تكوين الجماعة المؤمنة وإعدادها لمواجهة الأحداث
الإثنين،11 ربيع الاول 1435ه الموافق 13 كانون الثاني /يناير2014م وكالة معراج للأنباء “مينا”.
الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
وهنا نضع بعض المعالم والإشارات التي نحسب أنها تؤهل الأمة الإسلامية للسير حثيثًا نحو إقامة حكم الله في الأرض، والتمكين لدينه.
أولاً: تكوين الجماعة المؤمنة وإعدادها لمواجهة الأحداث:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم فأقام دولة الإسلام بعد صبر وثبات، وبعد أن عمل على تكوين الجماعة المؤمنة، التي تحمل هذا المنهج الرباني للعالمين، وأعدها إعداداً كبيراً وبديعاً لمواجهة الأحداث والتقلبات التي أقامها المعسكر الجاهلي ضد الإسلام ودعوته الراشدة، وهذا هو الواجب على الأمة الإسلامية اليوم، وفي ظل هذه المتغيرات الكبيرة.
وقد تصدى الغرب الصليبي، والعقل الصهيوني اليهودي، والمعسكر الشرقي والشيوعي، لمواجهة دعوة الإسلام المتمثلة في هذه الصحوة الإسلامية ودعاتها وطلبة العلم فيها وغيرهم، هذه الدعوة التي أذن الله لها أن تتناثر في ربوع العالم كله شرقاً وغرباً، بل وفي العالم الغربي والأوربي والشرقي والشيوعي.
وهذا من وعد الله تعالى بأن يظهر الإسلام على الدين كله، ولن تستطيع أي قوة في الأرض أن تقف له، أو أن تمنعه من الزحف والتقدم إلى قلوب الناس مهما كان شأنها وسلطانها كما أخبر بذلك في كتابه العزيز: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾ [الفتح: 28].
ومن هنا وجب على الدعاة إلى الله والساعين لوعد الله تعالى بإيجاد وتكوين هذه الجماعة التي تقود الناس وتسوسهم بهذا الدين العظيم، وهذا التكوين للجماعة المؤمنة يعني الشيء الكثير:
1- إنه يعني التربية على العقيدة الصحيحة، التي تستمد من كتاب الله وسنة رسوله وصحابته رضي الله عنهم، هذه العقيدة التي غرست منابع الإيمان في قلوبهم، وجعلت من الإيمان زاداً لهم، فاستعلوا بعقيدتهم على دنايا النفوس وشهواتها، واستعلوا بها على دنايا الدنيا وزخارفها الفانية، واستعلوا بها على طواغيت الظلم وأساطين الفساد، واستعلوا بها على المناصب والسلطان، فكانوا هم الأعلون بإيمانهم، والأعلون بعقيدتهم كما قال تعالى: ﴿ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 35]، وقال تعالى: ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]، وقال أبو الحسن الندوي رحمه الله: “بهذا الإيمان الواسع العميق والتعليم النبوي المتقن، وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة وبشخصيته الفذة، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا تخلق جدته، بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الإنسانية المحتضرة حياة جديدة.
عمد إلى الذخائر البشرية وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف أحد غناءها، ولا يعرف محلها وقد أضاعتها الجاهلية والكفر والإخلاد إلى الأرض فأوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة وبعث فيها الروح الجديدة، وأثار من دفائنها وأشعل مواهبها، ثم وضع كل واحد في محله فكأنما خلق له، وكأنما كان المكان شاغراً لم يزل ينتظره ويتطلع إليه، وكأنما كان جماداً فتحول جسماً نامياً وإنساناً متصرفاً وكأنما كان ميتاً لا يتحرك فعاد حياً يملي على العالم إرادته وكأنما كان أعمى لا يبصر الطريق فأصبح قائداً بصيراً يقود الأمم: ﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾[الأنعام: 122].
عمد إلى الأمة العربية الضائعة وإلى أناس من غيرها فما لبث العالم أن رأى منهم نوابغ كانوا من عجائب الدهر وسوانح التاريخ، فأصبح عمر الذي كان يرعى الإبل لأبيه الخطاب وينهره وكان من أوساط قريش جلادة وصرامة، ولا يتبوأ منها المكانة العليا، ولا يحسب له أقرانه حساباً كبيراً، إذا به يفجأ العالم بعبقريته وعصاميته[1]، ويدحر كسرى وقيصر عن عروشهما ويؤسس دولة إسلامية تجمع بين ممتلكاتهما وتفوقهما في الإدارة وحسن النظام فضلاً عن الورع والتقوى والعدل الذي لا يزال فيه المثل السائر.
وهذا ابن الوليد كان أحد فرسان قريش الشبان انحصرت كفاءته الحربية في نطاق محلِّيٍ ضيق يستعين به رؤساء قريش في المعارك القبلية فينال ثقتهم وثناءهم، ولم يحرز الشهرة الفائقة في نواحي الجزيرة، إذ به يلمع سيفاً إلهياً لا يقوم له شيء إلا حصده، وينزل كصاعقة على الروم والفرس ويترك ذكراً خالداً في التاريخ.
وهذا أبو عبيدة كان موصوفاً بالصلاح والأمانة والرفق ويقود سرايا المسلمين إذا به يتولى القيادة العظمى للمسلمين ويطرد هرقل من ربوع الشام ومروجها الخضراء ويلقي عليها الوداع ويقول: سلام على سورية سلاماً لا لقاء بعده.
وهذا عمرو بن العاص كان يُعد من عقلاء قريش وترسله في سفارتها إلى الحبشة تسترد المهاجرين المسلمين فيرجع خائباً إذا به يفتح مصر وتصير له صولة عظيمة. وهذا سعد بن أبي وقاص لم نسمع به في التاريخ العربي قبل الإسلام كقائد جيش ورئيس كتيبة، إذا به يتقلد مفاتيح المدائن، وينيط باسمه فتح العراق وإيران.
وهذا سلمان الفارسي كان ابن موبذان في إحدى قرى فارس لم يزل يتنقل من رق إلى رق ومن قسوة إلى قسوة إذا به يطلع على أمته كحاكم لعاصمة الإمبراطورية الفارسية التي كان بالأمس أحد رعاياها، وأعجب من ذلك أن هذه الوظيفة لا تغير من زهادته وتقشفه فيراه الناس يسكن في كوخ ويحمل على رأسه الأثقال.
