا يشتهيه من الشهوات، والحلال والحرام ويزول غضبه؛ فهو ينظر إلى المعروف والمنْكَر من زاوية رغباته؛ فإن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، فهو أحيانًا ينكر المعروف ويحبذ المنكر طبقًا لما حصل عليه، وهذا هو الإنسان الظلوم الجهول.

الثاني: قوم لهم ديانة صحيحة، يخلصون لله وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، يخلصون لله وحده، ويصبرون على ما يلاقون من أذى، فهم من خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.

والقسم الثالث: قوم يجتمع فيهم ما لبعض القسمين الأول والثاني، وهم أغلب المؤمنين[41]، أمَّا تقسيمهم من حيث نفوسُهم: فالأولون هم أصحاب النفوس الأمارة بالسوء، والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة، التي قيل فيها {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 – 30]، وأهل هذا القسم – الثالث – هم أصحاب النفوس اللَّوَّامة، التي تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها عليه، وتخلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا[42].

ولكن، ما الباعث الذي يدفع الإنسان إلى ارتكاب السيئات دون الحسنات؟:

يجيب ابن تيميَّة عن ذلك بأنَّ سبب ما يوقع الناسَ في السيئات هو الجهلُ؛ أي عدم العلم بكونها تضرهم ضررًا راجحًا، أو الظَّنُّ بأنها تنفعهم نفعًا راجحًا، “ولهذا يسمى حال فعل السيئات: الجاهلية، فإنه يصاحبها حال من حال الجاهلية[43].

ولم يتركِ ابن تيميَّة المسألة معلَّقة؛ بل قدم الحلول التي تأخذ بيد الإنسان إلى فعل الحسنات[44]؛ وهي خشية الله، والقضاء على الهوى بالإخلاص، ثم التوبة عملاً بقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54]، فلا يزال المؤمن يخرج من الظلمات إلى النور، ويتجدَّد له العلم والإيمان؛ فيتوب مما تركه وفعله، ويزداد هدى “والتوبة تصقل القلب، وتجليه مما عرض له من رين الذنب المشار إليه في الآية: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين: 14]، وكما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أن العبد إذا أذنب نُكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه))”[45].

إنَّ دافع السلوك ينبغي إذن أن يكون العبوديةَ لله سبحانه واتباع أوامره واجتناب نواهيه، وباختصار هو تزكية النفس، التي يتضمَّن زوال جميع الشرور؛ من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك، عن طريق إتيان العمل الصالح، وفعل الحسنات، فالعلم الصالح “هو فعل الحسنات، والحسنات هي ما أحبَّه الله ورسوله، وهو ما أمر به من إيجاب واستحباب[46].

ضرورة الصدق وإخلاص النية في أعمال الدين والدنيا:

اقرأ أيضا  الإخلاص وصدق النية

في بحث ابن تيميَّة عن أهميَّة الأمور الباطنة من العلوم والأعمال عَرَضَ لعدة مسائل، ترتبط بضرورة الصدق والإخلاص وعقد النية، وكلُّها تتَّصل بالحديث: ((القلب مَلِك، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابَتْ جُنُودُه، وإذا خَبُثَ خَبُثَتْ جُنُودُه))، ومن هذا الحديث يتطرَّق إلى عَلاقة البواعث بالسلوك، فإذا بحثنا في النتائج التي وصل إليها شيخ الإسلام، فإنَّنا نراه يقرر أنَّ أصل الدين في الحقيقة هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال “وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها[47]، ومفهوم الدين عنده يتسع فيشمل العقائد والعبادات، وقواعد السلوك؛ حيث وقع اختياره على الآية الجامعة التي تتناول كل هذا في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

وبنظرة شاملة جامعة بين العمل الفردي والتكافل الاجتماعي بالتعاون على البر والتقوى، يقول شيخ الإسلام: “والسعي سعيان:

سعي فيما نصب للرزق: كالصناعة والزراعة والتجارة.

وسعي بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه”[48].

ويذكر ابن تيميَّة أن الآية الآنفةَ الذِّكْرِ في وصف الصادقين في دعوى البِرِّ “الذي هو جماع الدين[49]، وعلى العكس وردت آيات تصف المنافقين في مثل قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]، فوَصَفَهُم بالكذب في هذه الآية وغيرها، فالصادق هو الذي يصدق في قصده ونيته، وطلبه وإرادته، وعمله وخبره وكلامه، والمنافق على الضد يكذب، ويصبح مرائيًا في عمله، لا يصدر عن نية صادقة، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء: 142].

