معنى لا إله إلا الله

الثلاثاء،17 ربيع الثاني 1435ه الموافق 18 شباط / فبراير2014م وكالة معراج للأنباء “مينا”.

ذات يوم جمعة، وقعت حادثة استحقت أن تنزل فيها آيات، إذ كان النبي  قائمًا يخطب، وقد أصاب المدينة مجاعة، فأقبلت عير فيها تجارة، فانطلق الناس إليها حتى لم يبق مع النبي إلا اثنا عشر رجلاً[1].

نزلت سورة الجمعة، التي هي -كما كل الآيات القرآنية- لا تعالج الموقف لذاته فحسب، بل تعطي الأمة توجيهًا خالدًا في كل عصورها؛ ولذا فإن النظر إلى سورة الجمعة بعين تقصد أن ترى المعنى الحضاري فيها يُفضي إلى نتيجة جديدة تمامًا، لم تنل حظًّا من أهل التفسير على حد ما أعلم، وإن ظهرت في سياق تفاسيرهم بشكل مُجزَّأ، تلك هي: أن سورة الجمعة إنما نزلت لتُذَكِّر الجماعة المسلمة بتميزها الحضاري، ولتُوَضِّح معالم الحضارة الإسلامية.

التأمل في سورة الجمعة يكشف لنا رؤية أقسام ثلاثة واضحة، متمايزة ومترابطة:

1- أن هذه الأمة المسلمة هي غرس رباني.

2- وأنه معهودٌ إليها أن تستفيد من سيرة التاريخ، وأن تصحح مسيرته.

3- وأن تنتبه إلى رسالتها في الحياة، فتملك الدنيا دون أن تملكها الدنيا.

* * *

لقد بدأت قصة الإسلام فجأة، لم يكن ثمة ما يشير إلى أن هذه البقعة المهملة في خارطة التاريخ والجغرافيا آنذاك قد تكون ذات أهمية يومًا ما، فتلك بلاد قبليَّة، أهلها أميون، يعيشون جاهلية في الأفكار والأعمال، ولا يفكرون في إنشاء حضارة.. ولهذا كان انتقالهم المفاجئ نحو التوحد والسيادة على الجزيرة ثم مجابهة الكبار: فارس والروم، ثم امتلاك ناصية العلوم والحضارة، كل ذلك كان بتدخل رباني محضّ، نعمة على هؤلاء القوم لا شريك له فيها.. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].

ولذا، فإن سر هذه الأمة في هذا الدين، فهو الذي نقلهم من البداوة إلى الحضارة، ومن الجاهلية إلى السيادة، أو كما يقال: من رعاة الغنم إلى رعاة الأمم.

ورعاية الأمم لا تعني التسلط عليهم ولا قهرهم، بل تعني قيام الأمة بدورها في توصيل الرسالة لهم، ذلك أن الرسالة إنسانية عالمية خالدة لم تنزل على العرب لتزرع فيهم بذور عنصرية أو تمييز، بل لتحملهم مسئولية الدعوة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.

وبهذا تكون الأمة أطول عمرًا، وأكثر اتساعًا، وأمضى في تاريخ الخلود؛ فهي أمة نشأت من الفكرة، أنشأتها الرسالة الإسلامية، تمتد في طول الزمان بتتابع الأجيال، وفي عرض المكان باتساع البلدان.. {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 3].

ولما سُئل النبي  عن هذه الآية أشار إلى سلمان الفارسي وقال: “لو كان الإيمان عند الثُّرَيَّا لناله رجال أو رجل من هؤلاء”[2]. وسلمان من غير العرب، من فارس؛ ولذا قال العلماء بأنها تعني كل من صدَّق النبي من غير العرب[3].. فهذا هو اتساع المكان.

وأما طول الزمان ففي حديث آخر، يقول : “إن في أصلاب أصلاب أصلاب أصلاب رجال رجالاً ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، ثم قرأ: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)”[4].