وهذا بلال الحبشي يبلغ من فضله وصلاحه مبلغاً يلقبه فيه أمير المؤمنين عمر بالسيد، وهذا سالم مولى أبي حذيفة يرى فيه عمر موضعاً للخلافة يقول: لو كان حياً لاستخلفته. وهذا زيد بن حارثة يقود جيش المسلمين إلى مؤتة وفيه مثل جعفر بن أبي طالب وخالد بن الوليد، ويقود ابنه أسامة جيشاً فيه مثل أبي بكر وعمر. وهذا أبو ذر والمقداد وأبو الدرداء وعمار بن ياسر ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب، تهب عليهم نفحة من نفحات الإسلام فيصبحون من الزُّهاد المعدودين والعلماء الراسخين.
وهذا علي بن أبي طالب وعائشة وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس قد أصبحوا في أحضان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم من علماء العالم يتفجر العلم من جوانبهم وتنطق الحكمة على لسانهم، أبّر الناس قلوباً وأعمقهم علماً وأقلهم تكلفاً، يتكلمون فينصت الزمن ويخطبون فيسجل قلم التاريخ“[2].
2- كما أن التكوين للجماعة المؤمنة يعني الاهتمام بالعلم الشرعي والنافع في جميع مجالات الحياة، وإحياءه، والحث عليه، والازدياد منه، فأمة لا تعرف العلم أمة جاهلة، وأمة لا تتعلم أمة محكوم عليها بالفناء والنسيان، وأمة لا تعرف أمر الله وأمر رسوله، أمة لا تنصر ولا تمكن ولا تكون لها سيادة ولا قيادة.
إن أول آيات تنزلت في رسالة هذه الدعوة كانت تأمر بالقراءة والعلم، وتحث على كشف مغاليق العلوم التي أودعها الله في الإنسان والكون كما قال تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1-5]، ولا تخفى علينا مكانة العلم والعلماء عند الله تعالى.
فالواجب أن تعني الأمة الإسلامية على القيام بتعليم أبناءها العلم الشرعي المتعلق بالكتاب والسنة، والعمل على إحياء هذه العلوم بين طلبة العلم تعلمًا وتعليمًا، وشرحًا وتفهيمًا، وحفظًا وإتقانًا، حتى تسري فيها روح العلم بنور الوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فتحيى به القلوب الموات، وتسعد النفوس الحزينة، ويعود لنا أحفاد الصحابة والتابعين، وأحفاد عمر وابن عباس وابن ومسعود وخالد وأبو عبيدة رضي الله عنهم أجمعين، ونعني بعلم الكتاب والسنة ما يلي:
أما علم الكتاب:
فيتمثل في طلب العلوم القرآنية التي تدلنا على معاني القرآن، وعلى ناسخه ومنسوخه، وعلى المحكم والمتشابه، وعلى معرفة أسباب نزول القرآن، ونوجزها فيما يلي:
1- علم التجويد وأدب التلاوة خاصة في الجانب العملي.
2- علم أسباب النزول وأمكنة النزول لفهم وقائع وأسباب نزول القرآن.
3- علم الناسخ والمنسوخ ليُفهم الحكم الناسخ والمنسوخ عند العمل به.
4- علم الرسم العثماني.
5- علم القراءات المتواترة وغيرها.
6- علم غريب القرآن.
7- علم التفسير بأقسامه وهو من أجل علوم القرآن لفهم مراد الله تعالى.
8- علم ترجمة القرآن.
9- علم الفهارس القرآنية. هذه أهم علوم الكتاب المطلوب العودة إليها تعلمًا وتعليمًا، وحفظًا وإتقانًا باختصار.
أما علم السنة:
أما بالنسبة إلى علم السنة النبوية فهو لا يقل أهمية عن الحديث عن القرآن وعلومه، لأن السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، ولأنها أيضًا هي المفسرة للقرآن والمبينة لمجمله، ولمبهمه، ولخاصه ولعامه، ولأن كتاب الله لا يفهم غالبًا إلا من خلالها بالتبيين الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه بعض علوم السنة الهامة، والتي يحتاج إليها طالب العلم والباحث عن المعرفة الصحيحة:
1- علم الجرح والتعديل.
2- علم معرفة الصحابة وأحوالهم.
3- علم تاريخ الرواة وحياتهم.
4- علم معرفة الأسماء والألقاب والكنى.
5- علم مصطلح الحديث ومعرفة الصحيح والحسن والضعيف، وكذا معرفة المتواتر والآحاد، والموضوع وأقسامه وغيرها.
6- علم الناسخ والمنسوخ في السنة وما يترتب عليها من أحكام شرعية.
هذه أهم العلوم المتعلقة بالكتاب والسنة ولا مجال هنا للكلام عن كل العلوم، ولكن ينبغي الاهتمام أولا بهذين الأصلين ثم بالعلوم الموصلة إليهما والمستنبطة منهما وعلوم أصول الفقه والاستدلال، وعلوم اللغة والسير والتاريخ والفرق والمذاهب، وغيرها كثير، إلى جانب العلوم الأخرى كالطب والحساب والفلك والكيمياء وغيرها أيضاً، فمعرفة هذه العلوم تبني عقول الأمة بالمعرفة الصحيحة بربها ودينه وشريعته، وتنبني المعرفة الصحيحة بالكون وخالقه، فلا ينبغي الإهمال والإعراض عن هذا النور الرباني الذي قال الله فيه: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].
3- كما أن التكوين للجماعة المؤمنة يعني العمل بما أوجبه الله تعالى ورسوله في الكتاب والسنة، وأن تحول الجماعة المؤمنة هذا العلم، إلى واقع عملي في كل شؤون حياتها، وأن يكون العمل بهما شعار المؤمنين، ومنهاج حياتهم، ودستور أخلاقهم.
إن على أفراد أمتنا أن تأخذ بجد وعزيمة على أنفسها أحكام القرآن، وكذلك أحكام السنة موضع العمل الحياتي الواقعي، فلا تكتفي بإلقاء الخطب والمحاضرات، ونشر الكتب الإسلامية والأشرطة والمجلات الدعوية.