والإخلاص في العقيدة والعمل هو حقيقة الإسلام؛ “إذ الإسلام هو الاستسلام لله؛ لا لغيره[50] ويندرج تحتَهُ الأعمالُ الباطنة؛ كمحبة الله، والإخلاص له، والتوكل عليه، والرضا عنه، ونحو ذلك، وهي كلها “خير محض، وهي حسنة محبوبة في حق كل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين[51] ثم يقرر ابن تيميَّة بعد هذا أن النية للعمل كالروح للجسد[52].

ويقع اختيار ابن تيميَّة على حديث قُدُسِيٍّ، يستشهد به في مجال العمل وبواعثه في صلة العبد بربه عز وجل، وصلته بالناس أيضًا، فقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((يقول الله: يا ابن آدم إنما هي أربع: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خَلْقي، فأمَّا التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئًا، وأما التي هي لك فعملُك، أُجازيك به أحوجَ ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعليَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خَلْقي فأتِ للناس ما تحب أن يأتوا إليك))[53]، ويشرح ابن تيميَّة هذا الحديث فيوضح أن العبد يحب ويريد ابتداءً ما يراه ملائمًا له، والله تعالى يحب ويرضى الغاية المقصودة في رضاه، والوسيلة المتَّبعة في ذلك[54]، ونحن نفهم من الحديث أيضًا القاعدة التي تحدد علاقة الناس بعضهم ببعض في الأعمال.

وإذا كان لا بد من النية في القلب، فإن القلب يحتاج إلى أن يُرَبَّى وينمو عن طريق تزكيته، ووسيلته القرآن الذي يزيل الأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة، “حتى يصلح القلب فتصلح إرادته، ويعود إلى فِطرته التي فُطِر عليها، كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي، ويتغذَّى القلب من الإيمان والقرآن بما يُزَكِّيه ويؤيده، كما يتغذى البدن بما ينميه ويقوِّمه، فإنَّ زكاة القلب مثل نماء البدن[55].

والأعمال تابعة للاعتقادات، فإن صلحتْ صلحتْ، وإن فسدتْ فسدتْ أيضًا، ولذا فإن الله يحاسب العبد على النية حتى لو لم يقدم على العمل، فإن مَن كان عازمًا على الفعل عزمًا جازمًا، وفَعَلَ ما يقدر عليه منه، كان بمنزلة الفاعل “كما جاء في السنن فيمن تطهر في بيته، ثم ذهب إلى المسجد؛ ليدرك الجماعة فوجدها قد فاتت، أنه يكتب له أجر صلاة الجماعة[56]، وكذلك مَن همَّ بسيئة ولم يفعلها كُتبَ له حسنة كاملة، وهذا هو تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، والبرهان المذكور في الآية هو برهان الإيمان الذي حصل في قلبه؛ فصرف الله به ما كان همَّ به، وكتب له حسنة كاملة، ولم يكتب عليه خطيئة؛ إذ فَعَلَ خيرًا ولم يفعل سيئة[57].

مِمَّا تقدَّم يتَّضح أنَّ ابنَ تيميَّة يقرِّر أنه لا بد للعمل من ركنين: النية والحركة، مستندًا إلى حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((أصدق الأسماء حارث وهمام))، ويقول: “فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية؛ لكن النيَّة المحمودة التي يتقبلها الله ويثيب عليها أن يراد وجه الله بذلك العمل، والعمل المحمود هو الصالح، وهو المأمور به[58].

أنواع الأعمال وكيف نختارها:

ينطلق ابن تيميَّة من قاعدة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي؛ بل يذهب إلى أكثر من هذا، فيجعل من التفكير العقلي والتأمل في آيات الله تعالى أسبابًا لترسيخ الإيمان في القلب وتعميقه، وصلة العقل بالإيمان هنا تذكرنا بكلمة جارودي الجامعة: “إن الإيمان عقل بغير حدود“.