وهذه الأمة على كثرة الأجناس والأقوام، وعلى تتابع الأزمان والأجيال، تبقى عربية الروح والثقافة، تلتف حول اللسان العربي، وهذا معنى دقيق فقهه الشيخ الطاهر بن عاشور من الآية وقال بأن (مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) هي بمعنى الاتصال، أي أن العرب وغيرهم، والجيل وغيره، أمة واحدة متصلة ببعضها، ثم إنهم يلحقون بالعرب أي يتعربون لفهم الدين وتلاوة القرآن، وهي بشارة غيبيَّة بأن دعوة النبي  ستبلغ أممًا غير عربية، وأنهم يحتضنونها ويلتحقون بالعرب[5].

من كان يحلم بشيء من هذا الخلود والتفوق والسيادة من العرب المقيمين بالجزيرة في القرن السادس الميلادي؟! لا أحد بكل تأكيد.. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

وهنا، بهذا التأكيد، ينتهي المقطع الأول من سورة الجمعة، ليعرف المسلمون أنهم أمة نشأت بنعمة الله وفضله، وأن هذا الدين هو سر نهوضهم، وبه كان تفوقهم وخلودهم.

* * *

ويأتي المقطع الثاني الذي يُعطي الأمة خلاصة التاريخ الذي ينبغي أن تستفيد منه، وأن تصحح مسيرته، تاريخ قوم حملوا أمانة الرسالة من قبل فلم يحفظوها، فلهذا نقل الله رسالته إلى هذه الأمة.

إنهم بنو إسرائيل، آتاهم الله التوراة (فِيهَا هُدًى وَنُورٌ)[6]، وفيها هذا النبي الأمي (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ)[7].. إلا أنهم لم ينتفعوا بها؛ إذ لم تتهذب عقائدهم ولا أخلاقهم، فضرب الله لهم هذا المثل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5].

ولهذا ينبغي أن تفهم الأمة أن حضارتها حضارة عمل وتطبيق لا مجرد تنظير وتقعيد، حضارة وعي وفهم وتشرب للمنهج لا مجرد الاحتفاظ به وحمله في السيارات والمكتبات، أو حتى تلاوته في المحافل والمناسبات فحسب.

والتشبيه بالحمار الذي يحمل الأسفار تشبيه مركب؛ فالحمار لا يعرف قيمة ما يحمله أصلاً، غير أنه لن ينتفع بها حتى ولو نشرت أمام عينيه، فكأنما بلغ بنو إسرائيل حد الإياس من انتفاعهم بما أنزل عليهم[8].

وهذا مثل مضروب للأمة المسلمة، لتعلم به أن مكان القرآن في حياتها هو مكانه من العمل والتنزيل والتنفيذ، وأن منهجها يجب أن يكون في روحها ووجدانها لا في السطور أو الصدور وحدها!

في هذه الحالة يكون القرب من الله واستحقاق الصلة به مرتبط بهذه الأمانة، ولا يكون ثمة مكان للادعاء الفارغ أو زعم الخيريَّة أو مباهاة الناس بالباطل.. بل يكون القرب من الله وحمل رسالته مصحوبًا بما يؤكده من عمل وتطبيق وجهاد، حتى لو أنه جهاد يتطلب ذهاب النفس في سبيل الرسالة.

كل هذه الأمور لم تكن عند اليهود.. {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 6-8].

وهنا، وبهذه الحقيقة القائمة الراسخة.. حقيقة الموت، ينتهي هذا المقطع من السورة، وقد كان يقدم للأمة المسلمة خلاصة تاريخ أمة سابقة، لكي تعرف منه خصائص رسالتها وحضارتها، فتقوم بتصحيح المسيرة، وتضرب المثل للأمة التي حملت الرسالة بحق، فكانت خير أمة أخرجت للناس.

اقرأ أيضا  والله يضاعف لمن يشاء

* * *

ثم يأتي المقطع الأخير الذي نزلت لأجله السورة نفسها، وفيه التنبيه على أن هذه الأمة تنظر إلى الآخرة أكثر من الدنيا، مع احتفاظها بالتوازن المطلوب بين الدنيا والآخرة، ولهذا فإن ثمة لحظات بعينها ينبغي أن تصفو فيها الأمة من الدنيا، وأن تتركها إلى حيث يُذكر الله.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].

رغم أن البيع ليس حراما (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)[9]، بل هو مطلوب كسائر أعمال الرزق الحلال، لكن هذه اللحظة ليست كغيرها، حتى قال ابن كثير: “اتفق العلماء على تحريم البيع بعد النداء الثاني (حيث يكون الخطيب قد صعد)، واختلفوا: هل يصح؟ وظاهر الآية عدم الصحة”[10].