بل لابد لهذا الدين من واقع يسري فيه، وحياة يعمل فيها، كما تصوره وكانه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد تمثلوا الكتاب والسنة واقعًا عمليًا، ومنهاجًا هاديًا، وأخلاقًا كريمة، وآدابًا كاملة، وحبًا صادقًا، والتاريخ الإسلامي حافل بذلك المداد النوراني العظيم، قال سبحانه وتعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 23]. وهكذا كان السلف والتابعون من بعدهم عاملين بالكتاب والسنة متحاكمين إليهما، آخذين بأحكامهما حتى سعدوا دنيا وأخرى رضي الله عنهم أجمعين.
إن اتباعنا للقرآن ملزم لنا عملاً أن نتدبره حينما نتلوه، وأن نتفهم آياته ومعانيه، كما قال سبحانه: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ﴾ [ص: 29]. وملزم لنا العمل به في حياتنا كلها سواء في مأكلنا ومشربنا، وفي ملبسنا وفي مدخلنا ومخرجنا، وفي أفراحنا وأتراحنا، وفي الرخاء والشدة، وفي السلم والحرب، وفي كل مناحي حياتنا وضروبها، هكذا نتمثله واقعًا كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قرآنًا يمشي على الأرض.
وكان أيضًا النموذج العملي والقدوة الهادية في العمل بالسنة، في حياته وحتى مماته، وكذا نحن ملزمون بذلك كما قال سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ﴾[الأحزاب: 21].
بهداه أيها الداع اقتده واتبع الأخرى وأخلص في العمل |
لقد علمنا النبي عليه الصلاة والسلام السنة الكاملة في جميع شؤوننا، في مأكلنا ومشربنا، وفي سفرنا وإقامتنا، وفي سلمنا وحربنا، وفي شدتنا ويسرنا، وفي نومنا ويقظتنا، علمنا كل ذلك وأكثر من ذلك ومن شاء العلم والعمل فليرجع إلى كتب السنة النبوية من الصحاح والمسانيد والسنن، فإن فيها الخير الكثير، وأيسر الكتب الدالة على هديه وفضله كتاب زاد المعاد لابن القيم، والأذكار ورياض الصالحين للإمام النووي رحمهما الله تعالى.
والخلاصة: أن الواجب علينا أن نجعل العمل بالكتاب والسنة شعارنا في كل أمورنا وأحوالنا.
4- كما أن التكوين للجماعة المؤمنة يعني أن تقوم بواجبها نحو ربها ودينها بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإن الدعوة إلى الكتاب والسنة قولاً وعملاً، فهمًا وتطبيقًا، ليست من ضروب التطوع، كلا بل هي فرض على كل مسلم مكلف كل بحسبه؛ لأنها دعوة إلى الله ورسوله، وهي دعوة إلى الاعتصام بالإسلام كله في عقائده وعباداته، وفي سلوكه وأخلاقه، وفي حياته ومعاملاته، فهي لازمة على المسلم.
وهي كذلك جزء كبير من حمله رسالة التوحيد والهدي إلى جميع الخلق كل على قدر استطاعته وفي حدود إمكانياته المتاحة، وعلى قدر فهمه وعلمه، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
فأتباع النبي صلى الله عليه وسلم هم المؤمنون به، يدعون إلى الله على بصيرة، أي على علم ويقين، كما كان رسول الله يدعو إلى الله على بصيرة ويقين، ومن ذلك أن من اللوازم الضرورية لإيمان المسلم أن يدعو إلى الله، فإذا تخلف عن الدعوة، أو قصر في واجبها دل ذلك على وجود نقص وخلل في إيمانه يجب عليه تداركه بالقيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى.
إذًا الأمة الإسلامية بمجموع أفرادها شركاء في هذه الوظيفة الربانية مطالبون بها، لأنها تقوم بواجبها الذي فرضه الله عليها وأمرها به في نشر المبادئ السامية، والقيم الأخلاقية، والمفاهيم الإسلامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع كونها متمسكة بهذه المبادئ والأصول، وتلك الأخلاق والفضائل قال الله عز وجل: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ﴾ [آل عمران: 110].
وإن من عجيب الأمر أن ترى أتباع الإلحاد والزندقة والعلمنة، وكذلك التنصير لهم دعاة يتحركون في كل أرجاء الأرض، من مبشرين ومنصرين وغيرهم، ويحملون هم ذلك مع أنهم على الباطل. أما أهل الحق والتوحيد فهم في غياهب الغفلات، وفي أودية الشهوات، لا يحملون هم هذا الدين، ولا هم الدعوة إليه، إلا القلة القليلة المؤمنة، التي نحسبها على الخير، ولا نزكيها على الله تعالى، فمن هنا ينبغي أن نعلم أننا مكلفون بهذا الأمر، وهذه الأمانة، فمن الواجب علينا نحن أمة الإسلام، أن نتحرك، وأن ندعو إلى الحق الذي نحمله.
إن العمل للإسلام أصبح اليوم ضرورة ملحة لمواجهة التحديات القائمة، والمؤامرة الكبيرة التي تحاك للنيل من الإسلام وأهله، وإن مسئولية العمل للإسلام واجب تكليفي شرعي، تعد مسئولية فردية، فمن لم يحمل هم المسلمين فليس منهم، كما هي واجب جماعي من حيث الحركة التنفيذية، إنه لا ينبغي على المسلم أن يعيش لشهوات نفسه وملذاتها فقط، بل إنه خلق ليقيم رسالة الله في أرضه وعبادته، ويقيم خلافته الراشدة، فعلى المسلم أن يعيش للإسلام وللإيمان، لا أن يعيش للدنيا والشهوات، بل يشارك في حمل هذا العبء الثقيل ليكون أهلاً لرضوان الله في الآخرة وليكون أهلاً لكرامته.
5- كما أن التكوين للجماعة المؤمنة يعني الاستجابة لله والرسول وحسن السمع والطاعة، فلا مخالفة ولا معارضة ولا مجادلة لحكم الله والرسول، لأن هذه علامة الإيمان الصادق في القلوب كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24]. وقال تعالى: ﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ ﴾ [الشورى: 47]، وقال تعالى أيضاً: ﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 20]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[النور: 51].
