إن لم تكن قادرا فلا تكن عاجزا

الجمعة 17 صفر 1435 الموافق 20 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).رشيف

محمد شلبي محمد

هناك دائمًا مسافةٌ فارقة بين كلِّ ضدَّين، تحمل كثيرًا من النَّاس. 

فكثيرٌ يتعلَّلون عن النُّكوص والتَّقصير في الاتِّصاف بالصِّفات التَّوامِّ، والاتِّجاه للأعمال العِظام؛ بحجَّة الانشغال وضيق الحال، وإنَّما أُتِيَ هؤلاء من قِبَل هِمَّتِهم. 

يَنْسى كثيرٌ من النَّاس أنَّ عدم بُلوغهم هذه القِمَم لا يَعْني بالضَّرورة انْحِدارهم إلى السُّفوح، وأنَّ الذي لا يُدرَك كلُّه، لا يُترَك جُلُّه. 

وأنَّ الإنسان إذا لَم يكن قادرًا، فلا يَجِب أن يكون عاجزًا؛ فهو إن لَم يكن كريمًا؛ فلماذا يكون بخيلاً؟ وإن لم يكن شجاعًا فلماذا يكون جبانًا؟ وإن لم يكن عالمًا فلماذا يكون جاهلاً؟ وإن لم يكن داعيةً فلِماذا يَكون ساكتًا عن المُنكَر؟! 

هي قضيَّة نَفْسية في الأساس، وللشَّيطان على النُّفوس تلبيس. 

إنَّ النَّفْس إذا طمحَتْ طَمعت، فإذا أُعيقت زهدَتْ وَكلَّت، أو استحقرَتْ ما كانت تطمع فيه! إنَّها حالة نفسيَّة ضَربوا لها مثلاً، سُمِّي بـ”ظاهرة العنب الحِصْرِم”. 

كان الثَّعلب في حديقةٍ بِها أعنابٌ تُشتَهى، فلمَّا أراد أن يُصيب منها – وقد بلغَتْ من نفْسِه كلَّ مبلَغٍ – عجزَ عن الوصول إليها؛ لِعُلوِّها، أو لِكَلالِه، فلمَّا عجز شعرَ بالذُّل، فأرادَ أن يقهر عجْزَه بالتَّقليل من شأن القِطف، وجعل يقول لِنَفسه: إنَّه عنبٌ حِصْرِم، لا طعمَ له. 

وهو يَحْدث لبعض النُّفوس التي تعجز أن تَهْتدي فتفعل ما يفعل المُهْتدون، فتُقلِّل من شأنهم، وهو سلوكٌ ذكَرَه القرآنُ الكريم، وإن لم يكن فسَّرَه؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ* وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴾ [المطففين: 29 – 32].

اقرأ أيضا  العلاقة الفردية بين المسلم وغير المسلم في الفقه الإسلامي

لقد شاع بين النَّاس قولُ قومٍ ضالِّين لبعض المُصلِّين وهو ذاهبٌ يُصلِّي: “احجز لنا قيراطَيْن معك في الجنَّة يا شيخ”!

ذلك العجز الذي يُذْكِي الحقْدَ والحسَد، وإذا تَمكَّن هذان من نَفْس فلن يَبْقى فيها مكانٌ لِفَضيلة ولا متَّسعٌ لِمَكْرُمة، فتَتْرك الخير إلى الشَّر، والحقَّ إلى الباطل، والفضائل إلى الرَّذائل. 

ثُمَّ إن النَّفْس التي تطمح للمَكارم لا ينبغي أن تكِلَّ في طلب ما تبتغي، إنَّ نفس المؤمن نفسٌ قوِيَّة لا يردُّها الفشَل، ولا ينالها التَّوهين، ولا يوغرها نجاحُ الآخَرين، وبِهذا أرشد الله تعالى عبادَه عند رؤية الخير نازِلاً على الغير.

قال تعالى: ﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 32].

اسألوا الله من فَضْلِه؛ فسُؤال الله تعالى كافٌّ عن انبِطاح النَّفْس خلفَ كلِّ مُشتَهًى ومطمَع، وفيه مقوِّم لانكسارها في كلِّ حرمان، والَّذي يتعوَّد ذلك لا يتوقَّف عن العمَل والطَّلَب، إنَّه إن لم يرتَقِ إلى الكمال لَم ينحدر إلى النَّقص. 

فلا يترك المؤمنُ نفْسَه خلوًا من المكارم التي لا يَسْتطيع فعْلَها كما يرى مِمَّن حوله؛ لأنَّ المؤمن يعلم أنَّ الأعمال بالنِّيات، وأنَّ المَحْروم مِن الفعل هو كالفاعل سواءً بسواء، إذا سكَنَتْ قلبَه نيَّةٌ صادقة. 

