الخصائص المميزة لعقيدة أهل السنة والجماعة

الجمعة 24 صفر 1435 الموافق 27 كانون الأول / ديسمبر2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).رش

هشام إسماعيل 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبيه محمد، وعلى آله وصحبة أجمعين، أما بعد:

حديث الافتراق من الأحاديث المشهورة، أخرجه كثير من أصحاب الحديث في كتبهم ، وهو كما قال عنه الحاكم: (هذا حديث كثر في الأصول) (1).

ومن أجمع ألفاظه ، ما رواه عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وسبعين في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعين في النار، واحدة في الجنة، والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار. قيل : يا رسول الله من هم؟ قال : الجماعة)(2).

وأولى من يؤخذ منه تفسير كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هم صحابته الكرام -رضي الله عنهم أجمعين-.

وتفسير الجماعة المرادة في هذا الحديث فسره العالم الرباني والصحابي الجليل عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه-.

فعن عمرو بن ميمون قال : قدم علينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوقع حبه في قلبي ، فلزمته حتى واريته في التراب بالشام. ثم لزمت أفقه الناس بعده عبد الله بن مسعود، فذكر يوماً عنده تأخير الصلاة عن وقتها فقال : صلوها في بيوتكم ، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة. قال عمرو بن ميمون : فقيل لعبد الله بن مسعود: وكيف لنا بالجماعة؟ فقال لي : يا عمرو بن ميمون إن جمهور الجماعة هي التي تفارق الجماعة، إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك (3).

وعن الحسن البصري قال : السنة، والذي لا إله إلا هو، بين الغالي والجافي ، فاصبروا عليها رحمكم الله ؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي؛ الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم ، فكذلك إن شاء الله فكونوا.

وعلى ضوء ما سبق ذكره ، فإن تعريف أهل السنة والجماعة يمكن أن يقال بأنهم : من وافق سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – قولاً وعملاً على منهاج الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين-.

ومن خلال النظر في منهج أهل السنة، وفي حال أهل البدع نجد أن لأهل السنة خصائص ومميزات تميزهم عن غيرهم ، وهذه الخصائص والمميزات نتيجة للمنهج العقدي الذي يتميزون به عن غيرهم.

 

ولذلك فإننا نذكر هنا أهم مميزات وخصائص عقيدة أهل السنة والجماعة:

1 – فالميزة الأولى هي : أنها ربانية المصدر :

وهذه أعظم ميزة لعقيدة أهل السنة، فهي تعتمد على الكتاب الذي أنزله الله تعالى على رسوله – صلى الله عليه وسلم – ، وأمره أن ينذر الناس به ، كما في قوله تعالى : ((قُلْ إنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ)) [الأنبياء:5]، وقال عن السنة أنها هي المبينة للكتاب ، فقال سبحانه وتعالى : ((وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) [النحل:4] ، ولذلك كل من ترك النظر والاستدلال بالكتاب والسنة فهو ضال ، ولا يغني في النجاة أن يتمسك المتمسك بأحدهما دون الآخر، فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله) (4)، فعدم الضلال مُنَاط بالتمسك بالكتاب والسنة معاً، فمن تمسك بأحدهما وترك الآخر ضل. فالخوارج تمسكوا بظواهر القرآن فقط فكانوا من أعظم أهل البدع بدعة.

وعن هذه الميزة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : (ولكن ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول ، وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته ، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا، كما قال تعالى: ((قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى * ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى)) [طه:23،124] ، قال ابن عباس : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية (5).

 ولهذا أخبر الله في غير موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك اتباع ما أنزله ، وإن كان له نظر وجدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك ، وجعل ذلك من نعوت الكفار والمنافقين ، قال تعالى : ((وجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأَبْصَاراً وأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولا أَبْصَارُهُمْ ولا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)) [ الأحقاف:26].

ولو نظرنا في تاريخ الفرق لعلمنا أن جميع العقائد المحدثة كانت بعد عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وعهد أبي بكر وعمر وعثمان ، ثم كان مقتل عثمان – رضي الله عنه – وبدأ بذلك ظهور البدع ، حيث ظهرت الخوارج في عهد عليّ -رضي الله عنه- ، ثم تشعبوا وانقسموا إلى فرق عديدة.