6- كما أن التكوين للجماعة المؤمنة يعني أن يقوم الشباب المسلم بدورهم الكبير في نصرة هذا الدين، والتمكين له وذلك من خلال التربية والإعداد الصحيح لهؤلاء الشباب. لقد أعلى الإسلام من مكانة الشباب، وأكثر من الاهتمام بهم وبتربيتهم على العقيدة الصحيحة، والأخلاق الطيبة، واطلب العلم النافع، والعمل لخدمة ونصرة الإسلام، والقرآن فيه من ذكر الشباب المؤمن والثابت على مبادئه ودعوته الكثير، فنبي الله يوسف بن يعقوب – عليهما السلام – مثال جليل، حتى أنه كان يدعوا السجناء معه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وشباب أصحاب الكهف الذين وصفهم الله تعالى بأنهم فتية آمنوا بربهم، وغلام أصحاب الأخدود وقصته المعروفة.
أما السيرة والسنة ففيهما الشيء الكثير من أمثال عبد الله بن عباس وابن عمر ومصعب بن عمير وغيرهم كثير، والنصوص في هذا كثيرة بحمد الله. ولكن المتأمل اليوم إلى واقع الشباب المسلم يرى أن شباب الإسلام اليوم يهيمون في واد من المشكلات التي تشغل تفكيره وتفسده و تؤخره إلى مستوى راجعي لا يليق بشاب مسلم، و هذا حال غالب الشباب اليوم ليس جلهم، كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى[3]: “و الشباب اليوم ثلاثة أقسام:
أما القسم الأول من الشباب: فشباب منحرف في عقيدته متهور في سلوكه، مغرور بنفسه، منغمر في رذائله، لا يقبل الحق من غيره ولا يمتنع عن باطل فى نفسه، أناني في تصرفه، كأنما خلق للدنيا وخلقت الدنيا له وحده. شباب عنيد لا يلين للحق ولا يقلع عن الباطل.
شباب لا يبالي بما أضاع من حقوق الله، ولا من حقوق الآدميين. شباب فوضوي فاقد الاتزان في تفكيره، وفاقد الاتزان في سلوكه وفي جميع تصرفاته، شباب معجب برأيه كأنما يجري الحق على لسانه، فهو عند نفسه معصوم من الزلل، أما غيره فمعرض للخطأ والزلل مادام مخالفاً لما يراه.
شباب ناكب عن الصراط المستقيم في دينه، وناكب عن التقاليد الاجتماعية في سلوكه، ولكنه قد زين له سوء عمله فرآه حسناً فهو من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا فهو شؤم على نفسه، ونكبة على مجتمعه، يجر أمته إلى أسفل السافلين ويحول بينها وبين العزة والكرامة، جرثومة وبيئة قاتلة صعبة العلاج، إلا أن يشاء الله، والله على كل شيء قدير.
وأما القسم الثاني من الشباب: شباب حائر متردد بين مفترق الطرق عرف الحق وأطمأن به وعاش في مجتمع محافظ، إلا أنه انفتحت عليه أبواب الشر من كل جانب. تشكيك في العقيدة، وانحراف في السلوك، وفساد في العمل وخروج عن المعروف من التقاليد، وتيارات من الباطل متنوعة، فهو في دوامة فكرية ونفسية.
وقف أمام هذه التيارات حيران لا يدري هل الحق فيما حدث وجد من هذه الأفكار والمبادئ والمسالك، أو فيما كان عليه سلفه الماضي ومجتمعه المحافظ، فصار متردداً قلقاً يرجح هذا تارة وذاك أخرى.
فهذا القسم من الشباب سلبي في حياته، يحتاج إلى جاذب قوي يقوده إلى حظيرة الحق وطريق الخير، وما أيسر ذلك إذا هيأ الله له داعيه خير ذا حكمة وعلم ونيه حسنة. وهذا القسم يكثر في شباب نالوا بعضاً من الثقافة الإسلامية لكنهم درسوا كثيراً من العلوم الكونية الأخرى التي تعارض الدين في الواقع أو في ظنهم فوقفوا حيارى أمام الثقافتين ويمكنهم التخلص من هذه الحيرة بالتركيز على الثقافة الإسلامية وتلقيها من منبعها الأصلي الكتاب والسنة على أيدي العلماء المخلصين وما ذلك عليهم بعزيز“[4].
“أما القسم الثالث فهم الشباب المستقيم: شباب مؤمن بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فهو مؤمن بدينه إيمان محب له، ومقتنع به، ومغتبط به، يرى الظفر به غنيمة، والحرمان منه خسراناً مبيناً.
شباب يعبد الله مخلصاً له الدين وحده لا شريك له. شباب يتبع رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم في قوله وعمله، فعلا وتركاً، لأنه يؤمن بأنه رسول الله وأنه الإمام المتبوع. شباب يقيم الصلاة على الوجه الأكمل بقدر ما يستطيع، لأنه يؤمن بما في الصلاة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية، الفردية والاجتماعية، وما يترتب علي إضاعتها عواقب مخيمة للأفراد والشعوب.
شباب يؤتي الزكاة إلى مستحقيها كاملة من غير نقص، لأنه يؤمن بما فيها من سد حاجة الإسلام والمسلمين مما اقتضى أن تكون به أحد أركان الإسلام الخمسة.
شباب يصوم شهر رمضان فيمتنع عن شهواته ولذاته إن صيفاً وإن شتاءُ؛ لأنه يؤمن بأن ذلك في مرضاة الله فيقدم ما يرضاه ربه على ما تهواه نفسه. شباب يؤدي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام؛ لأنه يحب الله فيحب بيته والوصول إلى أماكن رحمته ومغفرته، ومشاركة إخوانه المسلمين القادمين إلى تلك الأماكن.
شباب يؤمن بالله خالقه وخالق السموات والأرض، لأنه يرى من آيات الله سبحانه ما لا يدع مجالا للشك والتردد في وجود الله. فيرى في هذا الكون الواسع البديع في شكله ونظامه ما يدل دلالة قاطعة على وجود مبدعه وعلى كمال قدرته وبالغ حكمته؛ لأن هذا الكون لا يمكن أن يوجد نفسه بنفسه ولا يمكن أن يوجد صدفة لأنه قبل الوجود معدوم والمعدوم لا يكون موجداً لأنه هو غير موجود.