إن عوامل تقوية الإيمان كثيرة؛ مثل: استماع القرآن، ورؤية أهل الإيمان والنظر في أحوالهم، ومعرفة أحوال النبي – صلى الله عليه وسلم – ومعجزاته، والنظر في آيات الله تعالى، والتفكر في أحوال الإنسان نفسه، والضروريات التي يحدثها الله للعبد تضطره إلى الذل إلى الله والاستسلام له، واللجوء إليه[59].

ومع هذه الطرق الدائرة في فَلَك النظر والتفكر والتأمل والدراسة العلمية، يأتي البحث عن الطرق العلمية التي يَقوى بها الإيمان، فهل نبدأ بالزهد أم بالعلم أم بالعبادة؟ أم نجمع بين ذلك كله بحسب الطاقة؟:

أجاب شيخ الإسلام بقوله:

لا بد من الإيمان الواجب، والعبادة والواجبة، والزهد الواجب، ثم الناس يتفاضلون في الإيمان، كتفاضُلهم في شُعَبِه، وكل إنسان يطلب ما يمكنه طلبه، ويقدم ما يَقْدِرُ على تقديمه من الفضائل، والناس يتفاضلون في هذا الباب: فمنهم مَن يكون العلم أيسر عليه من الزهد، ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه، ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما، فالمشروع لكل إنسان يفعل ما يَقْدِرُ عليه من الخير، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وإذا ازدحمت شُعَب الإيمان، قَدَّمَ ما كان أرضى لله وهو عليه أقدَرُ، فقد يكون على المفضول أقدرَ منه على الفاضل، ويحصُل له أفضلُ مما يحصل من الفاضل، فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له، وهو في حقه أفضل، ولا يطلب ما هو أفضل مطلقًا، إذا كان متعذِّرًا في حقه أو متعسرًا يفوّته ما هو أفضل له وأنفع، كمن يقرأ القرآن بالليل فيتدبره وينتفع بتلاوته، والصلاة تثقل عليه ولا ينتفع منها بعمل، أو ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة، فأي عمل كان له أنفع ولله أطوع أفضل في حقه من تكلف عمل ما لا يأتي به في وجهه“.

ويقسم الزهد إلى قسمين:

أحدهما: الزهد ضدّ الرغبة؛ كالبغض المخالف للمحبة، والكراهية المخالفة للإرادة.

والثاني: الشيء المزهود فيه.

وبالمعنى الأولفإنَّ حقيقة المشروع منه أن يكون كراهية العبد وبغضه وحبه تابعًا لحب الله وبغضه، ورضاه وسخطه، فيحبّ ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه الله، ويرضى ما يرضاه، ويسخط ما يُسخِط الله، بحيث لا يكون تابعًا هواه؛ بل لأمر مولاه.

وبالمعنى الثانيفمن الملاحظ أن كثيرًا من الزهاد في الحياة الدنيا، أعرضوا عن فضولها، ولم يقبلوا على ما أحبه الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – وليس مثل هذا الزهد يأمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان في المشركين زُهاد، وفي أهل الكتاب زُهاد، وفي أهل البدع زُهاد.

والآن، بعد أن عرفنا أنَّ سلوكنا ينبغي أن يكون تابعًا لما يحبه الله تعالى ويرضاه، ووَفْقًا لما يأمرنا به وينهانا، فما الطريق للوصول إلى ذلك؟!

يجيب الشيخ على ذلك مستدِلاً بالحديث الصحيح: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف… ))، وما دام الأمر كذلك فينبغي علينا الاجتهادُ في فعل المأمور وترْك المحظور، والاستعانة به – عز وجل – على ذلك، ففي صحيح مسلم عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك، واستَعِنْ بِاللَّه ولا تعجِز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان)).

وفي السنن أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قضى على رجل فقال المقضيُّ عليه: “حسبي الله ونعم الوكيل” فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يلوم على العجز؛ ولكن عليك بالكَيْس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل)).

ويشرح ابنُ تيميَّة الحديثَ بِبَيانِ أنَّ النَّبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قد أمر العبد بأن يحرص على ما ينفعه، ويستعين بالله على ذلك.