فهي لحظة خاصة واستثنائية في حياة الأمة المسلمة، والعجيب أنه جلَّ وعلا ذكر (البيع) ولم يذكر أي نشاط آخر للمسلم، ذلك أن البيع هو عملية الربح والحصول على المال، وبرغم هذا فإن ترك هذا البيع والذهاب للجمعة (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

وحيث إن الآخرة هي الغاية، وهي المعيار، إلا أن الإسلام منهج متوازن.. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].

فحتى الخروج للدنيا وابتغاء الرزق ينبغي أن يكون مصحوبًا بذكر الله ذكرًا كثيرًا.. إلا أن تعبير (قُضِيَتِ الصَّلاةُ) يوحي بمعنى الإتقان، إعطاء كل ذي حق حقه، أي بعد استيفاء الصلاة يمكن للمسلم أن يخرج في طلب الرزق. ولهذا لم يكن التنديد القرآني لمن طلب الرزق في القافلة، بل كان لمن ترك الصلاة لأجل ما في القافلة، فانصرف قبل اكتمالها.. {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11].

كان عرَاك بن مالك  إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: اللهم إني أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين[11].

هذا أصدق تعبير عن العقلية المسلمة التي تؤمن بأن الله فوق كل شيء، وأن ما عند الله هو خير مما يبدو لنا أنه خير.

* * *

بقي ملمح آخر للحضارة الإسلامية كما ظهرت في سورة الجمعة، وهو ملمح كامن ومنتشر في كل السورة، ومسيطر على روحها، ذلك هو أمر التوحيد.

إن اسم الله -جل وعلا- ذُكِر في كل آية من آيات السورة، وهذا يعني -بشكل واضح- أن هذه الحضارة مركزها (الله) تبارك وتعالى، فهو صاحب الوجود {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 1]، وهو صاحب الغرس {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً} [الجمعة: 2]. وهو الذي شرع الشرائع وكلف بالأعمال (فاسعوا.. ذروا.. فانتشروا.. ابتغوا). وهو الذي يعلم الغيوب والخفايا {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]. وهو الذي يضمن المستقبل {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11].. هذه المركزية للتوحيد ظاهرة في كل إنتاج الحضارة الإسلامية، من الأفكار والفلسفات وحتى الزخارف الفنية.

________________________________

[1] البخاري (894)، ومسلم (863).

[2] البخاري (4615).

[3] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 8/116.

[4] الطبراني (6005)، وابن أبي عاصم في السنة (243)، وقال الهيثمي: إسناده جيد، وصححه الألباني في ظلال الجنة (309).

[5] الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 28/212.

[6] (المائدة: 44).

[7] (الأعراف: 157).

[8] محمد الأمين الشنقيطي: تفسير أضواء البيان 8/196.

[9] (البقرة: 275).

[10] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 8/122.

[11] المصدر السابق 8/122، 123.

 


قال الشيخ سليمان في تيسير العزيز الحميد:

ومعنى ” لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} . مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . فصح أن معنى الإله هو المعبود، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: “قولوا لا إله إلا الله” قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} . وقال قوم هود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}. وهو إنما دعاهم إلى ” لا إله إلا الله “، فهذا هو معنى لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وترك عبادة ما سواه، وهو الكفر بالطاغوت، وإيمان بالله.

فتضمنت هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى الله ليس بإله، وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، فتضمنت نفي الإلهية عما سواه، وإثباتها له وحده لا شريك له، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه إلهًا وحده، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهًا. وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلاً يستفتي أو يستشهد من ليس أهلاً لذلك، ويدع مَنْ هو أهل له، فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد، المفتي فلان، والشاهد فلان، فإن هذا أمر منه ونهي. وقد دخل في الإلهية جميع أنواع العبادة الصادرة عن تأله القلب لله بالحب والخضوع والانقياد له وحده لا شريك له، فيجب إفراد الله تعالى بها، كالدعاء والخوف والمحبة، والتوكل والإنابة، والتوبة، والذبح، والنذر، والسجود، وجميع أنواع العبادة فيجب صرف جميع ذلك لله وحده لا شريك له، فمن صرف شيئًا مما لا يصلح إلا لله من العبادات لغير الله، فهو مشرك ولو نطق بـ: لا إله إلا الله، إذ لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والإخلاص.

