علماء الإسلام والقضايا الأخلاقية
الأربعاء 15 صفر 1435 الموافق 18 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
أ. د. مصطفى حلمي
قبل الخوض في موضوعنا نرى لزامًا علينا إيضاح الفرق بين الفلسفة والحكمة أولًا، ثم العودة للتمييز بين منهج البحث في الأخلاق عند كل من الفلاسفة وعلماء الإسلام الذين اهتموا بجانب الحكمة.
وسنعود مرة أخرى لعقد مقارنة تمهيدية لبيان الاختلاف في المنهج، أي من حيث طرق وأساليب البحث والنظر إلى الإنسان من حيث مكوناته ودوافعه وأهدافه، فعندما اختلفت الفلاسفة في المنهج اختلفت بهم النتائج.
هذا فضلًا عن الجهل بحقائق الوحي الإلهي الذي يرشد الإنسان إلى الطريق الأقوم في الأخلاق والاجتماع والسياسة والنظم.
أولًا: الفرق بين الفلسفة والحكمة:
استعمل الفلاسفة إلى جانب كلمة ((فلسفة)) المترجمة من اليونانية كلمة ((حكمة)) العربية وما اشتق منها مثل ((حكمة وحكيم وعلوم حكمية))[1].
وقد أوردت المصادر المختلفة هذه الكلمات في موضعها في وصف الحكماء وأهل الحكمة ((وخزانة الحكمة))… فوصف خالد بن يزيد بن معاوية ((85هـ- 704م)) بأنه يسمى حكيم آل مروان وله همة ومحبة للعلوم، وأنه قرب أهل الحكمة ورؤساء أهل كل صناعة، كما أن المأمون كان له خزانة الحكمة وتحوي كتب الفلاسفة التي نقلت للمأمون من جزيرة قبرص[2].
ويكاد يتفق اللغويون على أن الحكمة تتكون من عنصري العلم والعمل، فإن الحكمة لغة ((اسم للعلم المتقن والعمل به. ألا ترى أن ضده السفه، وهو العمل على خلاف موجب العقل، وضد العلم الجهل؟))[3].
وقد استخدما كلمة ((حكمة)) وما أخذ منها بواسطة العرب قبل الإسلام فكانت تدل على وجهة التفكير عند العرب، كما تطلق على الحكام أي ذوي الأمر والحكم والفتوى، وعبر بها أيضًا عن أهل الطب[4].
فإذا انتقلنا إلى النظر في الآيات القرآنية فإننا سنستدل منها على ما فهمه المفسرون أيضًا حيث وردت ((حكمة)) في كثير من المواضع.
قال تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [البقرة: 129].
فالحكمة هنا بمعنى ((أسرار الأمور وفقه الأحكام وبيان المصلحة فيها، والطريق إلى العمل بها، ذلك الفقه الذي يبعث على العمل، أو هي العمل الذي يوصل إلى هذا الفقه في الأحكام أو طرق الاستدلال ومعرفة الحقائق ببراهينها لأن هذه الطريقة هي طريقة القرآن))[5].
وقد أطلق البعض اسم ((الحكماء)) على الآمرين بالقسط وذلك في قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 21]، فإن الذين يأمرون بالقسط ((هم الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدالة العامة ويجعلونها روح الفضائل وقوامها، ومرتبتهم في الهداية والإرشاد تلي مرتبة الأنبياء))[6] فالآمرون بالعدل هم الحكماء الذين لم تخل منهم المجتمعات الإنسانية منذ بدء الخليقة قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 116، 117] القرون، هي الأجيال والشعوب، أولو بقية وأصحاب بقية من دين وتقوى وعقل وحكمة)).
وجاءوا تفسير ((المنار)) أن المراد من التخصيص في الآية الأولى النفي؛ أي: إنه كان ينبغي أن يقوم في قرون الذين كانوا قبل ظهور الإسلام بالإصلاح العام أصحاب بقية من دين موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء – عليهم السلام – أو حكماء العقلاء الذين فسر بهم الآمرون بالعدل في قوله: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 21][7].
