كيف تدعو لادينيا؟

الثلاثاء،19 ربيع الاول 1435ه الموافق 21 كانون الثاني /يناير2014م وكالة معراج للأنباء “مينا”.

أحمد الغريب

إن أعتى الهجمات ضد الدين في القرون المتأخرة كانت في عصر التنوير الفرنسي, وقد حمل فلاسفة ذلك العصر ألوية الحرب الضارية الشرسة ضد الكنيسة في ذلك الوقت, كما أنهم استطاعوا زعزعة إيمان كثير من الناس وتشكيكهم في معتقداتهم الدينية التي ورثوها أبا عن جد, وشاعت موجة إلحاد عاتية, أو إن شئت فقل: موجة بغض لكل ما هو ديني كهنوتي، أورثت كفرا برجال الدين أولا ثم كفرا بالكتاب المقدس ثانيا ثم إنكارا لوجود الخالق ثالثا, ومع ذلك فإن كثيرا من فلاسفة ذلك العصر لم يكونوا ملاحدة بالمعنى الحرفي، بل كان بعضهم ممّن يقر بوجود الإله الصانع بل ويقيمون الأدلة والبراهين على وجوده، لكنهم كانوا يؤمنون به إلها يتجلى في نظام الطبيعة كما كان يقول بذلك الفيلسوف الفرنسي فنوتينيل([1])، وتجد هذا المنحى أوضح وأجلى عند الفيلسوف الأكبر في تلك الحقبة أعني: فولتير، وقد ذكر أن العالم يُقارَن بالساعة التي إذا نظرنا إلى عقاربها استنتجنا أنها مصنوعة بواسطة شخص لتشير إلى الوقت، كذلك بالضبط ينبغي على المرء أن يستنتج من ملاحظته للطبيعة أنها صنعت بواسطة إله عاقل([2]).

ورغم هذا الإقرار بوجود الصانع فإنهم رفضوا الديانات والرسالات،وقد بدا ذلك جليا في تقريرات الفيلسوف الألماني صموئيل ريماروس([3]). حيث هاجم الوحي والمعجزات هجوما عنيفا وادعى أن العقل كافٍ للهداية وصلاح البشرية.

وقد بدأت بهذه المقدمة لأذكّر الداعية في حواره مع اللادينيين أن مهمته لا تنتهي عند إثبات البراهين على وجود الخالق, فإن بعض اللادينيين قد يساعدون في سوق هذه الأدلة, وتبقى المهمة الأهم، وهي أن تثبت أن هذه النظرة المغرقة فيما يسمى بالعقلانية والاكتفاء عن الوحي بالعقل تصطدم عند الاختبار والتمحيص بحواجز ومسلمات تجعلها في مهب الريح كما ستراه فيما يأتي.

إن وضع رسم تخطيطي لقصر من القصور الفارهة أو مدينة من المدن الكبيرة يحتاج إلى مهندس ماهر حاذق عالم بفنّه متقن له, ولاجرم أنه ينطبع في ذهنك تصور جازم حين ترى بناء عظيما يخلب لُبّك أن هذا البناء قد بناه شخص عالم بشروط البناء ومقتضياته،مريد له قادرعليه،حكيم في ترتيبه وتنسيقه, وقبل كل هذا تعلم أن هناك شخصا له ذات عاقلة هو من أعلى هذا البناء وأحكمه.

هذا ما أدركه الأعرابي حينما قال: البعرة تدل على البعير, والأثر يدل على المسير, فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، أفلا تدل على الحكيم الخبير؟!.

إن هذا البدوي لم يستدل بالأثر على الخالق فحسب، بل استدل بمفعولاته على بعض صفاته.

 وقد عرضنا في المقال السابق أدلة محكمةتثبت وجود الخالق الصانع لهذا الكون, وقد تضمنت هذه الأدلةُ بعضَ صفات هذا الخالق المبدع التي لا تنفك عن ذاته ولا يتصور صدور هذه المصنوعات عنه بدونها, وفي تسلسلنا المنطقي في مناقشة اللاديني يجب علينا أن نثبّت عرش الأدلة الساطعة على وجود الخالق, ثم نُثنّي بذكر صفات هذا الخالق؛ لندلل آنفا على ثبوت النبوات والرسالات، وأن الله تعالى ما كان ليتركنا هملا ولا يخلقنا عبثا,فلتكن من هذا الترتيب على ذُكر.

اقرأ أيضا  من معاني النصـر

إن أول ما يتبادر إلى أذهاننا من صفات الخالق هو صفة “العلم” ولا نحتاج إلى كثير جهد للتدليل على علم الله لأنه يستحيل إيجاد الأشياء مع الجهل, (والمخلوقات فيها من الإحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل بها لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير عالم)([4]), وهذا العلم شامل للكليات والجزئيات والجليل والدقيق.