ذكر نصوص العلماء في معنى الإله:

قال ابن عباس رضي الله عنه: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقال الوزير أبو المظفر [بن هبيرة] في “الإفصاح”، قوله: ” شهادة أن لا إله إلا الله “، يقتضي أن يكون الشاهد عالمًا بأن: لا إله إلا الله، كما قال: الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} .

وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدًا فيها، فقد قال الله عز وجل ما أوضح به أن الشاهد بالحق إذا لم يكن عالمًا بما شهد به، فإنه غير بالغ من الصدق به مع من شهد من ذلك بما يعلمه في قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . قال: واسم الله تعالى مرتفع بعد ” إلا ” من حيث إنه الواجب له الإلهية. فلا يستحقها غيره سبحانه. قال: واقتضى الإقرار بها أن تعلم أن كل ما فيه أمارة للحدث، فإنه لا يكون إلهًا، فإذا قلت: لا إله إلا الله، فقد اشتمل نطقك هذا على أن ما سوى الله ليس بإله، فيلزمك إفراده سبحانه بذلك وحده.

اقرأ أيضا  معالم قرآنية في الأحداث التي تمر بها الأمة الإسلامية

قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة هي مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية، وأثبت الإيجاب لله سبحانه، كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.

وقال أبو عبد الله القرطبي في” التفسير”: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، أي. لا معبود إلا هو. وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس – كالرجل والفرس – اسم يقع على كل معبود بحق أو بباطل، ثم غلب على المعبود بحق.

وقال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع. وقال أيضا في (لا إله إلا الله) : إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد. فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع.

وقال ابن القيم رحمه الله: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة وإكرامًا وتعظيمًا وذلاً وخضوعًا وخوفًا ورجاءً وتوكلاً.

وقال ابن رجب رحمه الله: – الإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالاً ومحبة، وخوفًا ورجاء، وتوكلاً عليه وسؤالاً منه ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، ونقصًا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك.

وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي: انتفى انتفاء عظيمًا أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية
من أهوال الساعة، وإنما يكون علمًا إذا كان نافعًا، وإنما يكون نافعًا إذا كان الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.

وقال الطيبي: الإله فِعَالٌ بِمعنى: مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة، أي: عبد عبادة.
وهذا كثير جدًا في كلام العلماء، وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود، خلافًا لما يعتقده عباد القبور وأشباههم في معنى الإله أنه الخالق أو القادر على الاختراع أو نحو هذه العبارات، ويظنون أنهم إذا قالوها بهذا المعنى، فقد أتوا من التوحيد بالغاية القصوى، ولو فعلوا ما فعلوا من عبادة غير الله، كدعاء الأموات، والاستغاثة بهم في الكربات، وسؤالهم قضاء الحاجات، والنذر لهم في الملمات، وسؤالهم الشفاعة عند رب الأرض والسموات، إلى غير ذلك من أنواع العبادات، وما شعروا أن إخوانهم من كفار العرب يشاركونهم في هذا الإقرار، ويعرفون أن الله هو الخالق القادر على الاختراع، ويعبدونه بأنواع من العبادات، فليهن أبو جهل وأبو لهب ومن تبعهما بحكم عباد القبور، وليهن أيضًا إخوانُهم عباد ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، إذ جعل هؤلاء دينهم هو الإسلام المبرور.