وقدا أعطى الشيخ محمد عبده الحكمة معنى التدبر والتعقل، مع توضيح الصبغة العملية لاتصالها بالفقه، وإلى هذا المعنى أيضًا يذهب الإمام عبدالحميد بن باديس فيرى أن الحكمة هي ((العلم الصحيح الثابت المتمر للعمل المتقن المبني على ذلك العلم))[8].
ووردت كلمة الحكمة في موضع آخر بمعنى فقه مقاصد الكتاب وأسراره ومعرفة مجال التطبيق والتنفيذ في المجتمعات البشرية على مدى العصور، وهى بهذا المغزى أكمل وأشمل من الفلسفة قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ [النساء: 113][9]. كما يتضح الاختلاف بين الفلسفة والحكمة بأن الأولى لم يستجب لها في الزمن الطويل إلا قليل من طلاب الفلسفة؛ إذ لا تتمتع الفلسفة بالهداية التي يتمتع بها الوحي من السلطان على القلوب والأرواح[10].
وهذا يتضح من دعوة خاتم الأنبياء – عليه الصلاة السلام – فضلًا عن تأييد الوحي – بأنها تتميز بأركان ثلاثة كما يتبين من قوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
فجمعت الآية بين الوسائل التي يمكن بها الإقناع والإرشاد، فلا اعتماد على العقل وحده والاكتفاء بالحث على النظر العقلي وهي من سمات الخاصة وإنما ينصرف معنى الحكمة في الآية إلى ما ((يدعي به العقلاء وأهل النظر من البراهين والحجج)) وأضيف إليها الموعظة أي ((ما يدعى به العوام والسذج))، ثم الجدل بالتي هي أحسن وهو منهج الدعوة ((للمتوسطين الذين لم يرتقوا إلى الاستعداد لطلب الحكمة ولا ينقادون إلى الموعظة بسهولة))[11].
وتفسير الحكمة بالنظر والعمل لا يتعارض مع القائلين بأن معناها ((السنة)) التي فسرها بها كثيرون، ومنهم الإمام الشافعي، لأن السنة هي المفصلة لكتاب الله تعالى وهي الموضحة للأركان العملية للإسلام، وعن مالك أنها – أي الحكمة – ((معرفة الدين والفقه فيه والاتباع له))[12].
وقيل أيضا بأن الحكمة هي “تهذيب الأخلاق“[13].
ويرى الراغب الأصفهاني أن الحكمة هي أشرف منازل العلم، مفسرًا لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129] حيث يتقيد بترتيب الآية ومطابقتها في الوقت نفسه للمنهج الذي اتبعه النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقد أتى – بعد إعلانه النبوة – بالآيات الدالة على نبوته، ثم أخذ في تعليمهم حقائق الكتاب لا ألفاظه “ثم بتعليمهم الكتاب يوصلهم إلى إفادة الحكمة وهي أشرف منزلة في العلم مستدلاًّ على ذلك بقوله – عز وجل -: ﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [البقرة: 269].
وللحكمة أيضًا درجاتها عند الراغب الأصفهاني، حيث يصير بها الإنسان مُزكًّى – أي: مطهرًا – “مستصلحًا لمجاورة الله – عز وجل“[14].
وأخيرًا قد يظهر الفرق بين الفيلسوف والحكيم، استنتاجًا من الآيات السابقة، أن الأول يعتنق نظرية فلسفية وقلما يعمل بها أو يخلص لها، بل قد يؤثر هواه ومنفعته بينما الحكيم يصل إلى أعلى مراتب العلم النافع والعمل الصالح فإنه ((المؤمن الفقيه في دينه))[15].
ثانيًا: المنهج عند الفلاسفة:
لن نعود إلى الحديث عن مذاهب الفلاسفة في الأخلاق مرة أخرى، ولكن سنقتصر هنا على عرض مقارنة عامة بين منهجهم ومنهج علماء الإسلام وحكمائه.
فإذا نظرنا إلى الأخلاقيات الغربية من الاتجاهين – الغائي والموضوعي – فإن منها مذاهب غائية تحكم على الفعل الخلقي بالاستناد إلى آثاره أو نتائجه وأشهرها مذهب اللذة عند أرستيس وأبيقور قديمًا، أو مذهب المنفعة حديثًا ((ويعتبره الدارسون التصحيح العقلي لمذهب اللذة. وهناك أخلاق السعادة عند أرسطو وهي الخير الأقصى تقصد لذاتها وهي كافية بنفسها لإسعاد الحياة، أما الرواقيون فرأوا انحصار السعادة في “ضبط النفس” و“الاكتفاء بالذات” و“الحكمة” أي أنه تحرر من الانفعال والتخلص من الهوى)).