وكذلك لو نظرنا إلى المعتزلة – مثلاً – لوجدنا أن الاعتزال ظهر على رأس المائة الأولى، وذلك عندما تكلم واصل بن عطاء في مجلس الحسن البصري عن مرتكب الكبيرة ، ثم جاء عمرو بن عبيد، ثم النظّام والجبائي والعلاف وغيرهم ، حتى تأسس للمعتزلة عقيدة لم تكن من قبل. وقل مثل ذلك في كل الآراء التي حدثت بعد قرن الصحابة وأخطاء أصحابها في فهم عقيدة السلف بسبب النقص في العلم أو بسبب الهوى واتباع المتشابه.

الميزة الثانية أنها: عقيدة إجماعية :

فهذه العقيدة عقيدة مجمع عليها بين الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – والله عز وجل يقول : ((ومَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيراً)) [النساء:115]، وعلى هذا فكل من خالف هذه العقيدة فقد خرج عن إجماع الصحابة.

والناظر في عقيدة أئمة علماء المسلمين المتفق على فضلهم وإمامتهم بين جمهور المسلمين يجد أنهم على هذه العقيدة الصافية.

اقرأ أيضا  تحذير فلسطيني من تفجير الاستيطان الإسرائيلي للأوضاع بالخليل

وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن من العلماء الذين هم على عقيدة أهل السنة والجماعة : جيل الصحابة – بلا استثناء – ، ثم من بعدهم أئمة التابعين كسعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، وعروة بن الزبير، وغيرهم، ثم جاء من بعدهم سفيان الثوري ، وعبد الله بن المبارك ، وأبو إسحاق الفزاري ، وابن عيينة والإمام مالك ، ثم الإمام أحمد بن حنبل ، والشافعي، والإمام البخاري ، والإمام مسلم ، وأصحاب السنن الأربعة، وغيرهم من العلماء كثير.

وبذلك نعلم أن هذه الأمة مهما تفرقت واختلفت فإنها لا يمكن أن تجتمع أبداً إلا على هذه العقيدة، وكل من حاول أن يجمع صفوف المسلمين على غير عقيدة أصلاً !! أو على عقيدة غير عقيدة أهل السنة ، فإنه ولاشك يروم المستحيل ، وكما قال الإمام مالك في كلمته المشهورة عنه : (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها).

الميزة الثالثة أنها: العقيدة المنجية:

فعقيدة أهل السنة هي عقيدة الفرقة الناجية: لأنها هي التي سارت على منهج الصحابة -رضوان الله عليهم – وما زاغت ولا بدلت ، وهي التي وصفها الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالنجاة، وذكر أن غيرها متوعدة بالنار، فجميع الفرق داخلة تحت الوعيد، يقول الشاطبي -رحمه الله تعالى-: (وأما على رواية من قال في حديثه (كلها في النار إلا واحدة) ، فإنما يقتضي إنفاذ الوعيد ظاهراً، ويبقى الخلود وعدمه مسكوتاً عنه… إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين ، كما يتعلق بالكفار على الجملة، وإن تباينا في التخليد وعدمه) (6).

وهذه العقيدة هي المنجية للإنسان من عذاب الله في الآخرة لمن تمسك بها وعمل بمقتضاها، وكذلك هي المنجية للإنسان في الدنيا: منجية له من البدع والضلال ، والحيرة والشك والخرافات. والذي ينظر في سير أهل البدع يجد أنهم يعيشون في اضطراب وشك وحيرة وظلمات بعضها فوق بعض.

وأما أهل السنة والجماعة فهم على يقين من دينهم يعرفون ربهم ويعبدونه على بصيرة وحب وطمأنينة، والناظر في حياتهم يجد عجباً من علو الإيمان ، ولذة المناجاة وما ذلك إلا لمعرفتهم الله سبحانه وتعالى وماله من صفات عليا وحكمة بالغة ورحمة واسعة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :

(إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة) (7)، ويقول – عندما سجن – :(ما يصنع أعدائي بي ؛ أنا جنتي في صدري ، إن رحت فهي معي لا تفارقني ، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة) (8)، ويقول عنه ابن القيم : (وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط ، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم ، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق ، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.

وكنا إذا اشتد بنا الخوف ، وساءت منا الظنون ، وضاقت بنا الأرض ، أتيناه ، فما هو إلا أن نراه ، ونسمع كلامه ، فيذهب ذلك كله ، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة.

فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه ، وفتح لهم أبوابها في دار العمل ، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها) .