ولكنَّ المنفعة في الحديث مشروطةٌ بالاجتهاد في الخير، وهو العبادة، فإنَّ كل ما ينفع العبدَ فهو مأمور بطلبه، وإنما ينهى عن طلب ما يضرّه – وإن اعتقد أنه ينفعه – كما يطلب المحرمات وهي تضره، ويطلب المفضول الذي لا ينفعه، والله تعالى أباح  للمؤمنين الطيبات، وهي ما تنفعهم، وحرَّم عليهم الخبائث، وهي ما تضرهم[60].

ولكن، ربما يَرِدُ بخاطر القارئ ما يجول في الأذهان من ارتباط الأوامر الدينية بالنفع والضرر؛ أي: هل الأوامر تتعلَّق فقط بتحقيق النفع وتجنّب الضرر، أم هناك حِكَم أخرى في بعض الأوامر الدينية نجهل الحكمة منها؟!:

إزاء هذه الخواطر يجيبنا ابن تيميَّة:

ينظر شيخ الإسلام إلى الحكمة من الأوامر الدينية الشرعية مقسِّمًا إياها إلى ثلاثة أقسام:

إحداها: أن تكون في نفس الفعل؛ وإن لم يأمر به؛ كما في الصدق والعدل ونحوها من المصالح الحاصلة لمن فعل ذلك، وإن لم يؤمر به، والله تعالى يأمر بالصلاح وينهى عن الفساد، فإنه سبحانه يأمر بالعدل وينهى عن الظلم، ولهذا لاحظ ابن تيميَّة أن الله تعالى يَنصُر الدولة العادلةَ، وإن كانتْ كافرة، ولا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظالمة، ولو كانت مؤمنة.

والنوع الثاني: أنَّ ما أمر به وَنَهَى عنْهُ صار متَّصفًا بحسنٍ اكتسبه من الأمر، وقُبْحٍ اكتسبه من النهي؛ كالخمر التي كانت لم تحرَّم ثم حرمت؛ فصارت خبيثة، والصلاة إلى الصخرة ببيت المقدس التي كانت حسنة، فلما نهى عنها صارت قبيحة، فإنَّ ما أمر به يحبه ويرضاه، وما نهى عنه يبغضه ويسخطه، وهو إذا أحب عبدًا ووالاه أعطاه من الصفات الحسنة ما يمتاز بها على مَن أبغضه وعاداه، وكذلك المكان والزمان الذي يُحبّه ويُعظّمه؛ كالكعبة وشهر رمضان، يخصّه بصفات يميزه بها على ما سواه، بحيث يحصل في ذلك الزمان والمكان من رحمته وإحسانه ونعمته ما لا يحصل في غيره.

فإن قيل: الخمر قبل التحريم وبعده سواء، فتخصيصها بالخبث بعد التحريم ترجيح بلا مرجح؟!:

قيل ليس كذلك؛ بل إنَّما حرمها في الوقت الذي كانت الحكمة تقتضي تحريمها، وليس معنى كون الشيء حسنًا وسيئًا مثل كونه أسود وأبيض؛ بل هو من جنس كونه نافعًا وضارًّا، وملائمًا ومنافرًا وصديقًا وعدوًّا، ونحو هذا من الصفات القائمة بالموصوف التي تتغير بتغير الأحوال، فقد يكون الشَّيْءُ نافعًا في وقت ضارًّا في وقت، والشيء الضارّ قد يُترك تحريمه إذا كانت مفسدة التحريم أرجح؛ كما لو حرمت الخمر في أول الإسلام، فإن النفوس كانت قد اعتادتها عادة شديدة، ولم يكن حصل عندهم من قوة الإيمان ما يقبلون ذلك التحريم، ولا كان إيمانهم ودينهم تامًّا حتى لم يبقَ فيه نقص إلا ما يحصل بشرب الخمر مِن صدها عن ذكر الله وعن الصلاة، فلهذا وقع التدريج في تحريمها؛ فأنزل الله أولاً فيه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، ثم أنزل فيها – لما شربها طائفة وصلَّوْا، فغلط الإمام أثناء القراءة – آيةَ النهي عن الصلاة سكارى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، ثم أنزل الله آية التحريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90 – 91].