ولو كان معناها ما زعمه هؤلاء الجهال، لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبينهم نزاع، بل كانوا يبادرون إلى إجابته، ويلبون دعوته، إذ يقول لهم: قولوا: لا إله إلا الله، بمعنى: أنه لا قادر على الاختراع إلا الله. فكانوا يقولون: سمعنا وأطعنا.
قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ … } الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
لكنَ القومَ أهلُ اللسان العربي، فعلموا أنها تهدم عليهم دعاء الأموات والأصنام من الأساس، وتكب بناء سؤال الشفاعة من غير الله، وصرف الإلهية لغيره لأم الرأس، فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} . فتبًا لمن كان أبو جهل ورأس الكفر من قريش وغيرهم أعلم منه بـ: ” لا إله إلا الله “. قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} . فعرفوا أنها تقتضي ترك عبادة ما سوى الله، وإفراد الله بالعبادة، وهكذا يقول عباد القبور إذا طلبت منهم إخلاص الدعوة والعبادة لله وحده: أنترك سادتنا وشُفعاءنا في قضاء حوائجنا؟! فيقال لهم: نعم وهذا الترك والإخلاص هو الحق، كما قال تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} . فـ: ” لا إله إلا الله ” اشتملت على نفي وإثبات، فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى، فكل ما سواه من الملائكة والأنبياء فضلاً عن غيرهم، فليس بإله، ولا له من العبادة شيء، وأثبتت الإلهية لله وحده، بمعنى أن العبد لا يأله غيره، أي: لا يقصده بشيء من التأله وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة، كالدعاء والذبح والنذر وغير ذلك.

وبالجملة فلا يأله إلا الله، أي: لا يعبد إلا هو، فمن قال هذه الكلمة عارفًا لمعناها، عاملاً بمقتضاها، من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك والعمل به، فهذا هو المسلم حقًا، فإن عمل به ظاهرًا من غير اعتقاد، فهو المنافق، وإن عمل بخلافها من الشرك، فهو الكافر ولو قالها، ألا ترى أن المنافقين يعملون بها ظاهرًا وهم {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّار} ، واليهود يقولونها وهم على ما هم عليه من الشرك والكفر، فلم تنفعهم، وكذلك من ارتد عن الإسلام بإنكار شيء من لوازمها وحقوقها، فإنها لا تنفعه، ولو قالها مائة ألف، فكذلك من يقولها ممن يصرف أنواع العبادة لغير الله، كعباد القبور والأصنام، فلا تنفعهم ولا يدخلون في الحديث الذي جاء في فضلها، وما أشبهه من الأحاديث.

اقرأ أيضا  رفع العقوبات عن السودان.. مخاطرة لا مهرب منها


وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ” وحده لا شريك له “، تنبيهًا على أن الإنسان قد يقولها وهو مشرك، كاليهود والمنافقين وعباد القبور، لما رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى قول: ” لا إله إلا الله “، ظنوا أنه إنما دعاهم إلى النطق بها فقط، وهذا جهل عظيم، وهو عليه السلام إنما دعاهم إليها ليقولوها ويعملوا بمعناها، ويتركوا عبادة غير الله، ولهذا قالوا: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} . وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} . فلهذا أبوا عن النطق بها، وإلا فلو قالوها وبقوا على عبادة اللات والعزى ومناة لم يكونوا مسلمين، ولقاتلهم عليه السلام حتى يخلعوا الأنداد، ويتركوا عبادتها، ويعبدوا الله وحده لا شريك له، وهذا أمر معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة والإجماع.

وأما عبادة القبور فلم يعرفوا معنى هذه الكلمة، ولا عرفوا الإلهية المنفية عن غير الله الثابتة له وحده لا شريك له، بل لم يعرفوا من معناها إلا ما أقرّ به المؤمن والكافر، اجتمع عليه الخلق كلهم من أن معناها: لا قادر على الاختراع، أو أن معناها: الإله، هو الغني عما سواه، الفقير إليه كل ما عداه، ونحو ذلك، فهذا حق، وهو من لوازم الإلهية، ولكن ليس هو المراد بمعنى: ” لا إله إلا الله “، فإن هذا القدر قد عرفه الكفار، وأقروا به، ولم يدعوا في آلهتهم شيئًا من ذلك، بل يقرون بفقرهم، وحاجتهم إلى الله، وإنما كانوا يعبدونهم على معنى أنهم وسائط وشفعاء عند الله في تحصيل المطالب ونجاح المآرب، وإلا فقد سلموا الخلق والملك والرزق والإحياء والإماتة، والأمر كله لله وحده لا شريك له، وقد عرفوا معنى: ” لا إله إلا الله “، وأبوا على النطق والعمل بها، فلم ينفعهم توحيد الربوبية مع الشرك في الإلهية، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}. وعباد القبور نطقوا بها وجهلوا معناها، وأبوا عن الإتيان به، فصاروا كاليهود الذين يقولونها ولا يعرفون معناها، ولا يعملون به، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بالحب والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والدعاء عند الكرب، ويقصده بأنواع العبادة الصادرة عن تأله قلبه لغير الله مما هو أعظم مما يفعله المشركون الأولون، ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الإيمان صادقًا أو كاذبًا، ولو قيل له: احلف بحياة الشيخ فلان، أو بتربته ونحو ذلك، لم يحلف إن كان كاذبًا، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أعظم في قلبه من رب الأرباب، وما كان الأولون هكذا، بل كانوا إذا أرادوا التشديد في اليمين حلفوا بالله تعالى، كما في قصة القسامة التي وقعت في الجاهلية، وهي في “صحيح البخاري [3845] “.