ولا يمكن أن يوجد صدفة، لأنه ذو نظام بديع متناسق لا يتغير ولا يختلف عن السنة التي قدر له أن يسير عليها:﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ [فاطر: 43]، ﴿ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسيرٌ ﴾ [الملك: 3-4]. وإذا كان هذا الكون على نظام بديع متناسق امتنع أن يكون وجوده صدفة؛ لأن الموجود صدفة سيكون انتظامه صدفة أيضاً، فيكون قابلاً للتغير والاضطراب في أي لحظة.
شباب يؤمن بملائكة الله؛ لأن الله أخبر عنهم في كتابه، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخبر عنهم في السنة. وفي الكتاب والسنة من أوصافهم وعباداتهم وأعمالهم التي يقومون بها لمصلحة الخلق ما يدل دلالة قاطعة على وجودهم حقيقة.
شباب يؤمن بكتب الله التي أنزلها على رسله هداية إلى الصراط المستقيم؛ لأن العقل البشري لا يمكنه إدراك التفاصيل في مصالح العبادات والمعاملات.
شباب يؤمن بأنبياء الله ورسله الذين بعثهم الله إلى الخلق يدعونهم إلى الخير ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وأول الرسل نوح وآخرهم محمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
شباب يؤمن باليوم الآخر الذي يبعث الناس فيه أحياء بعد الموت ليجازوا بأعمالهم ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8] لأن ذلك نتيجة الدنيا كلها فما فائدة الحياة وما حكمتها إذا لم يكن للخلق يوم يجازى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
شباب يؤمن بالقدر خيره وشره، فيؤمن بأن كل شيء بقضاء الله وقدره مع إيمانه بالأسباب وآثارها، وأن السعادة لها أسباب والشقاء له أسباب.
شباب يدين بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فيعامل المسلمين بالصراحة والبيان، كما يحب أن يعاملوه بهما، فلا خداع ولا غش ولا التواء ولا كتمان.
شباب يدعوا إلى الله على بصيرة حسب الخطة التي بينها الله في كتابه: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
شباب يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ لأنه يؤمن أن في ذلك سعادة الشعوب والأمة ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]، شباب يسعى في تغيير المنكر على النحو الذي جاء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من رأى منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه“.
شباب يقول الصدق ويقبل الصدق، لأن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً.
شباب يحب الخير لعامة المسلمين؛ لأنه يؤمن بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه“.
شباب يشعر بالمسئولية أمام الله وأمام أمته ووطنه، فيسعى دائماً لما فيه مصلحة الدين والأمة والوطن بعيداً عن الأنانية، ومراعاة مصلحته الخاصة على حساب مصلحة الآخرين، شباب يجاهد لله وبالله، يجاهد بالإخلاص له فلا رياء ولا سمعة ويجاهد بالله مستعيناً به غير معجب بنفسه ولا معتمد على حوله وقوته، ويجاهد في الله في إطار دينه من غير غلو ولا تقصير، يجاهد بلسانه ويده وماله حسبما تتطلبه حاجة الإسلام والمسلمين.
شباب ذو خلق ودين، فهو مهذب الأخلاق، مستقيم الدين، لين الجانب رحب الصدر، كريم النفس، طيب القلب صبور متحمل لكنه حازم لا يضيع الفرصة ولا يغلب العاطفة على جانب العقل والإصلاح، شباب متزن منظم يعمل بحكمة وصمت مع إتقان في العمل وجودة لا يضيع فرصة من عمره إلا شغلها بما هو نافع له ولأمته. ومع أن هذا الشباب محافظ على دينه وأخلاقه وسلوكه فهو كذلك بعيد كل البعد عما يناقض ذلك من الكفر والإلحاد والفسوق والعصيان والأخلاق السافلة والمعاملة السيئة.
فهذا القسم من الشباب مفخرة الأمة ورمز حياتها وسعادتها ودينها، وهو الشباب الذي نرجو الله من فضله أن يصلح به ما فسد من أحوال الإسلام والمسلمين وينير به الطريق للسالكين، وهو الشباب الذي ينال السعادة في الدنيا والآخرة“[5].
7- كما أن التكوين للجماعة المؤمنة يعني أن تقوم المرأة المسلمة بدورها الشرعي الكبير حقاً، في نصرة دعوة الإسلام وتربية جيل النصر والتمكين، وتقويم وبناء الأسرة المسلمة، التي تقف أمام كل محاولات التشكيك والتذويب والتغريب لها، وتصد كل ذلك بما لديها من عقيدة راسخة، وعبادة قويمة، وأخلاق سامية، وتشريعات جليلة، صاغها منهج الإسلام صيانة لها وتكريماً.
وقيام المرأة المسلمة بدورها الصحيح في تكوين الجماعة المؤمنة يعني أن تكون المرأة المسلمة صالحة مهتدية أولاً، مستقيمة على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – كما جاء في الحديث: “إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت“. حديث حسن.
وقيامها بدورها يعني أيضاً أن تكون على علم بكتاب الله وسنة رسوله، عالمة بشرع الله تعالى، بصيرة بأمر الشرع من الحلال والحرام، وبصيرة بالسنة النبوية، مميزة بين أهل السنن والاتباع، وأهل الباطل والابتداع، فهى متلقية للعلم، صحيحة في الفهم، بصيرة بالواقع، تتعلم القرآن وأحكامه، وتعرف حلاله وحرامه، وتفهم تفسير آياته على قدر استطاعتها، وكذلك ففي السنة، تفهم ما الصحيح منها وما الضعيف، وتميز بين الفرض والواجب، والمكروه والحرام، والمباح والمستحب.
وهكذا امرأة صاحبة علم وبصيرة قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾ [طه: 114]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
وقيامها بدورها يعني كذلك تربية الأولاد داخل الأسرة وفق منهج الكتاب والسنة، لأن بداية التمكين أن يربى جيل مسلم يعرف هذا المنهج، ويطبقه في واقعه قولاً وعملاً واعتقاداً.
فتربية الأولاد فريضة على الوالدين، لأنها أمانة الله ورسوله، ولأنها صيانة لهم من الضياع والانحراف عن منهج وشريعة الله تعالى، ولأنها عزة لهم وهداية في الدنيا والآخرة كما جاء في الحديث: “كلكم راع… والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤلة عن رعيتها… الحديث“.