والنوع الثالث: أن تكون الحكمة ناشئةً من نفس الأمر، وليس في الفعل أَلبتةَ مصلحةٌ، لكن المقصود ابتلاء العبد: هل يطيع أو يعصي، فإذا اعتقد الوجوب، وعزم على الفعل حصل المقصود بالأمر فينسخ حينئذ، كما جرى للخليل في قصة الذبح: فإنه لم يكن الذبح مصلحة، ولا كان هو مطلبَ الرَّبِّ في نفس الأمر؛ بل كان مراد الرب ابتلاءَ إبراهيم؛ ليقدِّم طاعة ربه ومحبته على محبة الولد، ولا يبقى الله أن يهبه إياه وهو خليل الله، فأراد تعالى تكميل خُلَّته لله بأن لا يبقى في قلبه ما يزاحم به محبة ربه:

{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 103 – 106]، ومثل هذا الحديث الذي في صحيح البخاري؛ حديث أبرص وأقرع وأعمى، كان المقصود ابتلاءهم لا نفس الفعل[61].

وفيما يلي نص الحديث المشار إليه:

عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن ثلاثة من بني إسرائيل، أبرص وأقرع وأعمى، أراد الله أن يبتليَهم، فبعث إليهم مَلَكًا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أَحَبُّ إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قذرني الناس، فمسحه، فذهب قَذَرُهُ، وأُعطي لونًا حسنًا، قال: فأي المال أَحَبّ إليك؟ قال: الإبل، أو قال البقر – شكَّ الراوي – فأُعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها، فأتى الأقرع، فقال: أي شيء أَحَبّ إليك؟ قال: شَعْر حسن، ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه وأُعطِيَ شعرًا حسنًا، قال: فأي المال أَحَبُّ إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملاً قال: بارك الله لك فيها.

فأَتَى الأعمى فقال: أي شيء أَحَبُّ إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأُبصر الناس، فمسحه فردَّ الله إليه بصره، قال: فأي المال أَحَبُّ إليك؟ قال: الغنم فأُعطي شاةً والدًا، فأنتج هذا، وولدا هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري؛ فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيرًا أتبلَّغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص؛ يقذَرُك الناس؟! فقيرًا، فأعطاك الله؟! فقال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنتَ، وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردَّ عليه مثل ما ردَّ هذا فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنتَ.

اقرأ أيضا  قصة سيدنا موسى عليه السلام

وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري؛ فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردَّ عليك بصرك، شاةً أتبلَّغ بها في سفري، فقال: قد كنتُ أعمى فردَّ الله إليَّ بصري، فخذ ما شئتَ ودعْ ما شئتَ، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذتَهُ لله عز وجل، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتُلِيتُمْ، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك))؛ قال النووي متَّفق عليه، “رياض الصالحين” باب المراقبة.

وفي ضوء هذا الشرح يأتي إلى تفسير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فهي متعلقة بالإرادة الدينية الشرعية، وقد يقع مرادها وقد لا يقع، والمعنى: إن الغاية التي نحب لهم ونرضى لهم، والتي أمروا بفعلها، هي العبادة؛ فهو العمل الذي خلق العباد له، أي هو الذي يحصل كمالهم وصلاحهم، الذي به يكونون مَرْضِيِّينَ محبوبين، فمن لم تحصل منه هذه الغاية، كان عادمًا لما يحب ويرضى، ويراد له الإرادة الدينية التي فيها سعادته ونجاته، وعادمًا لكماله وصلاحه، العدم المستلزم فساده وعذابه[62].

محاسن الأخلاق:

وهنا يتخذ شيخ الإسلام من العبادات الدِّعامَةَ الأساسيةَ لمحاسن الأخلاق ومكارمها:

ففي دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجعل ابن تيميَّة في باب المعروف أعمالَ العبادات كلها، والإيمان بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإحسان وهو أن يعبد الإنسان ربه كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وسائر ما أمر الله به ورسوله من الأمور الباطنة والظاهرة؛ أي إخلاص الدين لله والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخشية من عذابه، والصبر لحكمه، والتسليم لأمره، وكلها من الأمور التي تلمح فيها مدى قوة البواعث على الأعمال، ثم يَقرن ابن تيميَّة بين العبادات وغيرها من أنواع السلوك، التي تُعَدّ أقربَ إلى محيط الأخلاق، ولكن الاقتران يدلنا على أنه لا يفرق بينها وبين أعمال العبادات؛ لأنَّ قواعد الأخلاق في الإسلام لا يمكن فصْلُها عن أصوله، إنه بعد سرد تفاصيل أعمال العبادات على سبيل الحصر يأتي بغيرها من الأعمال بقوله: “ومثل صدق الحديث، والوفاء بالعهود، وأداء الأمانات إلى أهلها، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والتعاون على البر والتقوى، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والصاحب والزوجة، والسلوك، والعدل في المقال والفعال“.

