هدي النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الأمن والسلام
الثلاثاء،28جمادى الثانية1435الموافق29نيسان/أبريل2014 وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.
محمد سجاد يونس
بسم الله الرحمن الرحيم
هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – في إقامة الأمن والسلام
(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)
الحمدُ لله الذي بعث الأنبياء بلِواء الأمن، فنصبوه في الأرض بالإسلام، والصلاةُ والسلامُ على من كمَّل الإسلامَ بكلمة الأمن، فشاع في الأرض السلامُ، وعلى آله وصحبه الذين انتشروا في أنحاء العالم بمشعل الأمن والسلام، ومن حمله إلى نهاية الأيام.
أمَّا بعد:
فالسلامُ اسم من أسماء الله، وما صدر عنه إلاَّ وفيه الأمن والسلام، فلا يكون بعْثُه – تعالى – الأنبياءَ والرُّسُلَ بدعوة دين الإسلام إلاَّ لإقامة الأمن والسلام، وأكمل الإسلام بيد محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – نبيِّ الأمن والسلام، فأقام الأمن والسلام بتبليغ الإسلام إلى البشر كافَّة، وحصل الأمن العالمي والسلام الأخروي، كيف لا، و“الإسلام” (بمعنى السلام) اسمُ دينه، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الحج: 78]، ورحمة للعالمين لقبُه، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وإقامةُ الأمن غرضُه، وغايته إدخال الناس إلى دار السلام في الآخرة.
وإنَّما الأمنُ احتيج إليه عندما غشيت الدنيا سحابُ الخوف والاضطراب من كلِّ الجوانب، وهذا هو تصوير الأيام الجاهليَّة بعينها في سنة ٥٧٠م، كما صوَّرها الله – تعالى -: ﴿ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164] [الجمعة: 2]، فكان العالم في تلك الفترة غريقًا في ظلام الوثنيَّة، والجهالة، والخُرافات، والبربريَّة، والقتل والقتال والإرهاب والانتهاب، وفي تلك البرهة المظلمة بُعث النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بمشاعل الأمن والسلام، فخبت نارُ كلِّ ظلم وبربريَّةٍ في اللحظة نفسها، وضاءَ العالَمُ كلُّه بِنُوره وضوئِه.
فالآثارُ تُخبر بالأمن والسلام منذ ولادته، وشهد التاريخُ بشعره بالعدل والمساواة في حجر أمِّه، الذي بمنزلة الأصل لإقامة الأمن والسلام، وإنه أسْهَم في إقامة الأمن والسلام في المجتمع حين بلغ أشُدَّه، ورفض بكلمة الأمن النِّزاعَ المفضي إلى نارِ حربٍ عظيمة قُبَيْلَ البعثة حين تنازعوا في الحجر الأسود، ثُمَّ قام بالأمن والسلام بعدها بتعاليمه النبويَّة، وأعماله المحكمة بعد أن كوَّن من أفراد المجتمع إنسانًا حقيقيًّا، فهو أساسٌ لعمل التجديد، وهديهم إلى الأمن بتدابيره العبقرية وببرامجه السياسيَّة، فلإسهاماته في قسم الأمن مزايا في تاريخ العالمَ، ويَجدر ذكرُها الفَيْنَةَ، ففي هذه المقالة أبيِّن – إن شاء الله – دَوْرَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – في إقامة الأمن والسلام.
فقسَّمت إسهاماته في عدة مراحل: (١) إقامة الأمن والسلام بتعاليمه النبوية، (٢) وبأعماله المحكمة قبل البعثة، (٣) وبعد البعثة.
ألقي أوَّلاً ضوءًا على الموضوع:
فمعنى الأمن في اللغة: هو ضدُّ الخوف ونقيضه، والأصلُ أن يُسْتَعْمَلَ في سُكُون القلب[1].
وفي الاصطلاح: الأمن عدم توقُّع مكروه في الزمان الآتي[2].