وأقَلُّ درجات الأعمال نيَّة صادقة؛ لأنَّها لا تلبَثُ إذا انشغَلَ بها صاحِبُها أن تتطوَّر إلى فِعْل، ولا يكلِّف الله نفسًا إلاَّ وسعها، ثُمَّ يظَلُّ المؤمن الصَّادِقُ النِّية يترقَّى في باب العمل حتَّى ينال المَكْرُمات، والطَّبْع بالتطَبُّع. 

اقرأ أيضا  فمن رغب عن سنتي فليس مني

نحن في هذا الزَّمان نحتاج إلى شَحْن عوامل النَّجاح جميعًا، نَحْتاج النُّفوس التي لا تيئس فتَيْبس. 

نحتاج النُّفوس التي لا يتحطَّم مَدُّها على صخور الأزمات. 

نحتاج النُّفوس التي تنتَفِض من عثرتِها لحظةَ عثرتِها، وليست التي تَبْكي على كَبْوتِها وحَظِّها لياليَ وأيامًا.

نحتاج النُّفوس التي تعمل ولو قليلاً قَليلاً.

وإذا كان اللَّيثُ ليس إلاَّ عِدَّة خِرَاف مَهْضومة؛ كما يقول الفرنسيُّون، فإنَّ الضِّعاف فينا قوَّة جبَّارة إذا توحَّدَت أعمالُهم وكَثُرت، وقد لفتَ الرَّسول الكريم – صلَّى الله عليه وسلَّم – الأذهانَ إلى عدَمِ احتِقار القليل ولا الصَّغير.

فاللَّمَم: صِغَار المعاصي، يجتَمِعن على المرء حتَّى يُهْلِكْنَه، وكذلك المعروف القليل رُبَّما كان فاتحةً لِخَيرٍ جليل.

أشيعوا في الناس هذا الشِّعار:

إن لَم تكن قادرًا فلا تَكُن عاجزًا؛ إن لم تستَطِع قيام اللَّيل فركعَتين والوتر قبل أن تَنام.

 

إن لم تستطع قراءةَ جزءٍ في اليوم، فصفحة حتَّى.

 

إن لم تستطع الإحاطةَ بالسُّنَن، فعليك بالظَّاهر منها.

 

إن لم تستطع حِفْظ ألفاظ القرآن والحديث، فعليك بحفظ المعاني.

 

إن لم تستطع التصَدُّق بالمال الكثير فتصدَّقْ ولو بشِقِّ تَمْرة.

 

إن لم تستطع الدَّعوة إلى الله في كلِّ سبيل فادعُ زوجَك وأبناءك.

 

إن لم تستطع الجهادَ فعلَيْك بالدُّعاء للمجاهدين والمستضعَفين.

 

أخي الكريم:

أنت بِناءٌ هائل، مشحونٌ بالطاقات والقدرات، يكفي أنَّ الله هو الذي خلَقَك، وقال: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، إنَّك مجلى من مَجالي آيات الله تعالى، قرَنَك بآيات الكون؛ لأنَّه وضَعَ فيك مثل ما وضعَ في الكون، ورُبَّما أعقد؛ إنَّه تعالى قال: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ [غافر: 57]، قال: أكبر، ولَم يَقُل: أعظَم.

اقرأ أيضا  التربية الإسلامية و تحديات العصر

وَتَزْعُمُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ 

وَفِيكَ انْطَوَى العَالَمُ الأَكْبَرُ 

 

فابْحث عن جوانب العظَمة فيك، وعَزِّز مواهبك التي حبَاك الله؛ فإنَّه لم يُخْلِ أحدًا من موهبة.

 

ابدَأْ في إحياء نَفْسِك، ثم بناء نفسك، لعلَّ داخلَك كاتبًا حكيمًا، أو مُفكِّرًا راشدًا، أو عالِمًا جليلاً، أو حافظًا متقنًا، أو مربِّيًا واعيًا، أو شاعرًا مرهفًا، أو خطيبًا بليغًا، أو رجلَ أعمالٍ ناجحًا.

 

ابحث داخِلَك عن عطاء الله الذي لا ينفَد، ولا تعجز؛ قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المؤمن القويُّ خيرٌ وأحَبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفَعُك، واستَعِنْ بالله ولا تعجز، وإنْ أصابَك شيءٌ فلا تَقُل: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قُل: قَدر الله وما شاء فَعل؛ فإنَّ “لو” تفتَحُ عمل الشَّيطان))؛ مسلم: 2664.

 

صدق رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – الرسول الذي لم يَعْرف في حياته غير النَّجاح والبناء.

 

وقال عمرو بن مَعْدِي كَرِب:

إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ

وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ 


المصدر: الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.