وهكذا يضم ابن تيميَّة هذا كله تحت اسم (المعروف) المأمور به، ويبدو أنه يعد ما ورد في آخر عبارته من قبيل أخلاق الكافَّة، التي ينبغي عليهم التقيُّد بها، ثم يذكر بعد ذلك ما يرتقي بالإنسان إلى مكارم الأخلاق المندوب إليها، مثل “أن تصل مَن قطعك، وتعطي مَن حرمك، وتعفو عمن ظلمك” قال الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[الشورى: 40 – 43][63].

يفهم من الآية أن محاسن الأخلاق تقتضي “أن تصل مَن قطعك بالسلام والإكرام والدعاء له والاستغفار، والثناء عليه، والزيادة له، وتعطي مَن حَرَمَك من التعليم والمنفعة والمال، وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض”، ويَعتبرُ أنَّ بعض هذا واجب، وبعضه مستحب[64].

أما الخلق العظيم، الذي وصف به الله محمدًا – صلى الله عليه وسلم – فإنه يعني “الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقًا”، وهو أيضًا ما عبَّرت عنه السيدة عائشة – رضي الله عنها – بقولها:  “كان خُلُقه القرآنَ”، حقيقة ذلك امتثال ما يحبه الله تعالى بطيب نفس وانشراح صدر[65].

ويتضح لنا بدليلٍ آخَرَ فَهْمُ ابن تيميَّة لشمول دائرة الإسلام جوانبَ العقائد والعبادات والأخلاق أيضًا؛ لأنَّ بيان ما تقدم كله يدخل تحت الأمر بتقوى الله؛ فإن تقوى الله تجمع “فكل ما أمر الله به إيجابًا واسحبابًا، وما نهى عنه تحريمًا وتنزيهًا، وهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد[66].

ومضى شارحًا ما وصى به النبي – صلى الله عليه وسلم – معاذًا لما بعثه إلى اليمن: ((اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالِقِ الناس بخلق حسن))، “فقد تضمن هذا الحديث حقَّ الله من عمل الصالح وإصلاح الفاسد، وحق الناس وهو أن يخالقهم بخلق حسن[67]، وتقوى الله تشمل هذا كله؛ لأنَّ التَّقْوى هي: فعل ما أمر الله به، وتركُ ما نهى الله عنه[68]، والتقوى أيضًا هي الدين كله، لكن ينبوع الخير وأصله إخلاص العبد لربه عبادةً واستعانة، كما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5][69].

إن إخلاص العبد لربه عبادةً وعملاً هو يُنبوع الخير، فما هي أعمال الخير؟:

يورد ابن تيميَّة حديثًا ورد على لسان موسى – عليه السلام -: ((قال موسى: يارب، أيُّ عبادك أَحَبُّ إليك؟ قال: الذي يَذْكُرُنِي ولا ينساني، قال: أيُّ عبادك أعلم؟ قال: الذي يطلب عِلْم الناس إلى علمه؛ ليجد كلمة تدل على هدى، أو ترده عن رَدى، قال: أيُّ عبادك أحلم؟ قال: الذي يَحْكُم على نفسه كما يحكم على غيره، ويحكم لغيره كما يحكم لنفسه)) “فذكر في الحديث الحب، والعلم والعدل، وذلك جماع الخير[70].

أما تفصيل ذلك فيأتي على الترتيب الآتي:

إنه يَعني بالمحبة أن يكون القلب محبًّا لله وحده مخلصًا له الدين، ويضرب مثلاً على ذلك بيوسف – عليه السلام – الذي كان مُحِبًّا لله مخلصًا له فوصفه تعالى بقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، بعكس امرأة العزيز التي كانت مشْرِكة فابتليت بالعشق، ولا يُبتلى به أحدٌ إلا لنقص توحيده وإيمانه، ولكن القلب المنيب إلى الله الخائف منه، يصرف عنه محبته إلى غيره، ويدفعه فعل الطاعة، محبة لله وخوفًا منه، ولما كان الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإنَّ المؤمن كلمَّا فعل الطاعة وترك المعاصي، قَوِيَ حبُّه لله وخوفه منه، “فيزيل ما في القلب من محبَّة غيره ومخافة غيره[71]، وقد بيَّن الله أنَّ محبته توجب اتباع الرسول بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فالاتباع والتقيُّد بقواعد الشرع، بعكس الذين زعموا محبة الله، ولم يتقيدوا بشريعته؛ إذ قالت اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، وهذا ادعاء للمحبة دون دليل مع ما فيه من مخالفة الشريعة ما لا يوجد في أهل الخشية، ولهذا قرن الله الخشية بها في قوله تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق: 32 – 34].

