التشريع والاجتهاد في التصور الإسلامي

الثلاثاء،5 ربيع الاول 1435ه الموافق 7 كانون الثاني /يناير2014م وكالة معراج للأنباء “مينا”.

أ. د. محمد أحمد علي مفتي

يقصد بالتشريع معنيان:

أولهما: (إنشاء شرع مبتدأ).

وثانيهما: (تبني وإظهار حكم مستمد من شريعة قائمة)[1].

يقرر الاسلام أولاً أن إنشاء الشرع ابتداءً، إنما يختص به الله تعالى وحده، فإليه يرجع الأمر والحكم، وليس لمخلوق أن ينشئ حكمًا بالتحليل أو التحريم ابتداءً من عند نفسه[2].

وقد أنكر الله – عز وجل – على مَن فعل ذلك وأمر بقتاله، وتوعَّد من فعله من المشركين الخاسرين المفترين؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [3].

وقال – عز وجل -: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [4].

 

وقال تعالى: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [5].

 

وقال – عز وجل -: ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [6]. وقال – عز وجل -: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [7].

 

وقال – عز وجل -: ﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [8].

 

إلى غير ذلك من الآيات التي تقرر توحيد الله تعالى بحق الألوهية، وأن حق التشريع ابتداءً إنما هو لله تعالى وحده، وأن منازعته فيه شرك.

 

أما فيما يتعلق بالمعنى الثاني، وهو تبني وإظهار حكم مستمد من شريعة قائمة، فإن الله – عز وجل – وهو المشرع ابتداءً، أمر عباده المؤمنين بالرجوع إلى كتابه وسنة رسوله لاستنباط حكم الله تعالى وإظهاره؛ قال – عز وجل -: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [9].

 

وقال تعالى: ﴿ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ [10].

 

وقال: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [11].

 

فهذه الآيات توجب على المسلم معرفة أحكام الله تعالى التي تلزمه بأداء فرائضه والقيام بالواجبات المنوطة به، كما تفرض على الأمة إيجاد الطائفة التي تتفقه في الدين، وتستنبط أحكامه من مصادره الشرعية، والقائمون بالتشريع بهذا المعنى – من استنباط الحكم المستمد من مصادر الشرع وإظهاره – هم المجتهدون وأهل الفتيا من المسلمين، الذين أوجب الله تعالى عليهم تفهُّم النصوص، وبيان أحكامها واستنباط هذه الأحكام بالاجتهاد، والذي عرفه علماء الأصول بأنه “استفراغ الوسع في النظر… (في) كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع[12].

اقرأ أيضا  الاحتلال يعتقل اسيرين محررين بالضفة الغربية

 

وقد شرع الرسول – صلى الله عليه وسلم – كذلك الاجتهاد بهذا المعنى للحكام وولاة الأمور، فقال – عليه السلام -: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر»[13].

 

كما روى أن الرسول – عليه الصلاة والسلام – أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيًا، فقال له: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء»، قال: «أقضي بكتاب الله»، قال: «فإن لم تجد في كتاب الله»، قال: «بسنة رسول الله»، قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله، ولا في كتاب الله»، قال: «أجتهد رأيي ولا آلو»، فقال – عليه السلام -: «الحمد لله، الذي وفَّق رسول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما يرضي رسول الله»[14].

 

مما يدل على إقراره – عليه الصلاة والسلام – لمعاذ على مشروعية الاجتهاد لاستنباط الحكم.

 

ولهذه الأدلة السابقة من القرآن الكريم والسنة، فإن الاجتهاد فرض كفاية على الأمة، وهو حق للمسلم القادر عليه، كما أن الاجتهاد أمر لا غنى عنه للوصول إلى حكم الله – عز وجل – في الحوادث والوقائع؛ وذلك لأن النصوص والأدلة الشرعية قد تكون ظنية الدلالة، فتكون مجالاً للاجتهاد للوصول إلى المراد من المعنيين الذين يحتملها النص، (و) قد يكون الدليل (من القرآن أو السنة) عامًّا، وقد يكون مطلقًا، وقد يكون أمرًا أو نهيًا؛ كما يدل على حكم بعباراته أو إشاراته، أو اقتضائه والوقوف على الحكم عند هذه الأحوال، كلها يحتاج إلى بحث ونظر من المجتهد: هل العام على عمومه؟ أم هناك تخصيص؟ وهل الأمر أريد به الوجوب أو مصروف عنه بقرينة، وهل النهي أريد به التحريم أو مصروف عنه؟ (كما أن الاجتهاد لازم لمعرفة) وصول الدليل إلينا، ودرجة سنده ومبلغ رواته من العدل والضبط والثقة والصدق[15].