أما المعاصرون فقد فصَّلوا في معنى الأمن، ومن تلك المعاني: أنَّ الأمن هو شعور المجتمع وأفراده بالطُّمأنينة، والعيش بحياة طيبة، من خلال إجراءات كافية يمكن أن تزال عنهم الأخطار، أيًّا كان شكلها وحجمها، حال ظهورها، ومن خلال اتِّخاذ تدابير واقية[3].
ومعنى السلام لغةً: المسالمة، والمصالحة، والمهادنة[4]، وقال أبو عمر: والسَّلْم بالفتح الصُّلْحُ، والسِّلْمُ بالكسر الإسلام.[5]
واصطلاحًا: السلامُ تجرُّدُ النفْسِ عن المحنة في الدارين.[6]
أهمية الأمن والسلام:
للأمن أهميةٌ عُظْمى في حياة الفرد والمجتمع والأمَّة، فهو المرتكز والأساس لكلِّ عوامل البناء والتنمية، وتحقيق النهضة الشَّاملة في جميع المجالات، ولهذا ذكره الله – تعالى – إلى جانب الغذاء، فقال ممتنًّا على أهل مكَّة: ﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 4]، بل قدَّمه على الغذاء، فقال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: ١١٢].
وأشار النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلى أهمية الأمن بأنَّ المسلم متى ظفر به، فقد ظفر بالدنيا كلِّها، فقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من أصبح منكم آمنًا في سِربه، معافًى في جسده، عندَهُ قُوتُ يومِه، فكأنَّما حيزت له الدنيا)).
ويُعَدُّ الأمنُ مقصدًا من مقاصد الشريعة، فقد حصر العلماء المقاصد الضرورية في حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وصَرَّح الماوردي بأنَّ صلاح الدنيا وانتظام أمرها بستة أشياء، منها: أمنٌ عام تطمئن إليه النفوس، وتنتشر فيه الهمم، ويَسْكُن فيه البريء، ويأنس به الضعيف[7]، فبانت منه أيضًا أهميَّة الأمن والسلام.
إسهامُ النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في إقامة الأمن والسلام:
إقامة الأمن والسلام بتعاليمه النبويَّة وإرشاداته القيِّمة:
إن لُوحظت عدةُ أشياء في مجالات الحياة الدنيوية، فلا شك أن يحصل الأمن العالمي والأخروي هنا، فالنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – عرفها، واهْتمَّ بها اهتمامًا بالغًا بِعَمَله، وعَلَّمهَا الناسَ كافَّةً، وهي فيما يأتي:
1- التعلُّق بالله سبب مركزي للأمن في الدارين، وهو أن توحِّد اللهَ ولا تُشرك به شيئًا، فإذا قام الأمنُ من الله – لأنَّ بين الأمن والإيمان علاقةً قويةً – فإنَّ المجتمع إذا آمن أمن، وإذا أمن نَما؛ فيعيشُ أفرادُه مع الأمن حياةً طيبةً؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، وقال في موضع آخر: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
2- الأمن في حسن التعامل مع الناس، وهو أن تُطعمَ الجائع، وتَسقي العاطشَ، وتکسو العُراةَ، وبه يحصل رضا الرب، فتعيش في الأمن والسلام؛ قال – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدکم حتى يُحب لأخيه – أو قال: لجاره – ما يحب لنفسه))[8]، وألاَّ تُسيء إلى أحد بلسانك وبيدك؛ حيث قال: ((المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده))[9].
3- الأمنُ بين المسلمين وغيرهم؛ لهذا الغرض أمر الله نبيَّه – صلى الله عليه وسلم – بدعوة غير المسلمين إلى الموافقة على النِّظام في قوله – تعالى -: ﴿ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾ [آل عمران: 64]، فإذا أعرضوا عنه أمر بالعمل بقوله – تعالى -: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]، وسدَّ بابَ الخوف والفتنة والهيبة كُلِّيةً بقوله – تعالى -: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 108].
