الحج والوحدة المنشودة

الحج والوحدة المنشودة social.alriyadh.com
الحج والوحدة المنشودة
social.alriyadh.com

الثلاثاء،13ذوالحجة1435ه الموافق 7أكتوبر/تشرين الأول وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
مالك إبراهيم بابكر
الحج ووحدة المسلمين
قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 27-29].
تعيش الأمة الإسلامية نفحات أيام تلك الفريضة الربانية (الحج)، التي فرضها الله لعباده في أشهر معلومات، وزمن معلوم، ومكان محدود هو (عرفات) والمناسك الأخرى.. تلك المناسك المباركة والبقعة الطاهرة التي تهوي إليها النفوس، وتتهافت إليها القلوب، وتسير إليها الركبان فرادى وجماعات يأتون من كل فج عميق؛ استجابة لنداء الملك العلام {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]؛ ليتنعموا بلحظات التجلي العظيم لله على عباده، ويعيشوا أيامًا مباركات؛ قيامًا وسجودًا، تهليلاً وتكبيرًا، ذكرًا وتلبيةً: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، رافعين بذلك شعار العبودية الخالصة لله تعالى، مجسدين معاني الوحدة والأخوة الإيمانية بينهم، التي لا تكاد توجد في أي تجمع من تجمعات الكتل البشرية في هذه الأرض.. لا رفث يسمع منهم، ولا فسوق عندهم، ولا جدال يقع بينهم؛ الكل هناك سواسي كأسنان المشط؛ لا رئيس ولا مرءوس، ولا مالك ولا مملوك، لا غني ولا فقير؛ كلهم عباد الله إخوانًا، تجمعهم لغة التوحيد، يعملون عمل رجل واحد، في وقت واحد، وكأنك عندما تتحسس مشاعرهم وتقرأ في وجوههم معاني الإيمان الحقيقي تقسم أنهم في دنيا أخرى غير دنيانا الفانية.
أجل؛ إنه الحج ونفحاته الإيمانية التي تنقل الإنسان من الإنسانية التي لا معنى لها إلى معنى الربانية الحقة بكل جوارحه وقلبه وكيانه، والذي يدهشك أكثر -عندما تراهم وتنقلك أفعالهم إلى عالم عباد الله الذين أسلموا وجوههم لله حقًّا- هو ذلك الخضوع التام، والاستسلام الكامل في فعل كافة شعائر الحج ومناسكه، الكل منهم -والله حسيبهم- يؤديها بيقين وإيمان، ويسعى لها طائعًا مطمئنًا؛ ليس إلا لأنها منسك من مناسك الحج الذي أمر به الله، وهداهم إليه نبي الأمة -عليه الصلاة والسلام- قائلاً: “خذوا عني مناسككم”. وهنا يشدني ويحضرني ذلك الاستسلام التام من فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب ، حيث قال عن الحجر الأسود: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك).
إن فريضة الحج، وتلك الدروس والعبر المستوحاة منها تنبئك بحكمة عظيمة -والله أعلم- تظهر لعباد الله من فرض هذه الفريضة في زمن معلوم، ووقت محدود، ومكان واحد؛ ليكون أكبر تجمع يمثل الوحدة الإسلامية على مختلف شعوبها واختلاف لغاتهم، وليكون المؤتمر السنوي للأمة الإسلامية؛ تلتقي فيه الأفئدة والقلوب، وتذوب فيه كافة أشكال النعرات العنصرية بين آحاد الأمة الإسلامية، ويتساوى فيه الناس جميعًا؛ فيذكرهم بيوم الحشر والنشر بين يدي الله تعالى، فيجددّون فيه العهد مع الله؛ تراهم هناك كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
فالوحدة بين أفراد الأمة نرى معناها في الحج جليًّا كوضوح الشمس؛ وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، ووحدة في الهدف، ووحدة في القول والعمل؛ لا إقليمية، ولا عنصرية، ولا عصبية للون، أو جنس، أو طبقة بعينها؛ كما هو مرفوض في الإسلام: “إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى”.