فقيام المرأة بتربية أولادها له دور كبير في إنشاء دولة الإسلام وخلافته، وذلك حينما تربي أولادها على العقيدة الصحيحة، والعبادة المزكية، والأخلاق الكريمة، والمعاملة الصحيحة، والآداب النبيلة، والعزة بهذا الدين، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، والتحذير من الذنوب والمعاصي المهلكة، والتحذير من خطر الانحراف والتقليد الأعمى لكل مستغرب وكافر، والعمل للدعوة ونصرة هذا الدين، وطلب العلم النافع المقرب إلى الله تعالى.
8- كما أن التكوين للجماعة المؤمنة يعني تحرير الولاء والبراء لله ورسوله والمؤمنين، فلا ولاء ولا نصرة ولا محبة لكافر ولا لمشرك يحارب الله ورسوله وشريعته وعباده المؤمنين مهما كان قدره وشأنه كما قال تعالى: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[المجادلة: 22]. وكما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ [المائدة: 51 ،52].
وكما قال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [الممتحنة: 4]، وكما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 100 ،101].
9- كما أن التكوين للجماعة المؤمنة يعني إعداد الأنفس وتزكيتها بمنهج الله تعالى، إعداد تربوي شامل، وإعداد إيماني صحيح، وإعداد أخلاقي رفيع، وإعداد تعليمي واعي، وإعداد اقتصادي قوي، وإعداد عسكري مانع، كل هذا من الإعداد المأمور به شرعاً كما قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60].
10- كما أن التكوين للجماعة المؤمنة يعني بعد كل ذلك:تحقيق الصفات المنشودة في جيل التمكين الموعود. فجيل التمكين الرباني أهله يعيشون في الدنيا بقلوب أهل الآخرة، ويعيشون فوق الأرض وقلوبهم تهفو إلى رضا المولى عز وجل ودخول جناته، ورفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وأبرز ما يميزهم عن غيرهم أنهم مخلصون لله رب العالمين، فإذا جاءتهم الدنيا جعلوها في أيديهم ولم يدخلوها في قلوبهم، لا يعبدون الأشخاص، ولا الأهواء، ولا الطاغوت أيا كان فقد تبين لهم الرشد من الغي، فكفروا بالطاغوت وآمنوا بالله وحده فاستمسكوا بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
وجيل التمكين يشعر بمعية الله عز وجل، وهذا الشعور يدفع العبد المؤمن إلى الصدع بالحق ويطلق صاحبه الجبن والخوف والهلع، ويحدث في النفس انقلابا نفسيا في حياة الداعية، ولنتذكر حين قال أصحاب موسى: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ قال موسى – عليه السلام -: ﴿ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾[الشعراء: 62].
وجيل التمكين هو الذي أشار إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين قال: “بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس” رواه مسلم. والمسلم إذا شرح الله صدره للإسلام وملأ قلبه بالإيمان يستسهل كل صعب ويستعذب كل كدر، إن هذا الغريب يرسل للناس من الأشعة الهادية ما ينير لهم الطريق، فهي ليست غربة عزلة وفرار، ولكنها غربة رفعة وسمو وحرص على إيصال دعوته للجميع، فهو لا يعيش في برج عاج بعيدًا عن الناس، بل يتفاعل معهم ويحمل همومهم ويعاونهم في حل مشاكلهم، فالناس جزء منه وهو جزء منهم فلا يتصور أن يتعالى عليهم.
وجيل التمكين طلاب آخرة: لعلمهم بأن متاع الدنيا قليل وبأنه ينتهي ويزول﴿ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ [النساء: 77]، ولذلك تنشئ سعة في نفوسهم، ورقة في مشاعرهم، وتحررا من المادة وظلامها.
وجيل التمكين يجب أن يتربى على الحذر من معصية الله أكثر مما نحذر من أعداء الله، ويجب أن نخاف المعاصي، والمسالك التي تقرب منها سدا للذريعة وبعدا عن الفتنة واتقاء للشبهة، ونستغفر الله ونذكره كثيرا إذا وقعنا في معصية، فهذه ميزة الصالحين ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].
ورحم الله عمر الفاروق – رضي الله عنه – عندما وصى سعد بن أبي وقاص وهو في مسيره إلى حرب الفرس، فقال: “…
أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، وعدتنا ليست كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا ولن يسلط علينا وإن أسأنا، فرب قوم سلط عليم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل – لما عملوا بالمعاصي – كفار المجوس ﴿ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ﴾ [الإسراء: 5]. وسلوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم..” [6].
وجيل التمكين جيل الصدق، وهو سلوك وصف الله عز وجل به أنبياءه عليهم السلام: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا﴾ [مريم: 54]، واتصف به حبيبنا – صلى الله عليه وسلم – حتى قبل بعثته، ووصف به ربنا سبحانه الرجال، فقال تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ… ﴾ [الأحزاب: 23].
وجيل التمكين جيل الحب والإيثار، أي يرى الأخ أن إخوانه أولى به من نفسه، فهو يحب لهم الخير ويعمل على هدايتهم، ولابد أن يفصح لهم عن حبه لهم ويخبرهم به، وأن يترجمه لهم في تصرفاته، فإن هذا أدعى إلى التفاف الناس حوله واستجابتهم له. وأعلى مراتب الحب الإيثار وأدناها سلامة الصدر، وأن يكون لإخوانه كالبنيان يشد بعضه بعضا[7]، قال تعالى: ﴿وَإِن يُّرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ *وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 62، 63].
وجيل التمكين يجب أن يتولد لديه شعور ذاتي بمسئولية العمل للإسلام، واستعداد كامل لتلبية حاجات هذه المسئولية من النفس والجهد، فهو لا ينتظر التكليف الحركي لينهض بالأعباء والمسئوليات، وإنما يتولد في أعماقه شعور بالمسئولية ويجري في عروقه إحساس رباني بالتكليف.
فهذا أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – عندما التزم بالإسلام تفجرت فيه الذاتية الحركية فذهب إلى بلال بن رباح، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان والزبير بن العوام، ودعاهم للإسلام فأسلموا، وقد ذكر لنا القرآن الكريم قصة مؤمن آل فرعون وكيف قام بدعوة قومه إلى الإيمان بدعوة موسى عليه السلام.