نعلم أيضا أن هذا الخالق قد خلق ما خلق على صفاته وهيئاته الخاصة “بإرادة جازمة”, وكون هذه المخلوقات على هذه الهيئات مع إمكان وجودها على هيئات أخرى، فيه دلالة بيّنة على أن من اختار هذه الهيئة دون الأخرى هو فاعل مختار مريد، وإيضاح ذلك بالمثال: إن الأشكال الهندسية منها المربع والدائري والمثلث وغير ذلك, ولكن خلق الكواكب على الشكل الكُرّي دون غيره من الأشكال الهندسية دال على إرادة صانعها ومبدعها سبحانه.

كما أنك بمجرد التأمل في الخلق تعلم أن مبدعه “قادر” لأن نقيض القدرة العجز, والعاجز لا يملك أن يخلق, فالخالق-سبحانه- قادر أولا على خلق العالَم, ثم قادر ثانيا على حفظه وإمساكه عن الزوال، ثم قادر ثالثا بعد ذلك على إفنائه.

والنظام البديع في هذا الكون يدل على “حكمة” مبدِعه وإتقانه، فهو حكيم حيث وضع كل شيء في موضعه في منظومة لا تختل بمرور الأزمان ولا يفسدها تقلب الليل والنهار.

فالخالق الموجد لهذا العالم يستحيل تجرده عن هذه الصفات:

1-العلم؛ لأن نقيضه الجهل.

2-الإرادة؛ ونقيضها الإجبار والاضطرار.

3-القدرة،ونقيضها العجز.

4-الحكمة، ونقيضها العبث واللعب.

وقد قال الله في كتابه: {وَمَاخَلَقْنَاالسَّمَوَاتِوَالْأَرْضَوَمَابَيْنَهُمَالَاعِبِينَ} في الدلالة على الحكمة وعدم العبث، وقال: {إن الله على كل شيء قدير} في الدلالة على القدرة, وقال: {إن الله بكل شيء عليم} في الدلالة على علمه الشامل للكليات والجزئيات, وقال في الدلالة على صفة الإرادة: {إن الله يفعل ما يريد}.

إذا أقرّ اللاديني بهذه الصفات للخالق سبحانه وتعالى, -ولا يسعه غير الإقرار- فينبغي أن تنتقل بعد ذلك إلى إثارة التساؤل عنده حول الحكمة من إيجاده ومراد الله منه.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن كثيرا من اللادينيين يفتتنون بذاك الرجل الذي يذكر في ثنايا كلامه أسماء الفلاسفة القدماء والمحدثين ويعرض مذاهبهم, ولا ضير حينئذ أن تسلك هذا المسلك معه حتى تطرق بابا يشتهي طرقه وتلج قلبه من خلاله.

فلو قلت له: إن الفيلسوف اليوناني سقراط كان يستخدم أسلوب التهكم والتوليد, وكان كثيرا ما يثير الأسئلة في مجلسه ويورد الإيرادات على ما يقرره جلساؤه بغرض تزييف المعاني الباطلة، ثم بعث الحقيقة في نفسوهم من داخلهم والتعرف عليها عن طريق تحريك الذات العاقلة الكامنة فيهم.

اقرأ أيضا  معرفة الله تعالى وتوحيده

ثم تكمل فتقول:دعنا نستخدم هذا الأسلوب السقراطي في نقاشنا؛ إذا كان الإله حكيما فهل يتصور أن يخلقنا عبثا؟ إنك لو رأيت فيلسوفا من الحكماء العظام يبني كل يوم بناء ثم ما يلبث أن يهدمه، وهكذا.. يبنيه ثم يأخذ معوله ليهدمه، وكلما أعلى البناء هدمه, لو رأيت هذا لحكمت عليه بالجنون أو العبث، ولعددت ذلك طعنا في عقله، فضلا عن حكمته.

ثم تكمل: إن الذي رفع السماء بلا عمد وبسط الأرض ومهد وسخر أسباب الحياة وجعل الإنسان بعقله وقوة فهمه وإدراكه ملكا لهذا العالم المحسوس لا يتصور منه أن يكون قد خلقه ليحيا حياة البهائم أو الجمادات.

إن الخالق رب والمخلوق مربوب, إن الخالق إله والمخلوق عبد, من هذا المنطلق الذي يجعل الإنسان في موضع العبودية والرب في مقام الربوبية يمكننا تصور المراد من خلق الإنسان {وَمَاخَلَقْتُالْجِنَّوَالْإِنسَإِلَّالِيَعْبُدُونِ}.