تلك هي المعاني والقيم، والدروس والحكم المستقاة من تلك الفريضة؛ فالحج هو التجمع العالمي الوحيد الذي يجسد معنى الوحدة والمساواة بين الناس، تجمع لا مثيل له.. ويمثلها واقعًا يعيشونه بينهم، لا نظير له في كافة التجمعات البشرية والمؤتمرات العالمية بمختلف أشكالها وأنواعها وأهدافها.
كيف لا يكون ذلك وهو التجمع الوحيد الذي هدفه الأول عبادة الله حقًّا، وأداء المناسك والشعائر التي تعبر عن تقوى المؤمن لله تعالى، وشهود المنفعة الدنيوية للأمة.
وفيه يوم عرفة.. ذلك اليوم المشهود، الذي تلتقي فيه نفحات السماء بالأرض، وتتساوى فيه الرءوس، وتنبذ فيه كل أنواع الشرك والكبرياء؛ فلا تقديس ولا تعظيم ولا تبجيل إلا لله الواحد الأحد I.. إنه اليوم الذي أكمل الله فيه لهذه الأمة أمرها؛ ورضي لها الإسلام دينًا؛ فلا تبديل ولا تحريف لكلمات الله، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].
إنه يوم أبان فيه الرسول لهذه الأمة مناسكها، وحرم فيه الدماء والأموال إلا بالحق، وبيَّن فيه مضامين صون الحقوق والأعراض، وأعلن فيه المساواة بين البشرية (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وأقر فيه حقوق الإنسان وكرامته قبل أن يعرفها الغرب المفتري وأعوانه الذين يجهلون التاريخ عنوة وتكبرًا، ويكيدون العداء للإسلام حسدًا وتحسرًا.
ولكن تأتي فريضة الحج والآيات المنزلة فيه لتقطع عليهم الطريق؛ فلا ينالون من هذا الدين الإسلامي طالما أن الأمة تتمسك بمنهجه القويم، وتقيم شعائره بإخلاص وإيمان؛ فيعلنها الرسول مدوية بحق عبر الوحي القرآني {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 3].. يقول أحد النصارى عن مدى جدوى التنصير في البلاد الإسلامية: (سيظل الإسلام صخرة عاتية تتحطم عليها سفن التنصير النصرانية ما دام للإسلام هذه الدعائم: القرآن، واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحج السنوي).
نعم.. إنها شهادة الأعداء بعد أن يئسوا من ذلك الدين، وسيظل الإسلام هكذا، صخرة عاتية تتحطم عليها كل سفن الكفر والإلحاد، وما تحمله من مؤامرات ودسائس لهذا الدين الحنيف، رغم أنف الأعداء؛ بفضل منهجه القويم، وشرائعه الربانية التي أكملها الله لعباده يوم الحج الأكبر؛ يوم عرفة، الذي يجب على الأمة الإسلامية أن تتذكر فيه تلك النعم، والعناية الربانية لها، بأن أنعم الله عليها بالإسلام، وارتضاه لها ربنا، وحفظه من التبديل والتحريف، فيعملوا جاهدين على توحيد الأمة الإسلامية، وجعله واقعاً معاشاً بينهم في كافة نواحي الحياة.
فوحدة الأمة منهج رباني، وهدي نبوي، جاء به الإسلام، وأرساه قيمًا، وسلوكًا، وعملاً، وعبادة في كافة نواحي الحياة؛ فما من عبادة، أو خلق إسلامي، أو أمر دنيوي إلا وتجد فيه الدعوة إلى الوحدة، والتوحيد، وتجسيد روح الترابط، والمساواة بين الأمة.
فهلاّ استقرأنا تلك المعاني والحكم من هذه الفريضة (الحج)، واستوعبنا تلك المواعظ والعبر، واستجبنا لنداء الملك العلام القائل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– قصة الإسلام

اقرأ أيضا  على القلوب أقفالها حتى يفتحها الله
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.