وجيل التمكين جيل دعوة وجهاد: كما كان الصحابة من المهاجرين والأنصار لا يشغلهم جهاد عن جهاد ولا ميدان عن ميدان، فهم دائما في صراع متواصل مع الفجرة في الداخل والكفرة في الخارج، لا يلقون سلاحهم ولا يستريحون من كفاحهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
قد ترى أحدهم وهو العربي يقاوم الزحف الشيوعي الأحمر في أفغانستان، وترى آخر وهو أفغاني يقاتل الصرب في البوسنة، فالكفر ملة واحدة ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [الأنفال: 73]. ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [التوبة: 71]، يجاهدون في سبيل الله في كل معركة تطلبهم وبكل سلاح يمكنهم.
ذلكم هو الجيل الذي ننشده وتنشده معنا الأمة بكاملها، وهو الجيل الذي تعمل القوى العالمية على إجهاضه، وشغله عن معاركه ومعارك أمته الكبرى بمعارك جانبية تافهة، وإغراقه في دوامة من الجدل لا يخرج منها، إن هذا الجيل هو جيل النصر الذي تتحرر على يديه كل أرض دنسها الطواغيت والفجار، هو الذي ترتفع به راية الله في أرض الله، هذا الجيل هو الجدير بأن يتنزل عليه نصر الله عز وجل[8].
11- كما أن التكوين للجماعة المؤمنة يعني الصبر والثبات على منهج الله حتى النصر والتمكين، أو الموت والشهادة في سبيل الله تعالى كما ثبت السابقون الأولون من قبلنا، ويكون الصبر على الإيذاء والسخرية الذي يتعرض له الدعاة إلى الله، على طول الطريق، فإن طريق التمكين ليست بالسهلة اليسيرة، لأنها تحتاج إلى علم وحكمة وعمل، وكذا صبر دائم دؤوب.
لأن الابتلاء للدعاة والمصلحين سنة من سنن الله تعالى، ﴿ لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [الأنفال: 37]، فالدعاة يبتلون بأذى الكفرة والمشركين والملحدين والمنافقين بالقول والكيد والتعذيب، ونحن نرى كل يوم على صفحات الجرائد والصحف والمجلات التي تشرع للعهر والدعارة، وتعلن الحرب على مسلمات هذا الدين، وعلى الدعاة إلى الله، وتعمل على النيل منهم والتشهير بهم وتشويه صورتهم، وكل هذه الألوان من أنواع الابتلاء وسننه. إن البلاء قد يشتد بالدعاة إلى درجة كبيرة، ومع ذلك فهم صابرون محتسبون على طول الطريق وآلامه، وشعارهم في ذلك:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبدًا |
فعلى الداعية المسلم أن يقابل الأذى الذي يلقاه من أعدائه وخصومه بالصبر الجميل، فإن هذا الصبر، هو الطريق الثقيل لإعداد الرجال، وتربية الأبطال، وصناعة الأمة الإسلامية من جديد لذلك أمر به النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ابتداءً كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً ﴾[المزمل: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ ﴾ [النحل: 127].
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية يوم أن عرف حقيقة هذا الطريق، وحقيقة السير فيه فأفصح قائلاً: “ما يفعل بي أعدائي، أنا جنتي معي، وبستاني في صدري، إن قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله“.
إن الذين حاربوا الدعوة والدعاة ومبادئ الإسلام وعقائده ذهبوا في مزبلة التاريخ وبقيت لنا أمثالهم عبرة وعظة.
وإن الذين صبروا وجاهدوا على دعوتهم ومبادئهم المثلى، انقلبوا إلى فضل من الله ورضوان، ولم يمسسهم سوء بل فازوا بإحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة وبقيت لنا ذكراهم عاطرة فواحة ﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾[الصافات: 174]، وصدق القائل:
هذي الدماء على الطريق منائر قدسية الأضواء والألوان تدعوا الغفاة الراقدين تنبهوا وتحرروا من ربقة الإدمان ما جنة الفردوس مأوى ساكت عن حقه ومنافق وجبان درب الشهادة لم تزل خطواته مشتاقة لقوافل الفرسان الرافعين رءوسهم صوب العلا يرجون دار الروح والريحان |
نقول أخيرًا إن الذين يحاولون إحياء روح الدعوة والعودة إلى الكتاب والسنة نقول لهم: ﴿ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128].
12- كما أن التكوين للجماعة المؤمنة يعني قيام الجماعة المؤمنة بواجبها الشرعي في التصفية والتربية على منهج وبصيرة، نعم تصفية للدين مما شابه من انحرافات وخرافات وبدع وأهواء، وتربية على منهج صحيح واضح، أما عن ضرورة اتباع هذا المنهج فيقول العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى: “إن الخلاص إلى أيدي هؤلاء الشباب يتمثل في أمرين لا ثالث لهما؛ التصفية والتربية.
التصفية: وأعني بالتصفية: تقديم الإسلام على الشباب المسلم مصفىًّ من كل ما دخل فيه على مِّر هذه القرون والسنين الطوال؛ من العقائد ومن الخرافات ومن البدعوالضلالات، ومن ذلك ما دخل فيه من أحاديث غير صحيحة قد تكون موضوعة، فلا بد منتحقيق هذه التصفية؛ لأنه بغيرها لا مجال أبداً لتحقيق أمنية هؤلاء المسلمين، الذين نعتبرهم من المصطفين المختارين في العالم الإسلامي الواسع.فالتصفية هذه إنما يراد بها تقديم العلاج الذي هو الإسلام، الذي عالج ما يشبه هذه المشكلة، حينما كان العرب أذلاء وكانوا من فارس والروم والحبشة من جهة، وكانوا يعبدون غيرالله تبارك وتعالى من جهة أخرى.