ولكن أبرز معالم الاتجاه الموضوعي يظهر في مذهب كانط صاحب فكرة ((قانون الواجب)) الذي يحكم على الفعل الخلقي – في ذاته – لا بالنظر إلى آثاره ونتائجه.
وتعد المدرسة الاجتماعية الأخلاقية في العصر الحديث من أهم المدارس التي أسهمت بآراء روادها في دراسة الأخلاق منذ “كونت” و “دور كايم” اللذين أرادا تطبيق منهج البحث في العلوم التجريبية على دراسة الظواهر الاجتماعية من تاريخ واقتصاد وأخلاق ولغة وغير ذلك.
ويأتي فلاسفة الوضعية المنطقية فينكرون القضايا الأخلاقية لأن الفلسفة الأخلاقية في رأيهم لا تنطوي على أي بحث في الواقع، ويذهبون في غلوهم الإنكاري إلى القول بأنها قضايا زائفة لا تعبر عن أي شيء قابل للتحقيق تجريبيًا.
وفي ضوء هذا الإنكار يرون في الأحكام الأخلاقية مجرد “توصيات” أو “رغبات” أو “عبارات تعجب“.
أما أساطين الفلسفة الوجودية أمثال كير كجارد وجبرايل مارسيل وسارتر، فبدافع رفضهم إخضاع الفرد للحتمية الاجتماعية أو الموضوعية العلمية، وتقديسهم للحرية باعتبارها مصدر الإلزام، أسقطوا جميع القيم من حسابهم، فكانت فلسفتهم في الحقيقة ضربة قاصمة للقيم والفضائل الخلقية، وتجاوزت معاول هدمهم هذا الحد، وهوت بالحياة الإنسانية إلى مشاعر القلق والعبث والغربة والضياع والفراغ واليأس.
فهل نحن إذن أمام فلسفة أخلاقية أم تدهور أخلاقي؟
في رأي جارودي أن الأزمة المعنوية التي تكافح فيها المدنية الغربية منذ ثلاثة قرون إنما هي أزمة خلقية، معللًا إياها بالانفصال الذي حدث بين الأخلاق والوحي الديني، ومن ثم فإن الحاجة أصبحت ماسة من جديد إلى سلطة ما، وإلى قاعدة خارجية وإلى مبادئ موضوعية[16].
وأمام هذا التردي في المذاهب الأخلاقية هناك، هل يصعب علينا استقراء المغزى؟
إن الأزمة الحقيقية للفلسفة الغربية في الأخلاق نابعة من انحراف عن المنهج الصحيح في استمداد تصورات اللإنسان للقيم الخلقية، أو اللهث وراء البحث عن اللذة أو المنفعة وخطأ تصوراته – أي الإنسان – عن الهدف والمرمى من الحياة الدنيوية وبحته عن أهداف كالسراب، مع افتقاده للنظرة الصحيحة للقيم الثابتة التي نستمدها نحن من عقيدتنا، ومن خبرة الأجيال تلو الأجيال.
إن الحياة وفقًا للعقيدة اللإسلامية مهما كانت زينتها فإنها زائلة لا تلبث أن تتكشف عن زيف معدنها؟ لأنها حتمًا إلى فناء، وتبقى آثار الأعمال الصالحة لتصاحبنا إلى حياة الخلد في الجنة، وهي الهدف الصحيح النهائي الذي يستحق المكابدة والسعي والجهاد، فإن كل بلاء – دون النار – عافية، وكل نعيم – دون الجنة – حقير.
إن الطريق إذن طويل ويحتاج إلى صبر ومصابرة مع العمل المستمر، ومجابهة العقبات تلو العقبات، فمن حديث أنس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)) رواه مسلم[17].
وكل ما يقابله اللإنسان في الدنيا من صعاب ومشقات يهون إذا عرف زوالها وانقضائها، قال تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].