4- السلام بين المسلمين: تلا لإقامة السلام بين المؤمنين قوله – تعالى -: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدُکم حتى يُحِبَّ لأخيه – أو قال: لجاره – ما يحب لنفسه))[10].
5- الأمن بين ذوي الأرحام، فعيَّن له طرقًا متعددةً، وبَيَّن الحقوق مفصِّلاً، وأعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
6- وإضافة إلى ذلك أنه – صلى الله عليه وسلم – قال لغرض إقامة الأمن بين الحيوانات: ((الخلقُ عيالُ الله، فأحب الخلق إليه من أحسن إلى عياله))[11].
إنَّه نظر إلى هذه الأشياء وغيرها لإقامة الأمن والسلام في الدَّارين، وعلَّمها أصحابَه، وبلَّغها إلى أمَّته جميعًا.
حتى إنَّه – صلى الله عليه وسلم – حمل الأسلحة بيديه لإقامة الأمن الأبدي، واضطر إلى قتالهم کإجراء العملية في الجراح، وإلاَّ لفَسَدُوا في الأرض، کما قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 251].
إقامة الأمن والسلام بأعماله المحكمة:
شرعت هذه السلسلة منذ أن تحمله أمُّه في رحمها، وتنتهي إلى أن تقوم القيامة، كما نصوِّرها في الذيل:
1- محمد مخبر الأمن والسلام منذ ولادته: منذ ولادته ظهرت آثارٌ تُنبئ بأنَّه سيکون صاحبَ الکمال، هناك مقولة مشهورة[12]: “Childhood shows the man As morning shows the day”.
منها الواقعة الآتية التي تدُل على أنه سيقيم الأمن والسلام على مستوى العالم، وهي أن آمنة لم تحس شيئًا من الثقل والوحم کسائر النساء حين حملته في رحمها؛ تقول آمنة: “ما شعرت بأني حملتُ به، ولا وجدتُ له ثقلاً، ولا وحمًا کما تجد النساء“[13].
2- مثال العدل في الرضاعة: العدل لا بُدَّ منه؛ إذ إنه ضروري لإقامة الأمن، وقد وجدنا فيه هذه الصفة في حجر أمِّه من الرضاعة، بأنَّه كان يشرب اللبن من الثدي اليماني، وكان اليسار لأخيه الرضاعي، فذات مرَّة عرضت له حليمة ثديًا كان يشرب منه أخوه الرضاعي، فامتنع أن يشرب منه.
فوجَّهه بعضُ العلماء: أنه ما كان لمن يقيم الأمن العالمي أن يضيِّع حقَّ أخيه بشرب اللبن فقط، كما ذكر في حاشية ابن هشام أن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – كان لا يُقبل إلاّ على ثديٍ واحدٍ، وكانت تعرض عليه الثدي الآخر، فيأباه كأنه قد شعر – عليه الصَّلاة والسَّلام – أنَّ معه شريكًا في لبنها، وكان مفطورًا على العدل، مجبولاً على المشاركة والفضل[14].
ودوره – صلَّى الله عليه وسلَّم – بعد البلوغ فيما يأتي:
إنَّه التزم ببرامج موافقة للحال والمقام لإقامة الأمن والسلام على مستوى الأرض، فنذکرها في الذيل مفصّلاً:
1- المشاركة في تأسيس “حلف الفضول“: إنَّه کان حزينًا ومفكرًا في أنه کيف تُحْفَظ الإنسانية من هذا الخوف والاضطراب الدائم، وفي هذه البُرهة حدثت “واقعة الفضول”، فأحسَّ زعماؤهم بصلح بال المجتمع، وأقاموا لجنةً يُصْلَح بها بالُ المجتمع، ويحصل الأمنُ في كل مكان حتى الطريق، وتحفظ بها دماء المسافرين وأموالهم، وتسمَّى بـ”حلف الفضول”، وكان رسولنا الأمين قد أسهم في وضع أساسها، كما قال بنفسه – صلى الله عليه وسلم – عنه: ((لقد شهدتُ في دار عبدالله بن جدعان حلفًا ما أحب أنَّ لي به حمر النعم ولو أُدْعَى به في الإسلام لأجبتُ))[15].