وكثير منهم وأكثرهم يرى أن الاستغاثة بإلهه الذي يعبده عند قبره أو غيره أنفع وأنجح من الاستغاثة بالله في المسجد، ويصرحون بذلك، والحكايات عنهم بذلك فيها طول، وهذا أمر ما بلغ إليه شرك الأولين، وكلهم إذا أصابتهم الشدائد أخلصوا للمدفونين في التراب، وهتفوا بأسمائهم، ودعوهم ليكشفوا ضر المصاب في البر والبحر والسفر والإياب، وهذا أمر ما فعله الأولون، بل هم في هذه الحال يخلصون ل {الكبير المتعال} ، فاقرأ قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ … } الآية، وقوله: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} .وكثير منهم قد عطلوا المساجد وعمروا القبور والمشاهد، فإذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه، أخذ في دعاء صاحبه باكيًا خاشعًا ذليلاً خاضعًا، بحيث لا يحصل له ذلك في الجمعة والجماعات وقيام الليل وإدبار الصلوات، فيسألونهم مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب والنجاة من النار، وأن يحطوا عنهم الأوزار، فكيف يظن عاقل ـ فضلاً عن عالم ـ أن التلفظ بـ: ” لا إله إلا الله ” مع هذه الأمور تنفعهم؟! وهم إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها باعتقادهم وأعمالهم؟! ولا ريب أنه لو قالها أحد من المشركين ونطق أيضًا بشهادة أن محمدا رسول الله ولم يعرف معنى الإله ولا معنى الرسول، وصلى وصام وحج، ولا يدري ما ذلك إلا أنه رأى الناس يفعلونه فتابعهم ولم يفعل شيئًا من الشرك، فإنه لا يشك أحد في عدم إسلامه.

وقد أفتى بذلك فقهاء المغرب كلهم في أول القرن الحادي عشر أو قبله في شخص كان كذلك كما ذكره صاحب ” الدر الثمين في شرح المرشد المعين [ميارة] ” من المالكية، ثم قال شارحه: وهذا الذي أفتوا به جلي في غاية الجلاء، لا يمكن أن يختلف فيه اثنان انتهى. ولا ريب أن عباد القبور أشد من هذا؟ لأنهم اعتقدوا الإلهية في أرباب متفرقين.

 وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن:

وقد غلط كثير من المشركين في هذه الأعصار، وظنوا أن من كفر من تلفظ بالشهادتين فهو من الخوارج وليس كذلك، بل التلفظ بالشهادتين لا يكون مانعا من التكفير إلا لمن عرف معناهما، وعمل بمقتضاهما، وأخلص العبادة لله ولم يشرك به سواه، فهذا تنفعه الشهادتان. وأما من قالهما، ولم يحصل منه انقياد لمقتضاهما، بل أشرك بالله واتخذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وقرب لهم القرابين، وفعل لهم ما يفعله أهل الجاهلية من المشركين، فهذا لا تنفعه الشهادتان، بل هو كاذب في شهادته كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله هو عبادة الله وترك عبادة ما سواه؛ فمن استكبر عن عبادته، ولم يعبده فليس ممن يشهد أن لا إله إلا الله؛ ومن عبده، وعبد معه غيره فليس هو ممن يشهد أن لا إله إلا الله.

المصدر:البشرى

 

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.