جاء في تفسير ابن كثير يقول تعالى مخبرًا عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها، وأنها ألا دوام لها، وغاية ما فيها لهو ولعب. ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ [العنكبوت: 64] أي: الحياة الدائمة الحقة التي لا زوال لها ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد[18].
أصول المنهج الأخلاقي لدى علماء المسلمين:
وفي ضوء بحثنا للمشكلة الخلقية نجد أنها لم تطرح بواسطة علماء المسلمين بعامة بالطريقة التي طرحت بها على مسرح الفلسفة في أوروبا سواء اليونانية قديمًا أو الغربية حديثًا.
ولإثبات ذلك لجأنا إلى طريقة المقارنة لأنها كفيلة بتوضيح سمات الفكر الأخلاقي الإسلامي ومن ثم يستطيع القارئ الفاحص التمييز بين الأصالة والتبعية حيث نرى الحاجة الماسة إلى تعديل مناهج دراسة العلوم الإنسانية للتوافق مع العقيدة الإسلامية وتصورها الصحيح حتى يفهمها الجيل الحاضر ويقدر قيمتها ويعرف مدى الإسهام الحقيقي الذي قام به حكماء الإسلام في تراث الإنسانية، فيصبح دافعًا له على مواصلة نفس المنهج الذي ساروا عليه في الحياة العلمية والعملية.
وتنبع أخلاقيات الإسلام من أصلين:
أولهما: عقيدة التوحيد التي جددها الإسلام ونادى بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، بالإضافة إلى الشريعة التي أنزلها الله تعالى عليه، فهي الأساس الضروري للحياة الإنسانية الطيبة لأنها تضع للمجتمعات البشرية النظم الملائمة لحياة الفرد وحياة الجماعة وفقًا لكافة القيم الخلقية العليا.
والأصل الثاني: الإيمان باليوم الآخر كضرورة توجه سلوك الإنسان إذ يزوده باستعداد نفسي للتضحية بالمتاع الزائل وتحمل الصعوبات والمشاق لبلوغ جنة الله تعالى ورضوانه، ولا يملك ذلك الاستعداد إلا من كان يؤمن إيمانًا عميقًا بأن كل منا سيقف أمام الله تعالى يوم القيامة ليحاسبه عما عمل في حياته الدنيا فيكافئه أو يعاقبه بحسب عمله.
وبخلاف هذه العقيدة وهذا الإيمان فإننا رأينا كيف تدهورت الأنظمة والقواعد الأخلاقية عندما قطعت صلتها بمصدر الوحي الإلهي، وتولت قيادتها أيدي البشر، وأصبح الاحتمال القائم – بل الماثل للأعين – وقوع العالم في ما يشبه الفوضى المؤدية إلى فساد الفرد والجماعة، وهو ما يتحقق أمام أعيننا بين شعوب العالم المسمى بالمتحضر.
ومهما يكن من أمر، فإن عناية أصحاب الاتجاهات الأخلاقية بوضع أسس صحيحة للإقرار بالقيم والمبادئ، وحرصهم جميعًا على رفع أصواتهم محذرين ومنذرين لمجتمعاتهم من التدهور الأخلاقي، هذا كله دليل ما بعده دليل على أن الإنسان ليس جسدًا وغرائز وشهوات فحسب، ولكنه أفضل من ذلك وأسمى، وأن شقاءه الحقيقي ناجم عن عجزه عن المواءمة بين جسده وروحه، أي بين متطلبات الجسد واحتياجاته، وبين شوق الروح وتطلعها إلى الأسمى والأفضل.
لهذا يعد موقف علماء الإسلام في دائرة الإسلام استجابة لنداء القرآن بالنظر إلى الآفاق والأنفس، وفي ضوء هذا المنهج سيتضح لنا كيف كان الراغب الأصفهاني متوافقًا مع الآيات القرآنية ومستخلصًا منها التصور الصحيح للإنسان أثناء دورته في الحياة الدنيا، مرورًا بابتلاءاته المتوالية حتى ينتقل إلى الحياة الآخرة.