واتَّفق أركانُ الحلف على البنود التالية:
1- نجهد لإبعاد الاضطراب من المجتمع بقدر القوة.
2- نتأكد بحفظ دماء المسافرين وأموالهم.
3- لا نألو جهدًا في نصرة اليتامى والضعفاء.
4- نقيم علاقةَ الصداقة بين القبائل.
5- نحفظ الناس من الظلم والظالمين.
وغيرها من الفقرات التي تأكدت بحفظ حقوق أفراد المجتمع، كما قيل عن أهداف هذا الخلف:
6- إنّه للدفاع عن المظلومين.
7- رفض كلّ صُور الظلم.
8- منع أكل الحقوق بالباطل.
9- كما أنه حكم عدل في فضِّ النِّزاعات والمشكلات التي تحدث بين القبائل والعائلات، وهو الذي ما أُسِّس إلا لنصرة المظلوم، ونشر العدل بين الناس[16].
وفي عصرنا يعاهد أرکان لجنة knighthood order (فارس النظام) على مثل هذه البنود التي أسهم النبي – صلى الله عليه وسلم – في وضع أساسها لقيام الأمن والسلام قبل ألف وأربعمائة عام[17].
10- الصدُّ عن الحرب الناشئة بکلمة الأمن:
– العرب قوم كانوا يحاربون لأمر تافهٍ؛ كسقي الغنم، وسباق الخيل مثلاً، فوقعت حادثة من أمثال هذه الحوادث حين بلغ – صلى الله عليه وسلم – خمسةً وثلاثين عامًا من عُمره، والتفصيل بأنَّهم أرادوا تجديدَ بناء الکعبة، فاخْتلفوا في تنصيبِ الحجر الأسود وإن شاركوا في البناء على السواء، أخيرًا قضى مربِّيهم (أبو أمية بن المغيرة المخزومي) بعد أربعة أيام بأن يَحْكم بيننا رجل يدخل غدًا بباب المسجد أوَّلاً، ويكون حُکمُه حُکمُ الإطاعة والقبول، فاتَّفق الجميع على هذه المشاورة الثمينة، فرأوا اليوم الثاني محمَّدًا نبيَّنا الأمين سبق إلى الدخول من ذلك الباب، وهم يقولون بأعلى صوتهم: هذا الأمين رضيناه، فما حَکَمَ النبيُّ في ذلك الحين مثالٌ نادرٌ في إقامة الأمن والسلام.
وبيانُه ما رُوِيَ بأنَّه – صلى الله عليه وسلم – طلب رداءً، فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حل حكيم من رجل حكيم تراضت قريش بحكمه.
ولقد راح المفكرون والعلماء يعلقون على هذا الحادث بتعليقات مليئة بالتقدير والإعجاب لهذه الشُّعلة العبقرية، التي تحاول في حرص شديد دائم تَحقيقَ الأمن والسلم بين الناس، ومن نجاح محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – تفهُّمُ الموقفِ بسرعة عظيمة، والتوسُّل بهذه الحيلة البريئة، وإرضاء زعماء قريش جميعًا[18].
هذا كلُّه قبل البعثة، وبعدها توسَّعت هذه السلسلة المذكورة في السطور الآتية؛ لأنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – رتَّبها بعدها مجتمعين؛ لذا أظن أن نبيِّن حقيقةً وسَّع بها الأمن والسلام.