 

كما تتأكد فريضة الاجتهاد بسبب كون الاجتهاد ضروريًّا لمعرفة حكم الله تعالى في الوقائع والحوادث التي تتجدد على مر العصور والأزمان، وعلى اختلاف الأماكن، والتي لا سبيل لحصرها؛ حيث إنه دون الاجتهاد يقف التشريع الإسلامي عن مسايرة تطورات الحياة السياسية والاجتماعية، وتتعطل مصالح الأمة، وفي ذلك ضرر عظيمة وفساد كبير.

 

كما تتأكد فريضة الاجتهاد على الأمة بسبب كمال الشريعة وخلودها، وكون شريعة الإسلام عامة، فلا يختص بها قبيل من البشر دون قبيل، (أو) جيل دون جيل، وأفعال البشر على اختلاف أجناسهم، وتعاقب عصورهم، لا تنتهي إلى حد ولا تدخل تحت حصر[16].

 

ولأهمية الاجتهاد القصوى في حياة الأمة والدولة الشرعية، يصبح واجبًا على الدولة الشرعية تهيئة وسائل الاجتهاد، عن طريق نشر العلوم والمعارف الشرعية، وفتح مراكز البحث العلمي ودور الكتب، وإتاحة الفرصة للنابغين والعباقرة في إبراز مواهبهم؛ حيث إن الدولة الإسلامية.

 

اقرأ أيضا  انتفاضة الأسرى.. إسرائيل تصيب عشرات الفلسطينيين بالضفة

لا تستغني عن وجود جماعة من أهل الاجتهاد الذين استكملوا شرائطه، وتوفرت لهم القدرة التامة، يرجع إليهم في فَهم نصوص القانون الإلهي وفي تشريع الأحكام لما يحدث من الأقضية والحوادث، وما يطرأ من المصالح والحاجات[17].

 

ومن المحقق أن غلْق باب الاجتهاد في القرن الرابع الهجري، أدى إلى ضَعف الدولة الإسلامية وعجزها عن مواكبة ظروف التقدم؛ مما سهل للاستعمار الغربي فيما بعد القضاء على كيان الدولة الإسلامية، عن طريق إقصاء التشريع الإسلامي عن واقع الحياة[18].

 

وقد ذكر الفقهاء أنه على الرغم من أهمية الاجتهاد ووجوبه الكفائي على الأمة، فإنه مع ذلك لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص الشرعي قاطع الثبوت قاطع الدلالة؛ حيث إنه عند ورود ذلك النص، فالواجب تنفيذ ما دل عليه النص، ومتى كان النص قطعيًّا في ثبوته ودلالته على المعنى المراد، فإنه يخرج بذلك من دائرة البحث والنظر فيه اجتهادًا؛ ولذا لا يجوز الاجتهاد فيما علم من الدين بالضرورة؛ كأصول الإيمان، وكوجوب الصلاة والزكاة، وتحريم موالاة الكفار، أو في الأحكام المفسرة المبينة التي تدل على المراد دلالة واضحة؛ نحو: عدد ركعات الصلاة، وأنصبة الزكاة، وحد السارق والزاني، ونحو ذلك[19].

 

وقد فصل علماء الأصول في الشروط التي ينبغي توفرها في المجتهد، وذكروا منها الإسلام، العدالة، المعرفة بالقرآن الكريم والسنة، ومواقع الاجتماع، وعلوم اللغة العربية وألفاظها العرفية والشرعية، ووجوه القياس، والناسخ والمنسوخ… إلى غير ذلك[20].

 

ومقصود كل تلك الشروط توفر القدرة على الاجتهاد الصحيح لدى المسلم، وبهدف الاحتراز من الغلط في الفهم والخطأ في الاستنتاج.