ومن النموذج الأخلاقي التطبيقي للراغب الأصفهاني سنعرف أن المشكلة الخلقية لم تطرح بواسطة علماء المسلمين بالطريقة التي طرحت بها على مسرح الفلسفة في أوروبا، سواء اليونانية قديمًا أو الغربية حديثًا، فباستثناء أشهر الفلاسفة كابن مسكويه – ومن سار على منهجهم ممن تأثروا بالنزعة اليونانية – لم ينفصل البحث في ((الأخلاق والقيم الخلقية)) عن دراسة الإنسان في ظل شريعة الله تعالى وخضوع الإنسان لهذا التشريع في العبادة، والسلوك والأخلاق والأعمال الصالحة جميعًا، ولعل أول المستويات ((الخلقية)) لدى المسلم، ينبغي أن تتحقق في تحري “الحلال” واجتناب “الحرام“، هذا فضلًا عن الصبغة الأخلاقية المميزة للشريعة الإسلامية كما قلنا في المقدمة.
وقد عني علماء المسلمين عند علاج المشكلة الأخلاقية بتفسير الكتاب الكريم وحرصوا على الاستضاءة بالسيرة النبوية؛ لأن الإسلام جاء مخاطبًا الإنسان، حاثًا إياه على الارتفاع إلى المستوى الأخلاقي اللائق به ليهيأ لخلافة الله تعالى على الأرض، فرتب النماذج الإنسانية قياسًا على طاعة الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].
لذلك فإننا نلحظ أن المنهج الذي اتبعه علماء المسلمين يتصل بالتصور الصحيح لحقيقة الإنسان ودورته في الحياة المبتدئة بخلق آدم – عليه السلام -، ثم إهباطه إلى الأرض ابتلاء واختبارًا، ومصاحبته مع شريعة الله تعالى التزامًا بأوامرها وتنفيذًا لأحكامها، وارتفاعًا بمستواها الإنساني إلى العمل بمكارمها[19] حتى ينتقل من هذه الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة ويعود أدراجه إلى موطنه الأصلي – إذا اجتاز الابتلاء الدنيوي بنجاح – أي إلى الجنة.
وينبغي علينا الاحتراز من التعبيرات التي تتردد في كتب الأخلاق عند الحديث عن “التخلق بأخلاق الله تعالى“، حيث تلتبس على الكثيرين، والصحيح أن الحديث المروي عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – نصه “لله تسعة وتسعون اسمًا – مائة إلا واحدًا – من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر” وفي رواية ((من تخلق بصفة دخل الجنة)) رواه البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
وإزاء ما نلحظه عند الأصفهاني وغيره عند استخدامهم للدعوة إلى “التخلق بأخلاق الله” فإننا نرى أن أفضل تفسير لهذه الدعوة، أن “الصفات في حق الله تعالى كمال مطلق لا يحيط به بشر، وهي حين تنسب إلى الإنسان نقص يتدرج نحو الكمال بقدر ما يطلبه البشر[20].
ونعود إلى المقارنة بين الإسلام كمصدر للأخلاق عن حكماء المسلمين، وبين الدين والأخلاق في أوروبا، إذ يستطع الباحث الملم بتاريخ أوروبا في العصر الحديث تعليل بزوغ عصر النهضة على النقيض من أصول قيام الحضارة الإسلامية، قد كانت الأولى – أي الحضارة الأوروبية – حركة رد فعل لكل ما هو ديني، حيث انسلخت العلوم والآداب والنظم الاجتماعية عن الدين، وطرحت المفاهيم الدينية جانبًا وحلت محلها مفاهيم بشرية في كفة العلوم والنظم، ومن هنا كانت الحضارة الأوروبية وفلسفتها ونظمها منسجمة من حيث الأصول المستمدة منها، وانحسر الدين داخل الكنائس يعالج شئون الروح. وعندما عاد أهل أوروبا في العصر الحاضر من الإغريق في المادية وأعجزتهم المشكلات الدنيوية، بدأ البحث في الأديان واللجوء إلى بيوت العبادة[21].
أما الإسلام باعتباره الحلقة الأخيرة الكاملة لدين الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فإنه بهذه الصفة جاء لينظم – وبصفة كاملة ونهائية – مسلك الإنسان في الحياة الدنيا المتجه إلى الآخرة بالضرورة، فكان الانسجام في الحياة النفسية لدى المسلمين، ولهذا لا نعثر في صفحات التاريخ على مشكلات وأزمات نفسية وعصبية وأخلاقية عانى منها المسلمون بالصورة التي يضج منها الغرب الآن بالشكوى ذلك لأن نظم الإسلام في عباداته وشرائعه ومبادئه قد خطت أحسن الطرق للإنسان باعتبارين:
الأول: أن طبيعة الإنسان تجمع بين الجسد والروح.