والعلم أيضًا أحد البواعث على فعل الخير، والعلم النافع هو أصل الهدى، الذي يؤدِّي إلى الحقّ، وهو الرشاد، ومصدر الضلال العملُ بغير عِلْم؛ كما أنَّ سبب اتباع الهوى هو الغَيّ قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1 – 2]، وكان معاذ بن جبل يرشد إلى طلب العلم والحثّ عليه، قال: “عليكم بالعلم؛ فإنَّ طلبه لله عبادة، ومعرِفَتَهُ خشية، والبحث عنه جهادٌ، وتَعلُّمَه لمن لا يَعْلَمه صدقة، ومذاكرتَه تسبيح، به يعرف الله ويعبد، به يُمجَّد ويُوَّد، يرفع الله بالعِلْم أقوامًا، يجعلهم للناس قادة وأئمة، يهتدون بهم وينتهون إلى رأيهم”، ولذا كان ابنُ تيميَّة يذهب إلى أن الدين كله هو علم بالحق وعمل به[72].

أما عن العدل كأساس لكل خير، فإن من رأي الشيخ السلفي أن صلاح حال الإنسان في العدل، وأن فساده في الظلم[73]، وتتضح ضرورة إقامة العدل والحُكْم به من قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، “فذكر اللَّهُ أنَّه أنزل الكتاب والميزان، وأنَّه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط، ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر[74].

كما حرَّم الله البغي بغير الحق؛ فالعدل أساس استقامة أمور الناس، وإنِ اشتركوا في أنواع من الإثم، ولا تستقيم أمورهم مع الظلم في الحقوق، وإن لم يشتركوا في الإثم، ولهذا قيل: “إن الله يقيم الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة، وإن كانت مسلمة[75]، وقد جاء الحديث أيضًا محرِّمًا للظلم؛ إذ قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ليس ذنبٌ أسرعُ عقوبةً من البغي وقطيعة الرحم))، فبيَّن الحديث أن الباغي والظالم يُصرعان في الدنيا بالرغم من احتمال أن يُصبحا مرحومين في الآخرة.

والنفس الإنسانية فيها داعي الظلم لغيرها بواسطة العلو عليه، والحسد له والتعدي عليه في حقوقه، كما أنها تظلم نفسها “بتناول الشهوات القبيحة؛ كالزنا، وأكل الخبائث[76].

ولهذا شُرِعَ الأَمْرُ بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لتضييق الخناق على الأعمال الناجمة عن ظلم الناس بعضهم لبعض، وظُلْمِهم لأنفسهم بفعل المنكرات، ويؤمر بما فيه من داعي الخير، الذي يدعوه إلى العلم والصدق وأداء الأمانة، أن يقابل السيئات بضدها من الحسنات “كما يقابل الطيب المرض بضده؛ فيؤمر بأن يصلح نفسه، وذلك بشيئين: فعل الحسنات وترك السيئات[77].

انتهى بحمد الله تعالى.


[1] جارودي: “نظرات حول الإنسان” ص 299 ترجمة د. يحيى هويدي، المجلس الأعلى للثقافة 1983م.

[2] أو الأيديولوجي بلغة عصرنا.

[3] كولن ولسن: “ما بعد اللا منتمي” ص 15، “فلسفة المستقبل” ترجمة يوسف شرورو، وعمر يمق ـ دار الآداب ـ بيروت سنة 1981 م.

[4] “فتاوى” ج 8، ص 55 – 56.

[5] سدجويك: “المجمل في تاريخ علم الأخلاق” ص 78.

[6] ابن تيمية: “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح” ج4 ص 106.

[7] ابن تيمية: “النبوات” ص 172.