تكوين أفراد المجتمع حقيقة إقامة الأمن والسلام:
من المعلوم أنَّه لا يُمکن أن يرى المرءُ وجهَ الفلاح لعمل التجديد في الدُّنيا لو سعى فردًا، بل ينبغي له أن يَجتهد ويسعى مجتمعًا، هذه الضابطة جاريةٌ ومقبولةٌ عند الناس، فمن فرَّقوا بين الإفراد والاجتماع وقعوا في الخداع، ولو كانوا أولي بأسٍ شديدٍ، والحقيقة أنه لا يتصور أحدٌ من دون الآخر، وتظهر قوة الأفراد إذا كانوا مجتمعين، مع أنه لا ينكر أيضًا أن القوم السخفاء عديمي القيمة لا يفلحون أبدًا، فبقي الكلام على أنَّ بناءَ المجتمع موقوفٌ على بناء الأفراد، والنبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فَهِم هذه الحقيقة، فنظر إلى أفراد المجتمع قبل أن يُلقي يده في ظرف المجتمع.
البرنامج الأصلي خلال هذا العمل:
فجَدَّ وبَذَلَ جُهدَه أوَّلاً في تكوين أفراد المجتمع إنسانًا حقيقيًّا الذي توقف عليه إقامة المجتمع الإنساني المثالي، وإن ننظر إلى بنوده وفقراته التي جَدَّد بها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – المجتمع، فنجد ثُلُثَه برامجَ أساسية، وهي: 1- التوحيد 2- الرسالة 3- الإيمان بالرُّجوع إلى الله والمسؤولية عن هذه الدار الفانية، فتقدم النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – بهؤلاء الناس المذکورين، وبلغ أقصى المنازل في عشر سنوات فحسب، حتى لم يُسمع بمثله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في التاريخ، ولم تقع عليه عَيْنُ السماء، ولم تطلع عليه الشمس، فلا يَجيء أحدٌ بمثله في مجالات الحياة كلِّها، لا سِيَّما في إقامة الأمن العالمي، فمن إسهاماته بعد البعثة:
1- ميثاقُ المدينة خطوة أخرى لإقامة الأمن والسلام، مما أخذ لإقامة الأمن والسلام على مستوى الأرض ميثاقُ المدينة الذي يَجدُر ذكرُه، فمن بعض المواثيق في الذيل:
كانت تعيش أفراد مختلفة نَسَبًا ومِلَّةً ومذهبًا، وکان قوم اليهود أقوى بالنظر إلى غيرهم، وهم يعيشون في الحصن منفردين، فأَخْذُه – صلَّى الله عليه وسلَّم – الميثاقَ منهم ومن الأقوام المختلفة في المدينة – يَشهدُ بذکائه – صلى الله عليه وسلم – لکي يحصل الاتفاق الجنسي، ولو کانوا مختلفي الأديان والنَّسَب[19]، يُسمَّى هذا بـ”ميثاق المدينة”، ويعرف في العالم بـ“charter of madina”، وكان فيه سبعة وأربعون أو اثنان وخمسون بندًا، منها:
1- الاجتماع على خلافِ الظلم والظالم، 2- النصر للضعفاء، 3- القتل والقتال حرام کحرمة الزنا، 4- النُّصرة للمظلومين، 5- التزام كلِّ سكَّان المدينة من المسلمين واليهود بالمعايشة السلمية فيما بينهما، وعدم اعتداء أيِّ فريق منهما على الآخر، 6- الدفاع المشترك عن المدينة ضدَّ أيِّ اعتداء خارجي على المدينة، 7- وإنَّ بينهم النَّصْر على مَن حارب أهلَ هذه الصَّحيفة، 8-وإنه لا تُجَار قريش ولا مَن نَصَرها.
وغيرها من البنود التي تقيم الأمن والسلام فقط في المجتمع، وثمة نص واضح وصريح في الوثيقة يتعلق بالأمن، كان بين بنودها العامة: “من خرج آمِن، ومن قعد بالمدينة آمن، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جارٌ لمن برَّ واتقى، ومحمد رسول الله“.
وبتفعيل هذه الشُّروط في العهد النبوي، تَحَقَّق الأمنُ لجميع المسلمين وغير المسلمين، في خروجهم وبقائهم من غير ظلم ولا إثم[20].
ولتوسيع منطقة الأمن والسلام عاهد النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قبائل أخرى في المستقبل بمثل هذه المعاهدة[21].
