محنة مالك بن أنس

الإثنين 13 صفر 1435 الموافق 16 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

د.محمد أبو صعيليك

سئل عن الخارجين على الحكام: أيجوز قتالهم؟ فقال: نعم إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز. قالوا: فإن لم يكونوا مثله؟ قال: دعهم ينتقم من ظالم لظالم ثم ينتقم من كليهما. «مالك».

كان الإمام مالك بن أنس يأخذ كامل زينته من طيب ولباس. ووافر حفظ من حسن الأدب جالساً على منصة متواضعة يبين للناس، ويعلم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قائلاً: حدثني فلان بن فلان أن صاحب هذا القبر قد قال: والناس يسمعون وكأنما على رؤوسهم الطير، وهم بين ناصت بكل جوارحه ليصن قلبه ويحفظ عقله، وبين كاتب يسجل على قرطاس.
وكان مما حدّث به هذا الإمام الجليل قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس على مستنكره طلاق»، ثم أخذت التأويلات لهذا الحديث تجري على قدم وساق. كل طائفة وجدت فيه بغيتها وعضت عليه بالنواجذ لأن فيه مستنداً شرعياً لما عزمت عليه من أمر مما بيتت من فعل.
فالمناوئون لحكم أبي جعفر المنصور وجدوا فيه مستنداً قوياً على التحلل من بيعة المنصور لأنها جاءت -كما اعتقدوا- عن طريق الإكراه. إذ قاسوا البيعة على الطلاق فقالوا: «وليس على مستكره بيعة».
وأنصار محمد بن عبدالله بن الحسن رضي الله عنهم وجدوا فيه متكأً حين خروج هذا الإمام الجليل.
أما الحكام من أبي جعفر وولاته فقد وجدوا في نشر هذا الحديث خطراً عليهم وعلى كيانهم، لذلك حاولوا أن يمنعوا الإمام مالكاً من التحدث به.
ولكنه لم يفعل، وهددوه فلم يسمع، لأنه يؤمن بأن الله أوجب على العلماد أن يبينوا للناس ما نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكتمونه ولم يكن الإمام مالك من الجبناء الذين يكتمون أحكام الإسلام، إرضاء لهوى الحكام، أو خوفاً من بطشهم وجبروتهم أو أسواطهم وأغلالهم، عند ذاك نزلت المحنة ووقع الأذى، والسؤال الذي يرد من أنل بإمامنا هذه المحنة فباء بإثمها، وتولى كبرها، وحصد شرها؟ الروايات التاريخية تشير الى ما يلي:
..
أن أبا جعفر نهاه أن يحدث بهذا الحديث، ثم دس إليه من يسأله عنه، فحدث به على رؤوس الناس، فضربه.
ومثل هذا روى ابن عبد البر في الانتقاء: «لما دُعي مالك بن أنس وشُووِرَ وسُمع منه وقُبل قوله؛ شنف له الناس وحسدوه ونعتوه بكل شيء، فلما ولي جعفر بن سليمان على المدينة؛ سعوا به إليه وكثروا عليه عنده، وقالوا: لا يرى إيماناً ببيعتكم هذه بشيء.
وهو يأخذ بحديث رواه ثابت بن الأحنف في طلاق المكره لا يجوز.
بعد أن ذكر هياج أهل المدينة على المنصور في أول أمره، أنه أرسل إليهم ابن عمه جعفر بن سليمان.
فاشتد في أهل المدينة الخلاف وأخذت البيعة للخليفة، فسعى حسدة الإمام مالك إلى الأمير أنه يفتي بألا يمين على مكره فيحل بهذا ما أبرمتموه مما قام على الاستكراه، فأراد أن يبدر فيه فقيل لا تبدر فإنه أكرم الناس على الخليفة فدس إلى مالك بعض ثقاته فأفتاه على طمأنينة منه، فلم يشعر إلا ورسول جعفر فيه فأتوا به فانتهك الحرمة وضربه سبعين سوطاً أضجعته بعد انتهاء الفتنة».
والذي يبدو في هذه الروايات أن الذي تولى كبر هذه المحنة ونفذها هو ابن عم المنصور -جعفر بن سليمان- وكان المنصور على علم بذلك وإن لم يكن من ظاهر الواقع ضارباً أو آمراً بالضرب.
«
ونحن لا نستطيع أن ننفي أن يكون ذلك بعلم ورضا من المنصور الداهية الذي كان على علم بما يجري داخل دولته وخاصة من كبارها، وأن الذي كان على علم بداخل بيت مالك حتى يعرف أنه كان يأمر خادمه بإدارة الرحى حتى لا يسمع الجيران صوت ابنته من البكاء جوعاً ما كان يجهل بما يجري».
يقول مالك: «لما وصلت على أبي جعفر وقد عهد إليّ أن آتيه في الموسم قال لي: والله الذي لا إله إلا هو ما أمرت بالذي كان ولا علمته، إنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم وإني أخالك أماناً لهم من عذاب ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة، فإنهم أسرع الناس إلى الفتن، وقد أمرت بعدو الله أن يؤتى به من المدينة إلى العراق على قتب وأمرت بضيق محبسه والاستبلاغ في اتهامه ولا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه.
فقلت: عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه قد عفوت عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته منك قال: فعفا الله عنك وأوصلك».
تلك عظمة مالك من تسامحه واحتسابه السبعين سوطاً لله، له بها ثواب الصابرين ومثوبة المؤمنين.
وبهذا انتهت محنته وعاد إلى دروسه وصنّف كتابه الموطأ بعد ذلك، ولكن المحن لم تزل قائمة بأقرانها.

اقرأ أيضا  عبودية السعي وعبودية التوكل

المصدر:السبيل

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.