نحن نخالف كل الجماعات الإسلامية في هذه النقطة، ونرى أنه لا بد من البدء بالتصفية والتربية معاً، أما أن نبدأ بالأمور السياسية، والذين يشتغلون بالسياسة قد تكون عقائدهم خراباً يباباً، وقد يكون سلوكهم منالناحية الإسلامية بعيداً عن الشريعة، والذين يشتغلون بتكتيل الناس وتجميعهم على كلمة – إسلام – عامة ليس لهم مفاهيم واضحة في أذهان هؤلاء المتكتِّلين حول أولئك الدعاة، ومن ثم ليس لهذا الإسلام أي أثر في منطلقهم في حياتهم، ولهذا تجد كثيراً من هؤلاء وهؤلاء لا يحققون الإسلام في ذوات أنفسهم، فيما يمكنُهم أن يطبِّقوه بكلسهوله. وفي الوقت نفسه يرفع هؤلاء أصواتهم بأنه لا حكم إلا لله، ولا بد أن يكون الحكم بما أنزل الله؛ وهذه كلمة حقٍّ، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه.
العلة الأولى الكبرى: بُعدهم عن فهم الإسلام فهماً صحيحاً، كيف لا وفي الدعاة اليوم من يعتبر السلفيين بأنهم يضيعون عمرهم في التوحيد، ويا سبحان الله، ما أشد إغراق من يقول مثل هذا الكلام في الجهل؛ لأنه يتغافل – إن لم يكن غافلاً حقًّا – عن أن دعوة الأنبياء والرسل الكرام كانت ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 37]. بل إن نوحاً عليه الصلاة والسلام أقام ألف سنة إلا خمسين عاماً، لا يصلح ولا يشرع ولا يقيم سياسة، بل: يا قوم اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت. هل كان هناك إصلاح؟ هلهناك تشريع؟ هل هناك سياسة؟ لا شيء، تعالوا يا قوم اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فهذا أول رسول – بنص الحديث الصحيح – أُرسل إلى الأرض، استمرَّ في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً لا يدعوا إلا إلى التوحيد، وهو شغل السلفيين الشاغل، فكيف يُسفُّ كثير من الدعاة الإسلاميين وينحطُّوا إلى درجة أن ينكروا ذلك على السلفيين” [9].
أما عن ضرورة ملازمة التربية كمنهج تربوي تمكين الجماعة المؤمنة فيقول: “التربية: والشطر الثاني من هذه الكلمة يعني أنه لا بد من تربية المسلمين اليوم، على أساس ألا يفتنوا كما فُتِن الذين من قبلهم بالدنيا. ويقول الرسول عليهالصلاة والسلام: “ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تُفتح عليكم زهرة الحياة الدنيا، فتهلككم كما أهلكت الذين من قبلكم“. ولهذا نرى أنه قَّل مَنْينتبه لهذا المرض فيربي الشباب، لا سيما الذين فتح الله عليهم كنوز الأرض، وأغرقهم في خيراته – تبارك وتعالى –وفي بركات الأرض، قلَّما يُنبه إلى هذا.
مرض يجب على المسلمين أن يتحصنَّوا منه، وأن لا يصل إلى قلوبهم “حب الدنيا وكراهة الموت”، إذاً فهذا مرض لا بد من معالجته، وتربية الناس على أن يتخلصوا منه. الحل وارد في ختام حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: “حتى ترجعوا إلى دينكم“.
الحل يتمثل في العودة الصحيحة إلى الإسلام، الإسلام بالمفهوم الصحيحالذي كان عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصحابته. قال تعالى: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾ [محمد: 7] وهي التي أجمع المفسرون على أَنَّ معنى نصر الله: إنما بالعمل بأحكامه، فإذا كان نصر الله لا يتحقق إلا بإقامة أحكامه، فكيف يمكننا أن ندخل في الجهاد عملياً ونحن لم ننصر الله؛ عقيدتنا خراب يباب، وأخلاقنا تتماشى مع الفساد، لابد إذاً قبل الشروع بالجهاد من تصحيح العقيدة وتربية النفس، وعلى محاربة كل غفلةٍ أو تغافُل، وكلِّ خلافٍ أو تنازع ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46] وحيننقضي على هذا التنازع وعلى هذه الغفلة، ونُحِلُّ محلها الصحوة والائتلاف والاتفاق؛ نتجه إلى تحقيق القوة المادية ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾ [الأنفال: 60].
أخلاق المسلمين في التربية خراب يباب. أخطاء قاتلة، ولا بد من التصفيةوالتربية والعودة الصحيحة إلى الإسلام، وكم يعجبني في هذا المقام قول أحد الدعاة الإسلاميين من غير السلفيين، ولكن أصحابه لا يعملون بهذا القول: “أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم دولته في أرضكم“.
إن أكثر الدعاة يخطئون حين يغفلون مبدأنا هذا، وحين يقولون: إن الوقت ليس وقت التصفية والتربية، وإنما وقت التكتل والتجمُّع. إذ كيف يتحقق التكتُّل والخلاف قائم في الأصول والفروع. إنه الضعف الذي استشرى في المسلمين. ودواؤه الوحيد يتلخَّص فيما أسلفتُ في العودة السليمةإلى الإسلام الصحيح، أو في تطبيق منهجنا في التصفية والتربية، ولعلَّ في هذاالقدر كفاية. والحمد لله رب العالمين“[10].
13- كما أن التكوين للجماعة المؤمنة يعني اليقين القلبي بأن المستقبل للإسلام ودعوته، نعم هذا اليقين المسلم به عند الصادقين المؤمنين، كما قال تعالى في كتابه: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾[المجادلة: 21]. وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]. وقال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60]. وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾[الفتح: 28].
وفي سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – الزاد الكبير من هذا لما استضعف المؤمنون وأوذوا ونكل بهم وعذبوا وقتلوا ولكنهم ثبتوا وأيقنوا أن الله ناصر دينه، ممكن لعباده، ولو بعد حين، والله غالب على أمر ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فما علينا إلا أن نعمل لدين الله، وأن نصبر حتى يأتي وعد الله.
[1] رحم الله أبا الحسن لو قدم الإيمان واليقين في قلب عمر لكان خيراً وأولى من عبقريته أولاً.
[2] ماذا خسر العالم (102 وما بعدها).
[3] رسالة مشكلات الشباب.
[4] المصدر السابق.
[5] مشكلات الشباب. لابن عثيمين.
[6] إتمام الوفاء. للخضري (72).
[7] نظرات في رسالة التعاليم (294).
[8] فقه النصر والتمكين. للصلابي (395-404) بتصرف.
[9] التصفية والتربية. الألباني.
[10] المصدر السابق.