2- سحر مصالحة الحديبية في إقامة الأمن والسلام:
وإنَّما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قاتل وجاهد بالسيف لإقامة الأمن والسلام وإقلاع الظُّلم من المجتمع، ودلَّ عليه عمله – صلى الله عليه وسلم – بأنَّه مهما عرضت له معركة، ينتطر لمصالحة، فإن يأتوا بالصُّلح يقدّمه على المعركة بهم، وإلاَّ اضْطُرَّ إلى الجهاد، مصالحة الحديبية نظيره اللامع، التي تسمى غزوة الأمن.
وکان فيه بنود تخالف مصالِحَ المسلمين، لکن قبلها – صلى الله عليه وسلم – بغرض الأمن فقط؛ لأنَّه – صلى الله عليه وسلم – يعلم أن في الأمن فتحًا؛ لذا سمَّى الله – تعالى – هذه المصالحة الأمنيَّة بـ “فتح مبين”؛ قال – جلَّ وعلا -: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1].
3- حامل لواء الأمن في فتح مكَّة:
حصل الفتح الأصلي بفتح مكَّة، وغلب الحقُّ والأمن وهُزِم الباطل والخوف، ففي ذلك اليوم لم يبادلهم ظلمًا بظلم، ولا إرهابًا بإرهاب، بل أحسن إلى الأعداء، وعفا عنهم، واسْتَغْفَر لهم من قصورهم وتعدِّياتهم، فأمر جنوده قبل أن يدخلوا مكّة بـ:
1- ألاَّ تقتلوا من ألقى أسلحته، 2- ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، 3-ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، 4- ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، 5-ولا تتعرضوا إلى من أراد الفرار[22]؛ لذا منحه الله – تعالى – هذا الفتح العظيم بلا قتل وقتال، بل في حالة الأمن.
وذلك اليوم کان الناس خائفين حين تمّ النصر والفتح، عندما اجتمعوا إليه قرب الكعبة ينتظرون حكمه فيهم، فأعلن العفو العام، وذکَّرهم بأنه بعث لإقامة الأمن بالعفو والصفح، فقال الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما تظنون أنِّي فاعل بكم؟))، فقالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))[23]، وأعاد قول يوسف – عليه السَّلام -: ((لا تثريب عليکم اليوم))[24].
فعلى الإجمال: إنَّ هذا الفتح فتح لأهل مكة بابَ الأمان واسعًا، ومِنْ هذا الباب دخل الناس في دين الله أفواجًا.
قال المؤرِّخ غيبن عن فتح مكة:
in the long long history of the world there is no instance of magnanimity and forgiveness which can approach those of Muhammad (s.) when all his enemies lay at his feet and he forgave them one and all. –
2- کلمة الأمن في حجة الوداع، فأعلن نظام قيام الأمن العالمي بعد سنتين من فتح مكة، فقال خطيبًا في حجة الوداع: ((إنَّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألاَ كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإنَّ أولَ دم أضع من دمائنا دمُ ابن ربيعة بن الحارث – وكان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هُذَيْل – وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله))[25].
وذلك اليوم ترك لسائر الناس أمرين للهداية إلى الأمن في الدنيا وإلى دار السلام في الآخرة، وهما القرآن والحديث.
3- محمد في الکتب السماوية وعند الحکماء مقيمٌ للأمن والسلام:
جاء في الإنجيل: سيجيء رسول من الله إلى الناس كافَّة، يدعوهم إلى أن يعبدوا الله وحده سبحانه، آنذاك يسجد الناس لربِّهم، فيعيشون في الأمن والسلام[26].
شهادة بحيرة: إنه قال حين رآه – صلى الله عليه وسلم -: هذا سيِّد العالمين! هذا رسول ربُّ العالمين! هذا يبعثه الله رحمة للعالمين[27].