*يتبع*

 

الهوامش :

1 – انظر المستدرك 1/128

2 – أخرجه بهذا اللفظ ابن أبي عاصم في السنة / 63، وصححه الألباني ، وهو في صحيح سنن ابن ماجه /3226

3 – شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/108 – 109

4 – حسنه محقق جامع الأصول 1 / 277

5 – انظر تفسير ابن جرير 16 / 147

6 – الاعتصام 1 / 198

7 – الوابل الصيب / 60

8 – المصدر السابق / 60

 

 

(2)

الميزة الرابعة : عقيدة منصورة :

وهي التي أخبر عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله : (لا تزال طائفة من أمتى قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله ، وهم ظاهرون على الناس)(1).

وأهل السنة والجماعة – وإن مر عليهم زمن قل فيه وجودهم – إلا أنهم يبقون ظاهرين على غيرهم بالسيف والسلطان ، أو بالحجة والبيان ، أو بهما معاً، وظاهرين أي أنهم مشهورون غير مستترين (2).

وهم منصورون بدلالة هذا الحديث ، وبدلالة قوله – تعالى – : ((إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ))[غافر:51] .

ومن عجيب نصر الله – عز وجل – لأهل السنة ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – بقوله : “وقد تبين لك أن الطوائف التي في كلامها ما يعارضون به كلام الشارع من العقليات – سواء عارضوا به في الظاهر أو الباطن – كل منهم يقول جمهور العقلاء: إن عقلياته تلك باطلة ويبينون فساد عقلياته بالعقليات الصحيحة الصريحة التي لا يمكن ردها” (3).

وهذا من نصر الله – عز وجل – لأهل السنة في الحياة الدنيا، وأما في الآخرة ففي عدة مواطن ، منها ما قاله ابن عباس – رضي الله عنه – في قوله – تعالى – : ((يَوْمَ تَبْيَضُّ وجُوهٌ وتَسْوَدُّ وجُوهٌ))[ آل عمران:106] ، قال : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة (4) .

وكونها عقيدة منصورة يدل على أنها ثابتة لا تتبدل ولا تتغير على مر العصور والأزمان ، وثباتها ناشئ من ثبات مصدرها ، بينما نجد أن الفرق الأخرى إما أن يحدث تطور في معتقداتها كما في المرجئة والخوارج وغيرهم ، وإما أن تنقرض ولا يبقى لها أثر إلا في بطون الكتب ، ككثير من فرق الخوارج وغيرهم.

 

الميزة الخامسة : عقيدة وسط  (الوسطية) :

قال الله – سبحانه وتعالى – : ((وكَذَلِكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً))[ البقرة:143] قال ابن جرير – رحمه الله تعالى – : “وأرى أن الله – تعالى ذكره – إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسُّطهم في الدين ، فلا غلو فيه، غلو أهل النصارى الذين غلوا بالترهب وقِيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه،تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم ، وكذبوا على ربهم ، وكفروا به ، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه ، فوصفهم الله بذلك ، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها” (5).

اقرأ أيضا  شرح قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الدين النصيحة

والله – عز وجل – “جعل هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين ، وسطاً في الأنبياء، بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفا منهم كاليهود، بأن آمنوا بهم ، كلٌّ على الوجه اللائق بذلك.

ووسطاً في الشريعة،لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى، وفي باب الطهارة، والمطاعم ، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بِيعهم وكنائسهم ولا يطهرهم الماء من النجاسات ، وحرمت عليهم الطيبات عقوبة لهم ، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئاً، ولا يحرمون شيئاً، بل أباحوا ما دب ودرج ، بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها، وأباح لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح ، وحرم عليهم الخبائث من ذلك.

فلهذه الأمة من الدين أكمله ، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها، ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان ، ما لم يهبه لأمة سواهم ، فلذلك كانوا أمة وسطاً، كاملين معتدلين ، ليكونوا شهداء على الناس بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط ، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان ، ولا يحكم عليهم غيرهم”(6).

وكذلك هذه الأمة أمة وسط في التصور والاعتقاد … أمة وسطاً في التفكير والشعور، لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة ، و لا تتبع – كذلك – كل ناعق .. إنما تتمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ، ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب ، وشعارهم الدائم : “الحقيقة ضالة المؤمن أنَّى وجدها أخذها في تثبت ويقين”.

أمة وسط في التنظيم والتنسيق… لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب ، إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب ، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب ، وتزاوج بين هذه وتلك ، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان ، ولا تكلهم – كذلك – إلى وحي الوجدان ، ولكن مزاج من هذا وذاك (7) . قال ابن تيمية : “وكذلك أهل السنة في الإسلام متوسطون في جميع الأمور فهم في “عليّ” وسط بين الخوارج والروافض ، وكذلك في عثمان وسط بين المروانية وبين الزيدية، وكذلك في سائر الصحابة وسط بين الغلاة فيهم والطاعنين عليهم ، وهم في الوعيد وسط بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة، وهم في القَدَر وسط بين القدرية من المعتزلة ونحوهم ، وبين القدرية المجبرة من الجهمية ونحوهم ، وهم في المعتزلة وسط بين المعطلة وبين الممثّلة.

والمقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ينفردون عن سائر طوائف الأمة إلا بقول فاسد، لا ينفردون قط بقول صحيح ، وكل من كان عن السنة أبعد كان انفراده بالأقوال والأفعال الباطلة أكثر” (8).

الميزة السادسة : عقيدة عادلة :

يقول الله – عز وجل – : ((إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحْسَانِ وإيتَاءِ ذِي القُرْبَى ويَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ والْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ))[ النحل:90] ، ويقول – سبحانه وتعالى – : ((ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))[ المائدة:8] .

قال ابن جرير في تفسير هذه الآية : “يعني بذلك – جل ثناؤه – : يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم ، ولا تجوروا في أحكامكم ، وأفعالكم ، فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم ولا تقصروا في ما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم ، انتهوا في جميعهم إلى حدي ، واعملوا فيه بأمري”(9).

ويقول العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -: “ولا يجرمنكم أي لا يحملنكم شنآن قوم : أي بغضهم على ألا تعدلوا كما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط بل كما تشهدون لوليكم فاشهدوا، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له ، فلو كان كافراً أو مبتدعاً فإنه يجب العدل فيه ، وقبول ما يأتي به من الحق ، لا لأنه قاله ولا يرد الحق لأجل قوله ، فإن هذا ظلم للحق” (10).

من عدل أهل السنة أنه وجد من العلماء من كان له قدم خير وسبق في نشر الإسلام والدفاع عنه ، ويكون قد وقعت منه أخطاء عقَدية اجتهاداً منه في طلب حق لم يوفق له ، فأمثال هؤلاء العلماء ينبغي أن يسلك فيهم مسلك الوسط ، فلا إفراط في مدحهم ولا تفريط في ذمهم ، بل ينبغى أن يقال فيهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن بعضهم : “قلت أبو ذر – الهروي – فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة، وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به. وكان قد قدم إلى بغداد من هراة، فأخذ طريقة ابن الباقلاني وحملها إلى الحرم فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم كأبي نصر السجزي ، وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني ، وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين ، بما ليس هذا موضعه…

ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة ، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع ، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى عليه من عرف أحوالهم ، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف…

وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع من أهل العلم والدين ، والله – تعالى – يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ))[ الحشر:10].

ولا ريب أن مَن اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخطأ في بعض ذلك ؛ فالله يغفر له خطأه ، تحقيقاً للدعاء الذي استجاب الله لنبيه وللمؤمنين ، حيث قالوا : ((رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا))[ البقرة:286] .

اقرأ أيضا  الإسراء والمعراج دراسة دينية علمية

ومن اتبع ظنه وهواه ، فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صواباً بعد اجتهاده ، وهو من البدع المخالفة للسنة، فإنه يلزمه نظير ذلك في المتأخرين ، لكثرة الاشتباه والاضطراب ، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة، الذي به يحصل الهدى والصواب ، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب” (11).

وما ذكره ابن تيمية يبين عدل أهل السنة، ويبين كذلك منهجهم مع من أخطأ أو ضل في بعض مسائل الدين. وممن اتخذ هذا المنهج العدل في نقد الآخرين – سواء كانوا موافقين له أو مخالفين – الحافظ الذهبي -رحمه الله – وذلك في ترجمته لكثير من العلماء، حيث يصف كل من ترجم له بعلم وعدل وإنصاف – نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً(12).

كما يتجلى عدل أهل السنة والجماعة في كتب الجرح والتعديل ، حيث إنهم يذكرون أن فلاناً صدوق ، وإن كان من أهل البدع ، وأن فلاناً ضعيف سيئ الحفظ وإن كان من أهل السنة.

وانظر على سبيل المثال ما قاله العلماء في عبد الله بن لهيعة، وهو من محدثي أهل السنة والجماعة :

قال عنه ابن حجر في التقريب (3563): صدوق خلط بعد احتراق كتبه.

وقال عن عمران بن حطان الخارجي : صدوق . إلا أنه كان على مذهب الخوارج. كما في التقريب (5152).