والثاني: الحياة الإنسانية ممتدة من الدنيا إلى الآخرة.
إن الأمراض النفسية المعاصرة إذن ومظاهر الانحدار الخلقي وافدة ضمن ما وفد من الغرب أي مع أساليبه ونظمه في المذاهب والفلسفات والحياة الاجتماعية والسياسية.
[1] تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية: مصطفى عبدالرازق ص 45.
[2] نفسه ص 45، 46، 47.
[3] نفسه ص 106.
[4] تمهيد لنتائج الفلسفة الإسلامية: مصطفى عبدالرازق، ص 111.
[5] تفسير المنار ج 4 ص 223.
[6] تفسير المنار ج 3 ص 262- 263.
[7] تفسير المنار ج 9 ص 21- دار المنار 1367هـ.
[8] ابن باديس: حياته وآراؤه ج1 ص 183- 279.
[9] تفسير المنار ج 4 ص 402.
[10] تفسير المنار ج 4 ص 409.
[11] تفسير المنار ج 3 ص 263.
[12] تفسير القاسمي ج 2 ص 259.
[13] تفسير القاسمى ج 3 ص 846.
[14] تفسير القاسمي ج 2 ص 260.
[15] تفسير المنار ج 5 ص 409.
[16] المشكلة الأخلاقية والفكر المعاصر: د. جارودي ص 3، ترجمة د. محمد غلاب ومراجعة د. إبراهيم بيومي مدكور- ط الأنجلو 1958م.
[17] وفي البخاري عن أبي هريرة، إلا أن لفظه (حجبت مكان حفت).
[18] تفسير ابن كثير ج6 ص 103 ط دار الشعب، تحقيق د. محمد إبراهيم البنا، محمد أحمد عاشور، عبدالعزيز غنيم.
[19] يميز الأصفهاني بين مكارم الشريعة والعبادات، فإن العبادات فرائض معلومة ومحددة، بينما المكارم درجة أعلى من العبادات، ولا يستحق الإنسان مقام (الخلافة) إلا بتحري مكارم الشريعة؛ لأن الخلافة عند الراغب الأصفهاني (الاقتداء به تعالى على الطاقة البشرية في تحري الأفعال الإلهية)، الذريعة إلى مكارم الشريعة ص 29 ط مكتبة الكليات الأزهرية، مراجعة وتقديم طه عبدالرؤوف سعد 1393هـ- 1973م.
[20] قيم الحياة في القرآن: محمد شديد ص69 دار الشعب 1393م- 1973م.
[21] مثال ذلك ما ذكرته وكالة الأنباء الفرنسية في تقرير لها يوم 8/1/84 من موسكو، أن الكنائس الأرثوذكسية في العاصمة السوفيتية شهدت ازدحامًا شديدًا لحضور قداس عيد الميلاد الذي احتفل به ليلة 6، 7 يناير وهو ما فسره المراقبون بأنه دليل على استمرار وتجدد الشعور الديني هناك رغم ازدياد الدعاية للإلحاد وضغوط الحكومة على السلطات الدينية في الآونة الأخيرة (جريدة الأهرام ص 4 يوم 9/1/1974).
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عادت الكنيسة لتأدية دورها وتثبيت قدمها كعامل مهم في التطورات السياسية، لا سيما في أحداث الاصطدام الأخير بين الرئيس الروسي والبرلمان إذ تدخل البطريرك إليكس الثاني للتوفيق بينهما. هذا، وقد تابع العالم باهتمام ودهشة انحناء الرئيس واحترامه للبطريرك، بالرغم من أن الرئيس كان عضوًا في الحزب الشيوعي لمدة عشرين سنة، مع العلم بأن بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية يعد صاحب أعلى منصب ديني للكنيسة الشرقية، مقابل بابا الفاتيكان؛ ينظر مجلة (أكتوبر- العدد 885).
المصدر:الألوكة