 

ومن هذا العرض لواقع التشريع والاجتهاد في التصور الإسلامي، تظهر مناسبة التشريع لمعالجة وقائع الحياة في كافة العصور؛ حيث حل التشريع الإسلامي صفة الديمومة بالنظر إلى شموله لقواعد عامة وأصول تشريعية خالدة للمجتمعات البشرية وللإنسان؛ من حيث هو إنسان لا تختلف حاجاته وغرائزه العضوية والروحية من عصر لعصر، أو من مكان آخر، مع ترك الإسلام المجال مفتوحًا لاستنباط الأحكام الشرعية الملائمة لما يستجد من وقائع في حياة الإنسان، نتيجة لتغير الظروف الاجتماعية أو السياسية، أو غير ذلك، عن طريق الاجتهاد في تلك القواعد والأصول والنصوص الشرعية، والتي تتسع لاستنباط أحكام كثيرة، وتنطبق على مسائل متعددة.

 

ولقد اتَّسمت شريعة الإسلام لذلك، بمزايا لم تتحقق لأي تشريع آخر؛ حيث تحقق خلودها بحفظ مصادرها من قرآن وسنة، خلال العصور المتوالية منذ بعت الرسول – عليه الصلاة والسلام – دون تغيير أو تبديل، وحصرت المصادر في الأدلة الشرعية التي جاء بها الوحي فقط، وبذلك لا تقبل مصادر ونصوص الشريعة زيادة أو نقصانًا من أقوال الرجال أو اجتهادات الفقهاء، كما أن النصوص والقواعد الشرعية اشتملت على علل شرعية تجعلها غزيرة في معانيها؛ مما يسمح باستنباط أحكام لكل واقعة تتحقق فيها هذه العلل، مهما تجددت هذه الوقائع أو اختلفت الأحوال والظروف، كما سنبين لاحقًا.

 

هذا بالإضافة إلى سمو مقاصد التشريع، وإقامة البراهين العقلية للناظرين وأُولي الألباب على صحة أصولها، وبُطلان كل ما يخالفها.

اقرأ أيضا  جولة دونالد ترامب في المنطقة العربية وانعكاساتها المستقبلية (2-3)

 


[1] د. علي جريشة؛ إعلان دستوري إسلامي، المنصورة، دار الوفاء للطباعة والنشر، 1405 – 1985، ص 16.

[2] لمزيد من التفسيرات في قضية التشريع والحاكمية راجع سيد قطب،في ظلال لقرآن، الجزء الثالث، بيروت، دار الشروق، 1400 – 1980، ص 1180 – 1185.

[3] سورة يونس آية 59.

[4] سورة الانعام آية 140.

[5] سورة التوبة الآية 29.

[6] سورة الانعام آية 114.

[7] سورة الاعراف آية 54.

[8] سورة الانعام آية 148.

[9] سورة النساء آية 83.

[10] سورة التوبة آية 122.

[11] سورة النساء آية 59.

[12] فخر الدين محمد الرازي؛ المحصول في علم أصول الفقه، الجزء الثاني، الرياض، مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1401 – 1981، ص 7 و 39.

[13] رواه البخاري، ابن الأثير، جامع الاصول من أحاديث الرسول، الجزء العاشر، بيروت، دار احياء التراث العربي، 1400 – 1980، ص 548.

[14] المرجع السابق، ص 551.

[15] بدران أبو العينين بدران؛ أصول الفقه الإسلامي، الإسكندرية،مؤسسة شباب الجامعة، 1974، ص 274.

[16] محمد الخضر حسين؛ رسائل الإصلاح، الجزء الثاني، الدمام، دار الاصلاح، (بدون تاريخ نشر)، ص 111.

[17] عبدالوهاب خلاف؛ السياسة الشرعية، بيروت، مؤسسة الرسالة 1404 – 1984، ص 45.

[18] الدعوة إلى غلق باب الاجتهاد ظهرت في أواخر القرن الرابع الهجري؛ لتخوف العلماء من ضعف الوازع الديني؛ مما قد يؤدي إلى هدم صرح الفقه الذي وضعه الأئمة السابقون، ولإغلاق الباب أمام من ليس أهلاً للاجتهاد، وقطع الطرق على الفرق والمذاهب التي كثرت، وفي القرن الثامن ظهر علماء كابن تيمية، وقرروا بقاء باب الاجتهاد مفتوحًا لمن كان أهلاً له، يراجع في ذلك: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية وبحوث أخرى، من البحوث المقدمة لمؤتمر الإسلامي، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، إدارة الثقافة والنشر، 1404 – 1984، ص 193.

[19] بدران أبو العينين بدران؛ أصول الفقه الإسلامي، مرجع سابق، ص 475.

[20] راجع الرازي؛ المحصول، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص 30 – 36.


المصدر: الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.