فانظر إلى اختلاف ما بين الرجلين في المعتقد، وإلى وصف كل منهما بأنه صدوق ، فكون ابن لهيعة من أهل السنة لم يكن دافعاً لعلماء الجرح بأن يوثقوه ، كما لم تكن بدعة عمران بن حطان سبباً في تضعيفه ، بل وصفوا كلاً منهما بما يستحق من جهة حفظه وضبطه ، وذكر ما فيهما من بدعة أو سنة، والأمثلة في غيرهما كثيرة.

وفي المقابل إذا نظرنا إلى ما كتبه بعض أهل البدع – كالكوثري في كتابه “تأنيب الخطيب”- فهو لم يؤنب الخطيب البغدادي فقط ، بل جرح كثيراً من ثقات علماء أهل السنة، بل حتى بعض الصحابة لم يسلموا منه ، كأنس بن مالك – رضي الله عنه وأرضاه – (13).

وفي الوقت نفسه قام بتوثيق كثير من ضعفاء أهل الأهواء والبدع (14) ومن هنا يتضح لنا عدل أهل السنة والجماعة، وجور أهل البدعة والضلالة.

الميزة السابعة: عقيدة سهلة ميسرة :

فهي – كما قلنا – عقيدة ربانية المصدر، تعتمد على الكتاب والسنة، والله – عز وجل – يقول عن كتابه في كتابه : ((ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ))[ القمر:17] ويقول – سبحانه وتعالى – عن سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم – : ((وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ))[ النحل:44] ، وكل مَن يطلع على الأدلة من الكتاب والسنة أو من كلام السلف الصالح على أمور الإسلام عامة، ومسائل العقيدة خاصة – يجدها ميسرة سهلة لا غموض فيها ولا لبس ولا تكلف ، ومما يدل على ذلك أن وقت نزول القرآن ، ووقت تحدث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه في مجالسه العامة، كان يوجد العالم والجاهل ، وسريع الفهم وبطيئه ، بل كان يحضرها الصغار والأعراب ، الذين يأتون من البادية لبعض حوائجهم ، وكلهم كان يسمع الآيات القرآنية التى تنزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، والأحاديث النبوية وهو يقولها لأصحابه – رضوان الله عليهم – ثم لا يَشُكل عليهم فهمها إلا ما ندر .

يقول الإمام الشاطبي – رحمه الله – :

“إن التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها ، ليسعه الدخول تحت حكمها”(15) .

ثم يقول عن الأمور العقدية بأنها :

“تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور ، مَن كان منهم ثاقب الفهم أو بليداً ، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص ، لم تكن الشريعة عامة، وقد ثبت كونها كذلك ، فلابد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المآخذ” (16).

وأما عقائد أهل البدع والضلال ، فهي جافة غامضة، صعبة الفهم ، فهم يعتمدون على علم المنطق ، وعلم الكلام ، وفلسفة الوثنيين ، أي أنهم يعتمدون على العقل البشري المجرد عن الوحي الإلهي والنور الرباني.

 بل شهد مَن رجع إلى الحق منهم ، أنهم كانوا في ضلال وحيرة عظيمة، لا تماثلها حيرة، وأنهم كانوا في شك من دينهم ، ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) .

وأما أهل السنة والجماعة فهم – والحمد لله – في عافية من الشك والارتياب ، ومن الحيرة والضلال الذي وقع فيه أهل البدع ببدعهم . ونجا منه أهل السنة باتباع سنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- والحمد لله رب العالمين .

 

الهوامش :

1 – أخرجه الإمام أحمد 4/101 ، والحديث مخرَّج في الكتب الستة إلا النسائي ، وانظر الألفاظ الصحيحة في صحيح الجامع من رقم (7287) إلى (7296)

2 – انظر : فتح الباري 13/407

3 – انظر : درء تعارض العقل والنقل (10/317-318)

4 – تفسير ابن كثير (2/391)

5 – تفسير ابن جرير الطبري ، 3/142

6 – تفسير السعدي ، 1/158

7 – في ظلال القرآن ، 1/131 باختصار

8 – انظر : منهاج السنة النبوية 5، /168-173

9 – جامع البيان للطبري ،10/95

10 – انظر : تفسير السعدي ، 2/259

11 – انظر : درء تعارض العقل والنقل ، 2/101-103

12 – انظر على سبيل المثال “سير أعلام النبلاء” ، 7/361،11/526،14/183،14/220 وغيرها من المواطن

13 – الطليعة للعلاّمة المعلمي ، 65

14 – انظر : كتاب التنكيل (قسم التراجم) ، 1/84 وما بعدها

 15 – الموافقات ، 2/88

16- الموافقات ، 2/88

المصدر: رواد التميز

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.