[8] “الحسبة” ص 10.

[9] المصدر نفسه ص 63.

[10] “السياسة الشرعية” ص 85 – 86.

[11] ابن تيمية: “الحسبة” ص 64.

[12] المصدر نفسه ص 50.

[13] “السياسة الشرعية” ص 162.

[14] “الحسبة” ص 62.

[15] “السياسة الشرعية” ص 163 وما بعدها.

[16] ابن تيمية: “العبودية في الإسلام” ص 32.

[17] المصدر نفسه ص 32.

[18] “الجواب الصحيح” ج 4 ص 109.

[19] المصدر نفسه ص 107 – 108.

[20] “الحسبة” ص 110.

[21] ابن تيمية: “جامع الرسائل” ص 110.

[22] “العبودية في الإسلام” ص 30.

[23] ن. م. ص 1 ذ

[24] ن. م. ص 39

[25] “جامع الرسائل” ص 112.

[26] “التحفة العراقية في الأعمال القلبية” ص 71.

[27] ابن تيمية: “الجواب الصحيح” ج 4 ص 109.

[28] ابن تيمية: “الحسنة والسيئة” ص 65.

[29] الحديث الأول ورد في الصحيحين، والثاني ورد في صحيح مسلم.

[30] ابن تيمية: “الحسنة والسيئة” ص 66.

[31] ابن تيمية: “الحسنة والسيئة” ص 84.

[32] المصدر نفسه ص 79 – 80.

[33] ابن تيمية: :أمراض القلوب وشفاؤها“.

[34] ابن تيمية: “الحسنة والسيئة” ص 83.

[35] المصدر نفسه ص 83.

[36] ابن تيمية: “الحسنة والسيئة” ص 63.

[37] المصدر نفسه ص 65.

[38] المصدر نفسه ص 60.

[39] ابن تيمية: “الحسنة والسيئة” ص 86.

[40] المصدر نفسه ص 86.

[41] ابن تيمية: “الحسبة” ص 88

[42] المصدر نفسه ص 88.

[43] ابن تيمية: “الحسنة والسيئة” ص 62.

[44] “العبودية في الإسلام” ص 37.

[45] “جامع الرسائل” ص 237.

[46] ابن تيمية: “العبودية في الإسلام” ص 18.

[47] “التحفة العراقية في الأعمال القلبية” ص 43.

[48] “الفتاوى” ج 8 ص 541، ط. الرياض سنة 1398 هـ.

[49] المصدر نفسه ص 42.

[50] المصدر نفسه ص 43.

[51] المصدر نفسه ص 44.

[52] مجموع الفتاوى: 2 / 458.

[53] “السياسة الشرعية” ص 71، وانظر أيضًا ص 116.

[54] “التحفة العراقية” ص 46.

[55] “أمراض القلوب وشفاؤها” ص 6.

[56] “فتاوى ابن تيمية” ج 1 ص 101.

[57] “أمراض القلوب وشفاؤها” ص 9.

[58] “الحسبة” ص 76.

[59] “الفتاوى” ج 7 ص 650.

[60] “فتاوى” ج 7 ص 652 – 654.

[61] ابن تيمية: “جواب أهل العلم والإيمان” ص 199 – 201، ط. دار الكتب العلمية بيروت، 1394 هـ – 1974 م.

[62] “مجموعة الرسائل الكبرى” ج 2 ص 78.

[63] المصدر نفسه ص 234.

[64] ابن تيمية: “مجموعة الرسائل الكبرى” ج 1 ص 316 – 317.

[65] ابن تيمية: “مجموعة الرسائل الكبرى” ج1 ص 234.

[66] المصدر نفسه ص 234 – 235.

[67] المصدر نفسه ص 234.

[68] المصدر نفسه ص 310.

[69] المصدر نفسه ص 235.

[70] “التحفة العراقية في الأعمال القلبية” ص 85.

[71] “أمراض القلوب وشفاؤها” ص 30.

[72] المصدر نفسه ص 58.

[73] “أمراض القلوب وشفاؤها” ص 31.

[74] التحفة العراقية ص 42.

[75] “الحسبة” ص 86.

[76] نفس المصدر والصفحة.

[77] نفس المصدر ص 92.

المصدر: كتاب “قواعد المنهج السلفي في الفكر الإسلامي”

 

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.