قال جان ليك: لا يستطيع أحدٌ أن يبيِّن عنه، كما يحدّث الله عنه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].[28]
أخيرًا أقول: إنَّ عالَمَ اليوم كلَّه مضطرب لشريحةٍ من الأمن، وهائم لنيل قبضة من السلام، لكن زعماءه عاجزون عن دركه ونيله، فمن الناس من أسَّس أُسُسًا مُحكمةً متنوِّعةً، وأقام لجنةً مختلفةً لإقامة الأمن، حتَّى إنَّ زعماء العالم الثالث التزموا أن يمنحوا الجوائز في قسم الأمن من الأقسام الستَّة الأخرى، لكنَّهم لم يروا وجه الأمن إلى الآن، ولا شكَّ إنْ لم يُعَدِّلوا بَرامِجَ لَجنتهم ولم يُصَحِّحوا نيَّتهم، فإلى القيامة لن ينالوا قليلاً من الأمن، ولن يصلوا إلى إحدى جوانبه مع صرف أموالهم وبذل جهودهم.
نعم، رَسَمَ لهؤلاء الزُّعماء طريقًا إنْ يسلكوا فيه يفوزوا في نتيجتهم ويصلوا إلى منزلهم مع أنهم كافرون؛ لأنه – عزَّ وجلَّ – أطلق في وصفه – صلى الله عليه وسلم – فقال سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
والطريق هي أسوة الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال سبحانه وتعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21].
هذا بلاغٌ من العبد الضَّعيف إلى العالم كلِّه القوي، فالاقتصار على سطور مذكورة فحسْب بضعفي، نعم! إنها تسوق العالم إلى لمحة فكريّة بعون الله، فلا يستغنون عنه – صلى الله عليه وسلم – بل يمكن أن يستفيدوا في المجالات الدنيويَّة كلِّها حتى في قسم الاقتصاد، والسياسة، والرابطة العالمية، وغيرها من الأقسام الأخرى، وقصارى القول: إنَّ ما ينشأ إلى الأيَّام الموعودة من مجالات الحياة الدنيويَّة إلا وهو أسوة فيها للنَّاس كافَّة؛ لأنَّ مع القرآن تبقى هذه الآية: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21] إلى القيامة.
أسأل الله التوفيق على العمل بما يحبُّ ويرضى، وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد وآله وأصحابه أجمعين.
[1] لسان العرب لابن منظور (13/21)، القاموس المحيط للفيروز آبادي (1/1518)، المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص(90)
[2] التعريفات للجرجاني ص (55)، المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص (90).
[3] أثر تعليم القرآن الكريم في حفظ الأمن، د. عبدالقادر الخطيب، ص6.
[4] نضرة النعيم، 2273.
[5] نضرة النعيم، 2273.
[6] التعريفات، 159.
[7] أثر تعليم القرآن الكريم في حفظ الأمن، د. عبدالقادر الخطيب، ص 7-8.
[8] المسلم، ج1 ص49.
[9] البخاري، ج1 ص13، المسلم، ج1 ص 48.
[10] المسلم، ج1 ص49.
[11] شعب الإيمان، ج6 ص43.
[12]http://www.fanfiction.net/s/6613706/1/Morning_Shows_the_Day.
[13] السيرة الحلبية، ج1 ص 75.
[14] حاشية ابن هشام (1/188),http://www.islamprophet.ws/ref/224
[15] الرحيق المختوم، 44.
[16] نبي الرحمة، 5, 120.
[17] رحمة للعالمين، 120.
[18] الأخلاق النبوية في الصراعات السياسية والعسكرية، 13.
[19] رحمة للعالمين،120.
[20] الأمن في حياة الناس وأهميته في الإسلام، 17.
[21] الرحيق المختوم، 145.
[22] رحمة للعالمين، ج1ص378.
[23] الأمن في حياة الناس وأهميته في الإسلام، 18.
[24] زاد المعاد، ج3ص408.
[25] رحمة للعالمين.
[26] The Gospel of Barnabas:- 82 : 16 – 18 .
[27] وسيرة ابن حبان، 58، محمد بن يوسف الصالحي، سبل الهدى والرشاد 2/140.
[28] Jean Lake “the Arabs, p. 43 .