ومعرفة العبد لمراد الرب لا يمكن أن تكون بلا وحي يعصم, إذ العقول عاجزة عن معرفة تفاصيل التكاليف, ولو افترضنا جدلا أن العقول كافية لبعض الخلق دون بعض، لما كان العقل حجة على الجميع, والعقول تتفاوت والأفهام تختلف، فلم يصلح محاكمة العباد إلى أمر مختلف في تقديره وقوته ووضوحه, فالعقل لا يدرك تمام مراد الخالق من المخلوق “وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه. وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب؛ فإن آخر ما يُقَدّر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا، أو شقي شقاوة لا سعادة معها أبدا، فلا فلاح إلا باتباع الرسول([5]).

كما أن الحجة على العباد التي يترتب عليها الجزاء لا تقوم إلا بنصب الأدلة والبراهين الشرعية المتضمنة للقواطع العقلية حتى لا يكون للناس على الله حجة يوم فصل القضاء بين العباد.

كما أن المسلك الذي سلكه إيمانويل كانط في إثبات وجود الصانع وهو ما يطلق عليه “البرهان الأخلاقي” لا يصلح الاكتفاء به عن الرسالات والنبوات, وقد ذكر كانط أن الله خلق الكون من أجل غاية نهائية، وهذه الغاية -في نظره- هي الإنسان “فبدون الإنسان ستكون الخليقة كلها صحراء جرداء بلا فائدة، وبدون غاية نهائية([6])

بيد”أننا لا نعرف الإنسان من حيث إنه غاية الخليقة إلا من حيث إنه موجود أخلاقي”([7]). وهنا أُطلِق على برهانه مصطلح “اللاهوت الأخلاقي”, لكننا نقف أمام نفس العقبة التي ذكرناها في العقل, وهي عقبة التفاوت في التقدير والترجيح والاختيار لما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي, لقد رأينا أن من الأخلاق الحاكمة في بعض المجتمعات الإفريقية أنه إذا ماتت الأم فإنه يجب قتل كل أطفالها بعدها, فيأخذونهم في منظر وحشي فيدفنونهم أحياء, كما علمنا أن العري الكامل لا يناقض الأخلاق في بعض الدول, ورأينا أن صفات الكذب والغش والخداع لا غضاضة بها في اقتصاديات السوق عند بعض الرأسماليين, كما رأينا أن قتل غريزة التملك هو عمل أخلاقي في المجتمعات الشيوعية,بل ورأينا أن القوة التي لا تعترف بالضعيف وتدعو إلى إفنائه، هي معيار الحق والفضيلة عند بعض الفلاسفة، كما قرره نيتشه نظريا وطبقه النازي عمليا, فما هو المقياس الذي يصلح أن نتحاكم إليه في كل ما سبق؟.

اقرأ أيضا  الأمم المتحدة تدعو لاحترام "الوضع الراهن" في القدس

والجواب أنه لاشك أن الرسالات والشرائع هي “نور الله في أرضه، وعدله بين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمنا,وليس المراد بالشرع التمييز بين الضارّ والنافع بالحسّ، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم؛ فإن الحمار والجمل يميّز بين الشعير والتراب, بل التمييز بين الأفعال التي تضرّ فاعلها في معاشه ومعاده؛ كنفع الإيمان والتوحيد والعدل والبر والتصديق والإحسان والأمانة والعفة والشجاعة والحلم والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وبرّ الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل لله.. ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد”([8]).

لذلك أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بشارة ونذارة وهداية ونورا للبشرية، ودلالة على الخالق وتذكيرا بالميثاق واستثارة لفطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها، ولتكون هي المفزع عند اختلاف العقول, والحكم عند التنازع في مقاييس الأخلاق.

وإن من تمام حكمة الإله “أن لا يخلق خلقه عبثا، ولا يتركهم سدى، لا يؤمرون ولا يُنهون، ولذلك نزه الله نفسه عن هذا في غير موضع من كتابه، وأخبر أن من أنكر الرسالة والنبوة وأن يكون ما أنزل على بشر من شيء فإنه ما عرفه حق معرفته، ولا عظمه حق تعظيمه، ولا قدره حق قدره، بل نسبه إلى ما لا يليق به”([9]).

إذا ثبتت أهمية الرسالات وضرورة النبوة لم يبق عليك أيها الداعية إلا تثبيت دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل هذا ما نتناوله في المقال القادم بحول الله وقوته.

 


[1][1]برنارد لوبوفييهفونتينيل (1675-1775) انظر: تاريخ الفلسفة لكوبلستون 6/28.

 

[2]تاريخ الفلسفة لكوبلستون 6/44.

 

[3]المصدر السابق 6/183.

 

[4]شرح العقيدة الأصفهانية 396.

 

[5]مجموع فتاوى ابن تيمية 19/96-97.

 

[6]تاريخ الفلسفة كوبلستون 6/484.

 

[7]انظر:المرجع السابق.

 

[8]مجموع الفتاوى 19/99-100.

 

[9]مدارج السالكين1/90.

 

 

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.